الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

صفعة على وجه "التفاهة" فى فيلم "عقل متفوق"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

   لم يكتف الفيلم النادر "عقل متفوق" أوA Beautiful Mind، بتوجيه رسالة تنوير، أو صفعة قوية، على وجه سيادة نظام "التفاهة"، الذى استحوذ على عقل هذا العالم منذ سنوات عديدة، بل يفضح انغماس إنسان العصر فى الخراب الحالى!.. وعلى الرغم من تجسيده روعة امتلاك عقل جميل، إلا أنه يدهشنا بمعجزة إقتناء قلب جميل فى ذات الوقت! فى النهاية يلفت الأنظار إلى خطورة انغمار العقل الحديث فى مستنقع "التفاهة" الوضيع، الذى سيقود البشرية حتمًا إلى مصير معتم، وبائس، وتعس. 

     أُستٌلهِم الفيلم الأمريكى، الذى أنتج عام 2001، وحصد 4 جوائز أوسكار، عن كتاب يحمل ذات العنوان، صدر عام 1998، يروى سيرة حياة عالم الرياضيات العبقرى "جون ناش"، الحاصل على جائزة "نوبل" فى الاقتصاد عام 1994، الذى اعتبر الصفوف الدراسية، ساحة لقتل الخيال؛ لأن التفكير بطرق تقليدية، لا يقود العالم إلى شئ، أما التفكير بطرق إبداعية، يقود العالم إلى أفكار مذهلة؛ وبالرغم من صراعه النفسى الشرس، مع مرض "انفصام الشخصية"، الذى عانى منه معظم فترات حياته؛ إلا أنه نجح فى إبهار العالم.

     نلتقى الباحث النابغ فى الرياضيات "ناش"، بجامعة "برينستون" عام 1947، الذى يفتقر إلى مهارات الحياة الاجتماعية؛ فيحفزه رفيق غرفته وصديقه "تشارلز"، الذى يتعلق بابنة شقيقته الراحلة "الطفلة الصغيرة"، ثم يصبح أستاذًا جامعيًا مرموقًا، وأهم مخترق للشفرات؛ فيقنعه ضابط فى وزارة الدفاع الأمريكية "الأخ الأكبر"، أن يقبل مهمة فك رموز رسائل سرية مشفرة، تهدد أمن البلاد، تصل عبر أخبار منشورة بالصحف والمجلات، يرسلها الجواسيس الروس؛ مما يستلزم غرس "دمغ رقمى" فى جلده؛ لإرسال خطاباته، دون أن يشك به أحد.

     نشهد خيال "ناش" المتوهج، الذى لا يتوقف، وتركيزه على التعلم والبحث والابتكار؛ فهو يكتب أرقامه، وملاحظاته، ومعادلاته الحسابية، شديدة التعقيد، على زجاج النافذة؛ فتبدو عائمة فى الهواء! وبالرغم من عزلته، وتصرفاته الغريبة، تقع فى غرام عقله "رغم وسامته"، إحدى طالباته فى الجامعة "آليشيا"، المعجبة بأستاذها، والمبهورة به، وهى شخصية ذكية، وباحثة مجتهدة فى علم الفيزياء، وهو ما أراده دومًا؛ من يحبه لجوهره، من يرى عقله الجميل، من يشاركه مباهج المعرفة؛ فأحبها، وتزوجها، وأنجب طفلًا.

     ننتقل إلى أروقة مستشفى "الصحة النفسية"، و"ناش" مريض يخضع لجلسات كهربائية، وصدمات "أنسولين" عنيفة، وطبيب غامض يشخص حالته بأنها حالة متقدمة من "انفصام الشخصية"، تجعله يعانى من هلوسات سمعية وبصرية، يرى فيها شخصيات وهمية، تكلمه، وتأمره، وتهدده، وتستهزئ به من المخابرات الأمريكية، وزوجة تكتشف فيما بعد أنه لا يوجد شريك سكن له، اسمه "تشالز"، ولا طفلة صغيرة، ولا ضابط من وزارة الدفاع الأمريكية، أما الخطابات التى كان يرسلها، مدموغة بالشمع الأحمر، فلم تصل، ولم يفتحها أحد.

