الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

سياسة

نجوم التنوير| محمد أحمد خلف الله.. والعودة إلى القرآن

 صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لقد درس الفقهاء القرآن، ودرس اللغويون القرآن، ودرس البلاغيون القرآن، ودرس الفلاسفة وعلماء الكلام القرآن، ولكن الأدباء لم يقوموا بهذه الدراسة، على الرغم من أن القرآن الكريم معجزة أدبية في المقام الأول.
محمد أحمد خلف الله أديب مصري وعالم باللغة العربية، تخرج في مدرسة دار العلوم العليا ١٦٢٨، ثم درس الفلسفة وعلم النفس بجامعة لندن، وعاد إلى مصر ليشتغل بالتعليم، وتدرج في المناصب الجامعية حتى صار رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية ١٩٤٧، فعميدًا للكلية ١٩٥١ ثم وكيلًا لجامعة عين شمس ١٩١٦، وبعد بلوغه سن التقاعد عُين مديرًا لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، وكان عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، عرف في شبابه بنظم الشعر الجيد، والبراعة في الخطابة، وعمل وكيلًا لوزارة الثقافة المصريّة، وله مؤلفات وبحوث عديدة، نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب ١٩٧٠، ومن مؤسسي حزب التجمع، وكان نائبًا لرئيس الحزب، ورئيس تحرير مجلة "اليقظة العربية" التى كانت تصدر عن الحزب، ومن مؤلفاته "القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة"، مكتبة الأنجلو المصرية ١٩٦٧، "دراسات في النظم والتشريعات الإسلامية"، مكتبة الأنجلو المصرية ١٩٧٧، "علي مبارك وآثاره"، "الكواكبي.. حياته وأثاره"، "صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني في الرواية"، و"السيد عبد الله نديم، ومذكراته السياسية".
برز اسم محمد أحمد خلف الله عام ١٩٤٧ إثر مناقشة رسالته للدكتوراه عن "الفنّ القصصي في القرآن الكريم" تحت إشراف أستاذه في التفسير بجامعة فؤاد الأوّل، القاهرة حاليًّا، أمين الخولي، حيث أثارت هذه الرسالة ردود فعل عديدة رافضة لما جاء فيها وصلت حدّ التكفير، إذ اعتبرت ما أتى به خلف الله تقويضًا لقداسة النص القرآني ونزعًا لصبغته الإلهيّة، وقد بلغ الأمر إلى درجة تكوين لجنة خاصة أعادت النظر في محتوى الرسالة وانتهت برفضها ومطالبة صاحبها بإعداد رسالة أخرى.
وجرى تحويل صاحب الرسالة إلى عمل إدارى، وحرمان واحد بقيمة عظيمة في تاريخ الفكر الإسلامي المستنير هو الشيخ أمين الخولى المشرف على الرسالة من تدريس «علوم القرآن» أو الإشراف على رسائل تتصل بالقرآن.. واستند قرار الجامعة في معاقبة الأستاذ على أن قرار تعيينه بدرجة أستاذ في ٦ أكتوبر ١٩٤٦ كان تخصيصا لكرسى «الأدب المصرى».. ويقال إن معاقبة المشرف كان استجابة لاستجواب قدمه عضو في البرلمان لوزير المعارف عن مصير الأستاذ الذى أشرف على هذه الرسالة.
