الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

سياسة

نجوم التنوير| أمين الخولي.. رائد مدرسة التفسير الأدبي للقرآن

أمين الخولي
أمين الخولي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

توسّع أمين الخولي في تطبيق فكرة التطور على علم الكلام والفقه واللغة بل فى تعميمها لتشمل أبعاد الوجود البشرى المعنوية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية كافة.

«أول التجديد قتل القديم فهمًا وبحثًا ودراسةً»، «أما إذا مضى المجدد برغبة فى التجديد مبهمة، يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم فذلكم، وقيتم شره، تبديد لا تجديد».. هكذا كان أمين الخولى يبث أصول التجديد فى كل المجالات المتصلة بإسهامه: التجديد فى اللغة ونحوها، فى البلاغة وجمالياتها، فى الأدب ونقده، فى تفسير القرآن، وفى الفكر الدينى... وحتى حين تعرض الترجمة إمام من عصر التدوين، لن يحمل خطوطا تجديدية بل فقط أصول السلفية، هو الإمام مالك بن أنس (٩٠-١٧٩هـ/٧٠٨-٧٩٥م)، حتى فى هذا أعطى الخولى درسا تجديدا فى أصول تحرير التراجم و«ثارت بينه وبين العقاد معركة أدبية شهيرة حول كتابة التراجم.»؛ لذلك قيل عن الخولى - بحق – أنه فى كل إسهاماته قد «حرر عقله من سلطان التقليد الذى يبطل الإرادة الحرة، ويميت روح الإبداع، ويشل حركة العقل، فبعدت مطارح أفكاره، وسما فى نظر طلابه، ودأب على سموه فى كل يوم فى النفوس والعقول ما.»
لقد تأتت إسهامات الخولى - جهوده الأصولية التجديدية فى مجالات تجعلها بنية حضارتنا فى موقع ثقافى محورى، فضلا عن ارتكازها على الثابت البنيوى فيها - النص الدينى / القرآن الكريم، فلم يكن للتجديد فى هذه المجالات - عند الخولى - إلا طريق واحد هو النظر العلمى الذى لا يستقیم بغير الفهم العميق للقرآن الكريم، بل وجاهر الخولى بأن هذا الفهم ليس سهلا لمن لا يتذوقون العربية، ومهما فعل المستشرقون، ومهما بذلوا من جهود رصينة، لن يستطيعوا النفاذ إلى جوهر القرآن، بعبارة أخرى هذا التجديد مهمة منوطة بنا وحدنا، واجب علينا وحق لنا.
وكانت جهود الخولى فى منهجية التجديد عميقة الأصول ومترامية الحدود، وغزيرة المضمون، ومتعددة العناصر. لكننا نلتقط منها خيطا بدا لنا مفتاحا يفض مغاليق، مما يلقى ضوءا كثيفا على أهمية ميراث الخولى.
ذلك أن هاجس الحياة والارتباط بالواقع الحضارى الحى كان مهيمنا على فكر الخولى، حتى قيل إن الحياة والحيوية أكثر الكلمات شيوعا فى كتاباته وأحاديثه؛ لذلك كان من السهل أن يبلغ التجديد الدينى معه مقولة «التطور» ذاتها؛ ليكون طبيعيا متأصلا سائرا نحو الأصلح والأكمل والأكثر بقاء.
وكما هو معروف فإن نظرية التطور، مجرد نظرية بيولوجية؛ أى محاولة لوصف وتفسير نشوء ظاهرة الحياة على سطح، وارتقائها عن طريق الانتخاب الطبيعى - حتى بلوغها الشكل الراهن. وعلى الرغم من أنها من الوجهة العلمية البيولوجية تحوى ثغرات ومواطن قصور جمة، كما أوضح كثيرون، من أكفئهم فيلسوف العلم البارز کارل بوبر فإنها – بتعبير بوبر نفسه - برنامج بحث ميتافيزيقى ممتاز، وحتى هذه اللحظة لا يوجد بديل لها، وأبدت خصوبة وفعالية فرضتا التسليم بها كنظرية عامة لسائر علوم الحياة، فضلا عن خصوبتها فى مجالات أخرى عديدة، تتجاوز كثيرا ظاهرة الحياة، كما سنرى مع أمين الخولى لا سواه.