     يعود "ناش" إلى منزله، لكنه لم يعد قادرًا على العودة إلى التدريس فى الجامعة، وفى نفس الوقت يتناول كمية كبيرة من الأدوية، تأثيرها بالغ السوء على عقله، ومشاعره، وعلاقته بزوجته، وحياته؛ فأصبحت "آليشيا" تتحمل فوق طاقتها؛ لأنه لم يعد أستاذها، الذى عرفته، وأحبته، وعلى الرغم أنه أصبح شخصًا ثقيلًا، سارحًا، لا يبذل أى مجهود فى التفكير؛ مما خلق فجوة شاسعة بينه وبينها، إلا أنه كان دائم التأكيد على أن علوم الرياضيات، قادرة على حل مشكلته المعقدة؛ ومن ثم قرر أنه سيعالج نفسه؛ بالامتناع عن تناول تلك الأدوية، دون أن يخبر زوجته.

      يَلمَس المُشاهد عودته إلى بريقه مرة أخرى، لكن شخصياته الوهمية عادت أيضًا معه، ثم تكتشف "آليشيا" أن السبب فى ذلك، هو امتناعه عن تناول الأدوية؛ خاصة حينما تترك طفلهما معه، وتوافق أن يحممه، وأثناء قيامها بأعمالها المنزلية، تسمع صوتًا من مخزن قريب؛ فتذهب إليه، لتجد صوت راديو، وقصاصات من صحف ومجلات؛ فتدرك أنه عاد إلى أوهامه، فتهرع إلى المنزل، لتسمعه يتحدث إلى صديقه "تشارلز" الوهمى، وطفلهما على وشك الغرق فى الحمام! ثم تظهر شخصية "الأخ الأكبر"، التى تحرضه على قتل زوجته؛ لأنها باتت تعرف سره.

     يقرر "ناش" تقديم إستقالته من مهمة وزارة الدفاع؛ فيهدده "الأخ الأكبر" بفضحه للمخابرات الروسية؛ لذا يتوهم أن ثمة من يلاحقونه؛ ليقتلوه، ومن ثم يقرر حماية زوجته وطفله؛ بإبعادهما عنه؛ ليعيش مع مخاوفه وحيدًا، إلا أنه يدرك فى ذات اللحظة، أن ضابط وزارة الدفاع "الأخ الأكبر"، الذى يلتمس مساعدته فى حل رموز الشفرات السرية، التى ترسلها فئة منشقة من الروس فى الصحف والمجلات، أثناء فترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى، وصديقه "تشارلز"، وابنة شقيقته، شخصيات وهمية، ليس لها وجود؛ حينما يرى "الطفلة الصغيرة" كما هى، لم تكبر !

     تقرر "آليشيا" التحدث إلى الطبيب مرة أخرى، لكنه يعدها أنه سيبذل كل جهده؛ لتجاهل تلك الشخصيات الوهمية، مقابل أن لا يعود إلى المستشفى مرة أخرى؛ فتجلس أمامه أثناء تناولهما العشاء فى ضوء خافت، وتقول له: "إن الجزء الذى يفصل بين الواقع، والوهم، ليس بالضرورة أن يكون مكانه فى الدماغ، بل ربما مكانه فى القلب، وأنا أصدقك؛ لأن قلبى يريد ذلك"، ثم تتحسن حالته بعد أن قرر تجاهل مطاردات الهلوسات السمعية والبصرية، التى استسلمت لرغبته، وبرعاية وتشجيع زوجته؛ أصبح يمارس حياته، ويدرس تطوير نظرياته العلمية فى الرياضيات.   

 

 يصر "ناش" على تجاهل أصدقائه الوهميين، بالرغم من اشتياقه الشديد لهم، ثم يكبر فى السن، وهو مازال يحاول ممارسة حياته الطبيعية؛ فيقصد منافسه "د. مارتن"، الذى أخذ مكانه البارز فى الجامعة؛ لمساعدته فى العودة إلى التدريس بها، وبالفعل يقبل، خاصة حينما تصل الأمور إلى حد سماع الطلاب بوجوده الدائم فى المكتبة؛ فيتوافدون عليه، ويلتفون حوله؛ للإنصات إلى تفاسيره المدهشة، للنظريات الرياضية، شديدة التعقيد، فى يًسر، وإشراق؛ ومن ثم يعود إلى  إلقاء المحاضرات العلمية فى قاعات الدرس، التى يتهافت عليها العديد من الطلاب.