انشغل الرأي العام المصري بمثقفيه وسياسيه وصحافته وجامعته وأزهره وأحزابه بهذه القضية التى عكست صراع «المقلدين» و«المجددين» في الجامعة وخارجها.. يروى «خلف الله» باختصار بداية قصته التى قادته إلى ما حدث معه في هذه الأزمة.. ويذكر في كتابه «مفاهيم قرآنية»، سلسلة «عالم المعرفة»: "علاقتى بالموضوع تبدأ في الثلاثينيات من القرن الماضى، عندما كنت طالبا بقسم اللغة العربية بجامعة القاهرة - الجامعة المصرية يومذاك، قائلا: «كانت هناك مادة دراسية هى الدراسات القرآنية، وكان الذى يقوم بتدريس هذه المادة الأستاذ الشيخ أمين الخولى، كان ينهج منهجا جديدا في الدراسات القرآنية التى تليق بكلية الآداب التى كان يجب أن تقوم على أساس من دراسة القرآن دراسة أدبية، كان يقول: لقد درس الفقهاء القرآن، ودرس اللغويون القرآن، ودرس البلاغيون القرآن، ودرس الفلاسفة وعلماء الكلام القرآن، ولكن الأدباء لم يقوموا بهذه الدراسة، على الرغم من أن القرآن الكريم معجزة أدبية في المقام الأول، وكان يقول: إن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وضع حجر الأساس لهذه الدراسة".
يتذكر خلف الله: «كنت أسمع هذه الكلمات فتمتلئ نفسى بها، وكنت أشعر شعورا داخليا قويا بأننى من دون زملائى الراغب في هذه الدراسة والقادر عليها.. كنا ندور في محيط المفاهيم القرآنية، وماذا أبقاه القرآن الكريم على حاله؟ وماذا أخرجه وأعطاه معنى مجازيا أو معنى دينيا؟.. كان هذا العمل يستلزم التعرف على استخدامات الألفاظ في القرآن الكريم كله وإلا جاء ناقصا.. كنت شغوفا بهذه العملية، وكنت من المتقنين لها، وكنت أعد نفسى لمتابعة الدراسة في هذا الميدان، ووقع ما كنت أحدث نفسى بها، فلم أكد أتخرج حتى التحقت بالدراسات العليا، وتخصصت في الدراسات القرآنية بالذات، كان موضوع دراستى الأولى لنيل درجة الماجستير هو جدل القرآن، وهو الكتاب الذى نشرته فيما بعد تحت اسم "محمد والقوى المضادة"، من حيث إن هذه القوى المضادة هى التى كانت تثير الجدل حول محمد، عليه السلام، وحول القرآن الكريم، وكان موضوع رسالتى الثانية لنيل درجة الدكتوراة "الفن القصصى في القرآن الكريم".. وكنت أول من اقتحم ميدان الدراسات القرآنية من بين طلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب".
إلاّ أنّ محمّد أحمد خلف الله لم يرضخ للحملة التي قامت ضدّه وضدّ أستاذه، وقام بنشر رسالته سنة ١٩٥٣ لتتوالى من ثمّ طبعاتها مرّات عدّة. ومحمّد أحمد خلف الله من تلاميذ الأزهر وكلية الآداب بالقاهرة حيث حصل على الإجازة سنة ١٩٣٩، وقد تخصّص في الدراسات القرآنيّة وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراة، ومن أبرز أساتذته نذكر طه حسين ومصطفى عبد الرازق وأحمد أمين، فضلًا عن المشرف على أطروحته الشيخ أمين الخولي، الذي وجّهه نحو الاهتمام بالجانب اللغوي والبياني في بحثه مع الاستفادة من علمي الاجتماع والنفس، ومن مؤلّفات محمّد أحمد خلف الله نذكر: "القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة"، و"القرآن والدولة"، و"القرآن والثورة الثقافيّة"، و"هكذا يبنى الإسلام"، و"محمّد والقوى المضادة" وهو في الأصل نصّ رسالته لنيل درجة الماجستير، وكان عنوانها الأصلي "جدل القرآن"، و"الأسس القرآنيّة للتقدّم"، و"مفاهيم قرآنيّة"، وغيرها من المؤلفات.
القرآن والدولة
شهدت السبعينيات مدًّا سلفيًّا برزت معه خطابات توفيقيّة، انطلقت في الغالب من مثقّفين وأكاديميين لا ارتباط لهم بالمؤسسات الدّينيّة، وهذه الحالة يمكن أن تشمل عدّة مفكّرين منهم محمد أحمد خلف الله وعبد الحميد متولّي صاحب كتابي "أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث" (ط ٢، ١٩٧٥) و"مبادئ نظام الحكم في الإسلام" (١٩٧٨)، وهنا نعرض رؤية محمد أحمد خلف الله التوفيقية التي عرضها في كتابه " القرآن والدولة " والذي صدر في طبعته الأولى سنة ١٩٧٣، وطبعته الثانية ١٩٨١.