فيقدم الخولى لطلابه عرضا جيدا لنظرية التطور مع إمامها تشارلز دارون مع الإشارة إلى الرواد الآخرين لامارك، وألفرد والاس وببيانه المحكم البديع، يوضح الخولى كيفية تفسيرها للحياة، فأنواع الأحياء - وعلى رأسها الإنسان - لم تظهر هكذا منذ خلقت، بل هى دائمة التغير من حال إلى حال، وبهذا تتطور من البساطة إلى التركيب المتدرج بالتغير والتطور تنشأ بعض الأنواع عن بعض، وترتقى بعمل ناموس الانتخاب الطبيعى - بقاء الأصلح للحياة وانقراض ما عداه. ويتهكم الخولى من رد النظرية إلى القول الدارج: إن الإنسان أصله قرد! ولا يفوته تعداد مواطن القصور المعروفة فيها.
ويبين الخولى أصول نظرية التطور فى الفكر البشرى، عند الإغريق ثم عند الإسلاميين، خصوصا مع جماعة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، ومع ابن سينا، وابن طفيل، والقزوينى، وابن خلدون.
وهنا يتوقف الخولى لتبيان أن نظرية التطور الحديثة فى صلبها لا تتناقض مع العقيدة الدينية ولا تتعارض مع الإسلام، والقرآن هدى للمتقين لا درسا فى الفيزياء والكيمياء والأحياء، والإسلام فى أصوله وفروعه يحث على عمل العقل، ويستحيل أن يصادر على نظرية أو تفسير علمى ما. أما مقاومة نظرية التطور والنزاع الشهير بشأنها فى أوروبا وأمريكا، فهذا – كما يؤكد الخولى - لا يخصنا؛ لأنه تناقض بينها وبين نصوص فى التوراة.
وقد أرسى بناءه المنهجى التجديدى على ما أسماه «التفسير البيانى للقرآن»، كان محور هذا الضرب من التفسير هو إظهار الإعجاز البلاغى للقرآن، لكنّ الخولى يرى أنّ ما ألّف فى هذا الغرض من التفاسير السابقة ينطلق فى معالجته للنص من منطلق دعوى وتراثى، لذلك كانت الجهود مسخّرة لغايات دفاعيّة عن الإسلام، ولم تكن العناية بالجانب البيانى اللغوى غاية فى حدّ ذاتها. ويتحدد مدخل التجديد عند الخولى والمدرسة الحديثة كلها فى وظيفة المفسّر أوّلًا، وفى مكانة النصّ المفسّر ثانيًا، فليس مقبولًا عند الخولى أن يظلّ التفسير المعاصر مجرّد أداة لاختيارات مذهبيّة وتوظيفات دعويّة مهما كانت أهمّيتها.
رائدًا للدرس الهِرْمِنيوطيقى:
ويقول الدكتور عبد الجبار الرفاعى فى دراسة له منشورة فى مجلة «قضايا إسلامية معاصرة» بعنوان «أمين الخولى رائدًا للدرس الهِرْمِنيوطيقى باللغة العربية»، ظلّ الخولى مسكونًا بفكرة التطور، واستبدت به هذه الفكرة، إلى الحد الذى استند إليها بوصفها مرجعية لإعادة بناء المعارف الاسلامية، وآداب وعلوم اللغة العربية. ولم يتردد فى الدفاع عن نظرية التطور الدارونية فى الأحياء، وأصرّ على تبريرها ومنحها المشروعية، فى ضوء ما يحاكيها ويقاربها من إشارات فى «رسائل إخوان الصفا»، وآثار ابن مسكويه، وابن سينا، وابن الطفيل، ممن ألمحوا أو صرحوا بتصنيف الموجودات فى سلم تراتبى، يحتل فيه الإنسان الذروة فى تكامله، فيما يليه الحيوان، فالنبات، إلى أدنى مرتبة، وهى الجماد. وشغف الخولى بالتجديد إلى الحد الذى كان برأيه هو الثورة الكبرى فى كل قرن، إذ يقول: «إنّ ذلك التجديد على رأس القرون هو ذلك العمل الثورى الكبير الذى تحتاجه الأمّة، كأنما هو ثورة اجتماعية دورية».