  يخرج "ناش" من إحدى محاضراته فى لحظة تاريخية، ليرى شخصًا ينتظره، يقول له أنه رُشِّح لنيل جائزة "نوبل" هذا العام؛ فيستنجد بإحدى طالباته؛ لتؤكد له أن هذا الشخص حقيقة، وليس وهمًا، لكنه يتردد لحظة فى قبول دعوته؛ للدخول إلى قاعة كبار العلماء؛ لتناول فنجان الشاى المفضل، ثم يقبل مضطرًا، الدعوة إلى الجلوس برفقته؛ فيتخلل تلك الجلسة مشهد ٌرائعٌ، حينما يتلقى تحية التقدير والاحترام  الرفيعة من كل العلماء الكبار الموجودين، بعرف جارٍ بينهم، هو منح كل عالِم، قلمه الخاص، للشخصية المؤثرة فى حياته! وهكذا وُضِعت كل الأقلام أمامه.

      فى مشهد الختام، يقف "البروفيسور" العظيم "ناش" على مسرح جائزة "نوبل"، موجهًا حديثه إلى زوجته: "كنت دائمًا أؤمن بالمنطق، وأثق تمامًا أن الأرقام، والمعادلات الرياضية، هى وحدها القادرة على حل أعقد مسائل الكون، إلى أن قادنى قلبك، فى غمار  تعقُّب عالَم الظواهر، والخيال، والفلسفيات، إلى أكبر إنجاز فى تاريخى المهنى، وأهم اكتشاف فى حياتى، إلى فهم ما هو المنطق بحق ؟ إنه يسكن تلك المعادلات الغامضة فى الحب، التى لا تخضع لأى حسابات، أو أرقام، أو معادلات، أو أسباب ! فأنا هنا الليلة؛ بسببك أنت وحدك، أنت جميع أسبابى".

      ساهمت فكرة الراوى الكاذب، فى اندماج المتلقى فى الأحداث بعقلية "ناش" المدهشة، والثرية بالتصورات والافتراضات؛ ومن ثم وقع فى مأزق حقيقى؛ هل يصدق المؤامرة الوهمية التى وقع فيها، أم يصدق علم النفس ؟! لكنه فى النهاية صدق المؤامرة الوهمية؛ لأنه عانى معه قسوة هلوساته؛ فتعاطف معه، وانبهر به فى ذات الوقت، وبالرغم من تداول المصطلحات العلمية؛ إلا أنه ألتفت إلى البعد الإنسانى فى شخصيته، مثل رفضه تناول الأدوية؛ لأنها تجعل دخوله إلى عالم الرياضيات، شبه مستحيل.

     تقمص النجم "راسل كرو" شخصية "ناش"، فى مراحل تطوره المعقدة، وامتلاكه "قوة الفكر" أكثر من "قوة الجسد"، وتألقت الفنانة "جينيفر كونولى" فى شخصية "آليشيا"، التى تتمزق حياتها بين حُبَّها لرجلٍ، والخوف منه فى ذات الوقت، كما لعب كلٌ من "إد هاريس" و"بول بيتانى" و"كريستوفر بلامر" الشخصيات الدرامية بمنتهى الإتقان؛ ومن ثم استحق الفيلم عن جدارة، الفوز بأربع جوائز أوسكار؛ أفضل فيلم، ونص سينمائى مقتبس، وإخراج، وممثلة مساعدة، فضلًا عن ترشُّحه لنيل أربع جوائز؛ أفضل ممثل "راسل كرو"، وموسيقى تصويرية، ومونتاج، ومكياج.

    فى تصورى وقع المُشاهد أسيرًا فى قبضة عمل سينمائى، صنع بحرفية عالية؛ لأنه نجح فى تجميع خيوط القصة الواقعية، وسرد الأحداث الدرامية، إضافة إلى أداء كل الممثلين المذهل والمؤثر، لكن الأخطر هو رؤية المخرج الجميلة، الواعية، التى لم تكن حول معركة "رجل"؛ من أجل التغلب على مشكلته الشخصية، بل حول انتصار "قوة الفكر الإنسانى"؛ وبالرغم من طول مدة العرض، إلا أنه لم يكن مملًا ، ولم يقدم مشاعر زائفة، أو شخصيات غارقة في مِحَنِهم الخاصة؛ تحرض المُشاهِد على ملاحقتهم، بلا جدوى؛ فى محاولة لفك رموز معادلات حياتهم الفارغة.

مشهد من الفيلم
مشهد من الفيلم