ألّف "خلف الله" كتابه هذا للدّافع نفسه الذي جعل بعض حكّام العرب يلجؤون إلى السلفيّة فيعتمدون على مبادئ الشريعة الإسلاميّة في إصدار النظم الحديثة في مجال السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع، إنّ هذا الدّافع هو الحيرة العربيّة أمام الإيديولوجيّتين المسيطرتين على العالم زمن تأليف الكتاب: الرّأسماليّة في الغرب الأوروبي وأمريكا، والشيوعية في الشرق الروسي والصيني، إنّ هذه الحيرة قد دفعت خلف الله للعودة إلى النص التأسيسي المقدّس، ليستلهم منه الصيغة القرآنيّة الخاصّة بالدولة، وقد أوضح أنّ هذه الصّيغة القرآنيّة تستخلص منها نتيجتين:
أوّلا: إنّ القرآن الكريم لم يضع إلاّ الخطوط الرئيسة الكبرى التي توجّه الإنسان إلى الحق والعدل.
ثانيا: إنّ القرآن قد ترك للإنسان التفصيلات وكلّ ما يتأثّر بالزّمان والمكان.
وهاتان الحقيقتان اللتان خلص إليهما خلف الله بعد بحثه جعل من توضحيهما وإبراز آثارهما مقصده الرئيس في الكتاب.
إنّ اعتبار أحد الباحثين أنّ خلف الله يمثّل التيّار الإنساني في بحثه في قضيّة الدولة، قد يعود إلى ما لم ينفكّ خلف الله يكرّره في كتاباته من أنّ البحث في قضيّة الدولة من اختصاص الإنسان وأنّ هذا البحث متطوّر ومتغيّر وخاضع للتاريخ على عكس من يعتبر أنّ البحث قد انتهى على ما قرّره القدامى من صيغ وشروط.
وهكذا عمد خلف الله إلى إعادة النظر في عدّة مفاهيم وألفاظ،  فنفى أن تكون سلطة الحاكم إلهيّةً، وسمح للإنسان بحق التشريع في غير المسائل الدينيّة التي وقع النصّ عليها بوضوح، وبذلك فصل بين سلطة إلهية لها حقّ التشريع الديني وسلطة بشريّة لها حقّ التشريع المدني لمسائل السياسة والحرب والاقتصاد والإدارة. كما قدّم خلف الله مقترحًا إجرائيًّا عمليًّا لحلّ إشكاليّة اختيار أعضاء الهيئة التشريعيّة غايته الجمع بين قاعدة اختيار أولي الأمر القديمة وقاعدة الانتخابات العامّة الحديثة.
إنّ هذا الحلّ التوفيقي سيتقهقر في أحيان كثيرة أمام حلول حديثة ومواقف جريئة يتخذها خلف الله، مثل تجويزه تعطيل النصّ في سبيل الصالح العام، واعتباره المواصفات الخاصة بدعاة التنظيم السياسي (الحزب) وشروط المرشّح لرئاسة الدولة ملائمةً لعصر الذين اجتهدوا فيها وأنّ من حقّنا أن نجتهد كما اجتهدوا، وهو بذلك يفتح أبواب الاجتهاد الموصدة على المكتسبات التي دعا علي عبد الرازق إلى بناء حياتنا على أساسها في كتابه "الإسلام وأصول الحكم": إنّها النظم والأفكار الحديثة.