توسّع الخولى فى تطبيق فكرة التطور على علم الكلام والفقه واللغة، بل فى تعميمها لتشمل أبعاد الوجود البشرى المعنوية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية كافة. وأصر على أنّ التطور هو الناموس الشامل فى الخلق والحياة، وليس ناموسًا خاصًا بعلم الأحياء فقط. ففى نقاشه مع شيخ الأزهر رفض الشيخ الخولى انحصار التطور ببعض أحكام العبادات، فذهب إلى أنّ «التغير والتطور سنّة شاملة فى الأصول: العقائد والعبادات والمعاملات، وفى هاتين الأخيرتين شريعة الإسلام هى انتخاب ما نراه أيسر عملًا وأصلح للبقاء». ولا يتردد فى القول إنّ «تطور العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه، وحاجة الدين إلى تقريره، حماية للتدين، وإثباتًا لصلاحيته للبقاء، واستطاعة مواءمة الحياة، مواءمة لا يتنافر فيها الايمان مع نظر ولا عمل».
ويضيف الرفاعى حسب الدراسة: تظهر فرادة الشيخ أمين الخولى فى محاولته الرائدة بتوطين الهِرْمِنيوطيقا والمناهج الجديدة فى تفسير النصوص الدينية فى المجال التداولى العربى. بعد استقراء وتتبع يمكن القول إنّ الخولى هو أول هِرْمِنيوطيقى بالعربية، وربما فى عالم الإسلام. إذ لا أعرف أحدًا سبقه إلى ذلك. لم يقتصر الخولى على علم النفس فى الدعوة لتوظيفه فى التفسير، بل رأى ضرورة الانفتاح على علم الاجتماع والعلوم الإنسانية، خاصة علوم التأويل الحديثة، فيما ينشده من تفسير. ولعلنا لا نجانب الصواب حين نقول إنه استقى رؤيته الجديدة للتفسير من الهِرْمِنيوطيقا الألمانية. وهو ما تجلى بوضوح فى حديثه عن «أفق المفسّر»، فلم تعد عملية التفسير فى مفهومه تلقّيًا سلبيًا صامتًا للمفسّر، وإصغاءً من المفسّر لما يمليه عليه النص، لا دور فيه للمفسّر سوى الكشف عن المعنى الكامن فى العبارات، وإنما أصبح التفسيرُ فى رأى الخولى عملية إنتاج متبادلة للمعنى، يشترك فيها المفسّر مع النص. وذلك ما شرحته الهِرْمِنيوطيقا الحديثة، بوصفها «فنًا للفهم»، أو قراءةً للقراءة، أو فهمًا للفهم، أو تفسيرًا لكيفية تلقى المفسّر القارئ للنص، وطريقة إنتاجه للمعنى المقتنص منه، فى ضوء: أفق انتظاره، ورؤيته للعالم، وإطار ثقافته، ومسلماته وأحكامه المسبقة.
تحدّث الخولى عن هذه الفكرة بوضوح فى قوله: «إنّ الشخص الذى يفسّر نصًا يلوّن هذا النص ولاسيّما النص الأدبى بتفسيره له وفهمه إيّاه. وإنّ المتفهم لعبارة هو الذى يحدد بشخصيته المستوى الفكرى لها، وهو الذى يعين الأفق العقلى، الذى يمتد إليه معناها ومرماها، يفعل ذلك كله وفق مستواه الفكرى، وعلى سعة أفقه العقلى، لأنه لا يستطيع أن يعدو ذلك من شخصيته، ولا تمكنه مجاوزته أبدًا، فلن يفهم من النص إلا ما يرقى إليه فكره، ويمتد إليه عقله. وبمقدار هذا يتحكّم فى النص، ويحدد بيانه».
ربما اقتبس أمين الخولى مصطلح «يلوّن النص» من التعبير المشهور للمتصوف الجنيد البغدادى: «لون الماء لون الإناء». وذلك يؤشر للأهمية الفائقة لنصوص المتصوفة والعرفاء، وطرائقهم فى تبصر واكتشاف ما لبث مجهولًا خارج فضاء مفهومهم للحقيقة الدينية، وتجربتهم الروحية، ومناهج قراءتهم للنص، خارج أسوار أصول التفسير والفقه الموروثة، مثلما يصطبغ الماء بلون الإناء، يؤشر الخولى فى تحليله للكيفية التى يغدو فيها النص مرآة تنعكس فيها ألوان صورة المفسر وأحكامه المسبقة، ليتشكل معناه فى ضوء ما يرسمه أفق انتظاره.
تاريخ الأديان
ويناقش الدكتور أحمد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا «تاريخ الأديان فى ضوء المنهج العلمى فى فكر أمين الخولي» فى دراسة له منشورة على موقع مؤمنون بلا حدود يقول فيها: ويمكن القول إنّ أمين الخولى يسعى فى دراسة تاريخ الأديان فى ضوء تطور حركة التاريخ، والمجتمع، والبيئة المحيطة، وبيان أثر ذلك فى فهمنا للدين، ومدى تطور رؤية الفهم البشرى له عبر حركة الزمن، والمجتمع، وتطور البيئة، ويبدأ الخولى ببيان أهمية أثر التاريخ والزمن فى حركة الدين، موضحًا أنّ الدراسات التاريخية لا تتعارض مع الدين و«القول بهذا الارتباط أوضح من أن يختلف عليه، ولكنى أعرف أنّ أناسًا قد يعترضون على ذلك فى دروس الأديان بخاصة، إذ يتبادر إلى أذهانهم أنّ ذلك التفاعل، والتأثير المتبادل لا يتفق مع سماوية الدين الموحى به، ولكنهم فى ذلك واهمون، لأنّ هذا المعنى الاجتماعى لهذه الوحدة الإنسانية المتشابكة لا يقوم على أنّ رسولًا من الرسل عليهم السلام قد قلد أو أخذ، أو نقل من غيره بعمل نفسه، فنقل من وثنية، أو اقتبس من جاهلية ما بدا له صراحة، وبهذا تواصلت الأديان وتفاعلت العقائد كلًا، بل يقوم التواصل، ويصدق بأنّ الوحى الإلهى المصدر يكشف عن حقيقة دينية واحدة قد رددت فى عقيدة ما، أو فكر أديان أخرى متعددة، لأنّها صالحة على اختلاف الأزمان، وتعاقب الأديان».
وتبدو الغاية من دراسة الدين فى ضوء التاريخ هى إدراك أمين الخولى أهمية عامل الزمن فى فهم كل الظواهر بما فيها الدين، فالتاريخ يسهم فى فهم الحقائق الكونية طلبًا للمعرفة، ورغبة فى تفهّم الكون، ثم انتفاعًا بذلك فى توجيه الحياة توجيهًا صالحًا، ورفع مستوى الرفاهية الإنسانية مهما تفاوتت الديار، واختلفت الألوان واللغات، وتباينت المشارب والعادات، ثم لكل بعد ذلك شخصيته المستقلة، وظروفه المفردة، ومؤثرات فيه مقصورة عليه، ومع هذا التمايز المتدرج فلا سبيل إلى فهم الكون إلا فى صورة الوحدة الكبرى المتداخلة الأجزاء المتصلة التفاعل، ترد فى الفرد أثر أسرته، ثم أثر فصيلته، وأثر جنسه، وأثر إنسانيته.
ويطالب أمين الخولى بضرورة أن تعتمد عملية دراسة تاريخ الأديان على مصادر أوسع من الرواية المنقولة، والخبر المسرود، وأن تعتمد على المصادر المادية والمعنوية كما يعتمد المنهج التاريخى على المصادر الصامتة الأكثر صدقًا، وذلك حتى نستطيع فى عملية التأريخ التوثيق توثيقًا علميًا دقيقًا، ويرى أمين الخولى أنّ «الدعوة إلى النقد العقلى الاجتماعى للروايات التاريخية لم تؤيد من ابن خلدون نفسه بالتطبيق، ولم تلق من أبناء عصره، ولا ممن خلفوه فى الشرق آذانًا صاغية، ولكنها اليوم عند المحدثين موضع الرعاية الكبرى، والتقدير العظيم فى دروس التاريخ، تسعفهم عليها وتزيد نفاذ بصرهم فيها معارفهم المتجددة النامية عن السنن الكونية، والنواميس الاجتماعية، ونظم الحياة الفردية والجماعية، والظواهر النفسية للفرد والمجتمع فى تلك الحياة، فيكون نقدهم للحوادث التاريخية أدق وأهدى كلما تجرد عن الهوى، وخلص من خطر التعصب، وسلم فيه التطبيق».