ومن نتائج تحليلات خلف الله في كتابه هذا، أنّ القرآن الكريم لم يستخدم ولو مرّة واحدة أيّ مفهوم سياسي مماثل لما نعرفه اليوم في استخدامنا لكلمات الحكم والحكومة والحاكم، لقد ثبت القرآن عند استخدامه للكلمات المشتقّة من الجذر اللغوي (حـ كـ م) على معنى واحد لا غير، هو القضاء بمعنى الفصل في المنازعات والخصومات وكلّ ما يقع من خلاف بين الناس،
أمّا ثاني النتائج التي يستخلصها خلف الله، فهي أنّ شعار الحاكميّة لله حين يكون مصدره أمثال الآيات القرآنيّة "ومن لم يحكم بما أنزل الله" فليس يصحّ أبدًا أن تكون هذه الحاكميّة مقصودًا منها السلطة التي تحكم وتدير شئون المجتمع ما دامت كلمة الحكم في مثل هذه الآيات لم يقصد منها معنى السلطة هذه لا من قريب ولا من بعيد.
ويشدّد خلف الله على وجوب أن يكون معنى الحاكميّة لله مستمدًّا من المفهوم القرآني لمادّة حكم ومشتقاتها حسب الاستخدامات القرآنيّة لهذا المفهوم أي القضاء والفصل في الخلافات والخصومات والمنازعات.
وتتمثل النتيجة الثالثة في أنّ القرآن الكريم عند حديثه عن الحكم بمعنى الفصل في الخصومات لم يجعل السلطة للحاكم بمعنى القاضي، وإنّما جعلها للتشريع الذي يحكم به القاضي، وهو في الحقيقة صادر عن الله، وما يمكن أن يبنى على هذا فيما يخصّ الإسلام أنّه دين وتشريع أو عقيدة وشريعة، ومن هذا المنطلق لا يصحّ أن يقال: الإسلام دين ودولة.
ورابع نتيجة هي أنّ الحاكم بمعنى القاضي أو الحكم لم يكن وقفًا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنّما كان يمتدّ إلى غيره من كلّ من يتحاكم الناس إليهم، وهذا إنّما يعني أنّ محمّدًا عليه السلام كان أحد الحكّام ولم يكن رئيسًا لهم، أي أنّه لم يكن رئيس دولة أو حكومة لا بالمعنى القديم ولا بالمعنى الحديث، (هذه النتيجة وصل إليها علي عبد الرازق قبله).
أمّا النتيجة الأخيرة، فهي تتمثّل في أنّ النبي لم يحكم الناس بمعنى قهرهم إلى حيث يريد وتوجيههم في الحياة حسب ما يريدون على الرغم منهم، لقد بعث الله محمدًا رسولًا ولم يبعثه حاكمًا أو رئيس دولة، ولو اقتضت حكمة الله أن يكون محمد رئيس دولة لكانت الصيغة القرآنيّة فاحكمهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم، وفي لهجة تقريريّة يقول: “يجب أن نفرّق دائمًا بين صيغة محمد يحكم الناس وصيغة محمد يحكم بين الناس، الصيغة الأولى هي التي تصلح لرئيس الدولة، أمّا الصيغة الثانية، فهي التي تصلح للقاضي والحكم وكلّ عبارات القرآن الكريم وردت في الصيغة الثانية الحكم بين الناس ولم تكن أبدا حكم الناس”.
وعلى الرغم من مشروعيّة مراجعة تراثنا وإعادة تأويله، فإنّنا ينبغي أن نتجاوز الحلقة المفرغة التي قد يؤدّي إليها قصر البحث في مفهوم الحكم على الجانب السياسي أو القضائي، فلم يعد هناك بدّ في القرن الواحد والعشرين من أن نركّز مجهودنا الفكري على تعميق النظر في الحكم، باعتباره موضوعًا لعلم السياسة، إنّ من مقتضيات الحداثة أن نضيف إلى التراث الفكري السياسي الحديث انطلاقًا من اقتناعنا بأنّ كلمة الحكم في كلّ جماعة من الجماعات تعني السلطة المنظّمة ومؤسسات القيادة والإكراه، بقيَ أنّ تقوقعنا في دائرة ما أنتجه التراث أو ما يخيّل إلينا أنّه أنتجه يفوّت علينا فرصة إثبات طاقة الفكر الإسلامي الحديث على التكيّف مع آخر المستجدّات في علوم الإنسان عامّةً وفي العلوم السياسية خاصّةً.