وتؤكد الدراسة أن دراسة تاريخ الأديان عند أمين الخولى لابد أن تخضع للقوانين العامة المتحكّمة فى تسيير الحياة، وإدراك هذه القوانين لا يمكن أن يتم إلاّ بدراسة فلسفة التاريخ، لأنّ هذه الفلسفة هى التى تستطيع التعمّق فى استخراج (وكشف) القوانين البعيدة الدقيقة المتحكمة فى تسيير وحدة الحياة العامة، وإظهار أنّ كل حادثة مهما كان أثرها فى النظرة الأولى، وبدت للسذج قليلة الخطر، فلابد لها من أثر فى التعاون الإنسانى، وليس المؤرخ الحقيقى إلا الذى يتكشف خلف ظواهر الأمور أسباب حدوثها، وقوانين اتجاهاتها.
ولكى يستطيع التاريخ أن يقف على قدميه فلابد أن نؤسّس دراسة تاريخ الأديان فى ضوء علم الاجتماع حتى نتمكن من الكشف عن السنن الاجتماعية المتحكمة فى سير التاريخ، وإدراك أسبابها البعيدة، وذلك لأنّ علم الاجتماع يبحث فى طبائع العمران، ويتفهم الحياة الإنسانية التى يشارك فيها الفرد غيره، كما أنّ علم الاجتماع فى ملاحظة ظواهر التجمع الإنسانى، وانتقالاته لا يستطيع أن يقف عند الحاضر، بل لابد من متابعة الماضى، واستيضاح تقلباته التى انتهت إلى الحاضر المشهود، وتلك فى الاجتماع مهمّة تاريخية، والتاريخ حين يحاول تفسير أحداث الماضى، والانتهاء إلى صحيح أسبابها، والفاعل من عللها، لا سبيل له فى ذلك إلا بالاستنارة بما يقرره علم الاجتماع من صور الحياة وقتية ًكانت أو مطردةً مما يوجه به التاريخ، وبه يمكن تفسيره، ومن ثم فقد صار الدرس الصحيح لتاريخ الأديان هو ما يقوم على الوصل بين التاريخ والاجتماع، ويسعى إلى وضع الحوادث المفردة، والأخبار المتفرقة المتناثرة أمام الدارسين متفتحة الروابط، مستبين فيها أثر النواميس العامة، والمتحكمة فى تسيير آلة الحياة الاجتماعية الكبيرة.
كما يقول سالم: وإذا كان أمين الخولى يطالب بضرورة المزج بين التاريخ والاجتماع فى دراسة تاريخ الأديان فإنّ هذا يتحقق عنده من خلال توظيف الداروينية الاجتماعية فهو يعتبر «أنّ ناموس التدرج والترقى فى الكائنات جميعًا المادى منها والمعنوى على السواء مهم لدراسة التاريخ، فدارس التاريخ يطبق هذا الناموس على جميع صور الحياة الإنسانية، ومظاهرها، وأعمال الأفراد، وأعمال الأمم جميعًا، حتى الأمور الاعتقادية يطرد جريانها على هذا النظام، ولا محل لإنكار أنّ مظاهر الحياة الإنسانية المختلفة تخضع لهذا الناموس التدريجى دائمًا، فتبدأ من أصل بسيط ساذج، يتدرج، وينافس فى سبيل الظفر بالحياة، فيبقى منه الصالح لها، ويستبعد غير الصالح، ثم يرتقى هذا الصالح، ويكتمل شيئًا فشيئًا حتى يعود مركبًا، بل معقد التركيب بعدما كان بسيطًا ساذجًا يسير الشأن، ولأنّ المعنى فى التدرج والترقى قد تقرر اليوم، وتأصل حتى لم يعد الباحث يقبل ظهور شيء معنوى من فكر أو عقيدة، أو نحو ذلك كاملة الوجود دفعة واحدة، أو مخلوقة خلقًا مستقلًا لأصل لا يمت بصلة إلى ما حوله، وما سبقه مما يماثله فى الكون، فإنّ هذا الوجود الفجائى الكامل، وذلك الاستقلال لم يتهيأ لفن، ولا أدب، ولا علم، ولا حضارة، ولا دولة، ولا دين كذلك.
ولأن أمين الخولى كان ينادى بتطبيق المنهج التطورى على دراسة تاريخ الأديان فى مقرّر دراسى بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام ١٩٣٥، فقد وجدناه حريصًا على تبرير رؤيته للطلاب من وجهة نظر إسلامية، فيذهب إلى أنّ القول بتدرج الدين والمعتقد قد يبدو لأول عهد الأذن به مقلقًا نابيًا، أو يخشاه المتدين، أو ينفيه المتشدد، ولكن الأمر ليس من ذلك فى شيء فتدرج الدين فى الحياة الإنسانية، وترقيه فى أمة عن أمة ظاهرة يقررها الإسلام، وبها نعلل كيف صار هو آخر الأديان، وكيف كان ما قبله مهيّئًا له حتى بلغت الإنسانية مرتبة صح معها أن تلقى إليها أصول عامة خالدة لا تحتاج مع الزمن إلى تغيير فى الأساس، ويرى الخولى أنّ سُنّة التدرج والترقّى موجودة فى الإسلام فى نزول القرآن الكريم مطابقًا لحاجات الحياة المتجددة، والمناسبة الواقعية، وذلك يبدو جليًا فى الأخذ التدريجى للناس فى الاعتقاد، والتشريع العملى، ثم هناك مظهر آخر لهذا التدرج هو مظهر فهم الناس للعقيدة الدينية، ومرور هذه العقيدة فى أدوار انتقالية مترتب بعضها على بعض، وتنتهى به العقيدة إلى مركب بعد بساطة، وتعقد بعد سهولة بفعل تدرج الحياة، وانتقالها من البداوة المحضة إلى الحضارة.
وأعطى أمين الخولى أهمية بالغة لدور البيئة فى دراسة تاريخ الأديان فيرى أنّه لابد أن تتوافق العقيدة مع البيئة الطبيعية وتماثلها فلا تكون عنادًا لها، ولا خروجًا عليها، وكذلك لابدّ أن تتوافق العقيدة مع البيئة المعنوية، وتجاريها فلا تكون مضادّة لها، ولا نابية من استعدادها ومقدرتها، ولو لم يتحقق ذلك فى العقيدة لكان ظهورها فى البيئة المخالفة لها سبب موتها العاجل، وفنائها السريع، بل لو لم يتحقق ذلك بين البيئة والعقيدة لما ظهرت العقيدة المخالفة للبيئة فيها مطلقًا، ولا فرق فى ذلك بين عقيدة سماوية موحى بها، وعقيدة وثنية صنعت أو حرّف بها أصل سماوى.
ويبدو اعتبار دور البيئة واضحًا عند الخولى فى تصوّره المنهج التفسيرى الأدبى للقرآن، فهذا التفسير عند الخولى ينقسم إلى شقين، الأول هو دراسة حول القرآن وفيه يوضّح أثر البيئة المعنوية والمادية فى تفسير القرآن، والثانى هو دراسة القرآن نفسه وفيه يكشف عن التأثير النفسى والبلاغى للقرآن فى الإنسان المتلقى، وما يهمنا هنا هو بيانه للشقّ الأول، والذى يدعم كلام الخولى عن أهمية البيئة فى فهم الأديان، فيرى أنّ الدراسة حول القرآن «تتصل بالبيئة المادية والمعنوية التى ظهر فيها القرآن وعاش، وفيها جمع وكتب، وقرئ وحفظ، وخاطب أهلها أول ما خاطب، وإليهم ألقى رسالته لينهضوا بإذنها، وإبلاغها شعوب الدنيا، فروح القرآن عربية، ومزاجه عربى، وأسلوبه عربى، وقرآنا عربيًا غير ذى عوج … والنفاذ إلى مقاصده إنما يقوم على التمثل الكامل، والاستشفاف التام لهذه الروح العربية، وذلك المزاج العربى، والذوق العربى، ومن هنا لزمت المعرفة الكاملة لهذه البيئة العربية أرضها بجبالها، وحررها وصحاريها …إلخ فكل ما يتصل بتلك الحياة المادية العربية وسائل ضرورية لفهم هذا القرآن العربى المبين» وكذلك فمن الضرورى دراسة البيئة المعنوية بكل ما تتسع له هذه الكلمة من ماض سحيق، وتاريخ معروف، ونظام أسرة أو قبيلة، وحكومة فى أية درجة كانت، وعقيدة بأى لون تلوّنت، وفنون مهما تتنوع، وأعمال مهما تختلف وتتشعب فكل ما تقوم به الحياة الإنسانية لهذه العروبة رسائل ضرورية كذلك لفهم القرآن العربى المبين… ولن يدرس القرآن درسًا أدبيًا صادقًا يفى بحاجات المتعرض لتفسيره إلا بعد أن تستكمل وسائط تلك المعرفة للبيئة العربية مادية ومعنوية.