الحداثة والتراجع.. لن يجادل أحد فى التقدم الرائع والكبير الذى أحرزه الإنسان فى فهم تلك المسألة وبصرف النظر عما يسمى بالعناصر «الطبيعية»، يمكننا التحدث عن السيطرة الكاملة تقريبًا خاصة عندما نتحدث هنا عن المادة وكل العناصر المادية. فلا يزال العديد من المجهول فى علم الأحياء؛ لكن «الإنسان التكنولوجى» ينتحل لنفسه الحق فى التصرف كما لو كان يستطيع السيطرة عليها أيضًا، كما يشاء وعلى وجه الخصوص عن طريق استقراء المنطق الفيزيائى أكثر من المنطق البيولوجى. أما على المستوى الروحى فلم يتطور شبرًا واحدًا منذ الخطوات الأولى للإنسانية. والأفضل من ذلك، أن هذا الزخم الذى يكرس الموضوعية يدفعنا إلى تنحية كل ما يتعلق بالروحانية والأخلاق جانبًا.. كل هذا يساهم فى إساءة استخدام الجانب الأخلاقى والرحاونى؛ ألم يقل أرسطو: «لا يوجد علم غير قابل للقياس؟ وبالفعل، فى عالم يريد أن يكون علميًا كيف يتم التطرق إلى مسألة قياس الإيمان والفضيلة وما إلى ذلك؟ وبالتالى، فى هذا العالم العلمى، تراجع فيه المجال «النوعى» مفسحًا الطريق للمجال «الكمى». والأفضل من ذلك، أن كلمة «القيم» التى تحمل حرف «V» الكبير احتفلت ذات مرة بهذه الصفات الإنسانية الحقيقية، والتى تحولت اليوم إلى صفات غائبة. من الآن فصاعدًا، هذا الاسم المحترم مكرس للأوراق المالية فى سوق الأوراق المالية: وباتت القيم المالية لأسهم CAC ٤٠، أو NASDAQ التى تقيس ثروتنا!. الجميع أصبح يهتم بالمقاييس المالية والمادية دون التفكير فى الالتفات للجانب الروحى والأخلاقى. لاحظ، مع ذلك، أن واحدة فقط من المثل الجمهورية الثلاث: الحرية، والمساواة، والأخوة قد نجت بأعجوبة من هذا العالم المادى وربما هذا ليس من قبيل المصادفة، يتم التطرق لمبدأ المساواة للجميع.. المساواة فى كل مكان؛ بغض النظر عن السياقات التى يتم ذكر هذا المبدأ فيها.
الاعتبارات المادية: من التجسيد الجنائى إلى التجسيد العادى
وعلى الرغم من الأهمية الكبرى، فإننا لن نتذكر إلا مظاهرنا السابقة، ففى منتصف القرن العشرين، وعند ظهور الثورة الصناعية، عرف النازيون الذين ارتكبوا الإبادة الجماعية كيفية تكييف عملهم المميت، لينتقلوا من النمط الحرفى إلى التقدم التقنى فى الوقت الحاضر خاصة مع «الأداء» المختلف الذى نعرفه جميعًا. وهنا وصل «تجسيد» النفس البشرية إلى ذروته.
فلقد تجرأنا على استخدام صيغة الحرب «النظيفة» لوصف أفعال قذرة مقززة وهنا أريد أن أتحدث عن الصراعات التى قادها الأمريكيون: حرب الخليج، البوسنة، كوسوفو حيث الجلاد لا تتلطخ يداه بالدماء؛ فمن خلال عمل فنى بسيط يجلس أمام جهاز حديث «ينقر» على أيقونة فى شاشته. وفى الواقع، تلك الوظيفة المكتبية لهذا الجندى الحاصل على تعليم ثانوى تعمل على تمزيق السكان من الرجال، والنساء، والأطفال. إنها أشكال جديدة من «تجسيد» الكائن البشرى أقل إثارة وإيجابية على ما يبدو، وفى بعض الأحيان مرحة، بل ومفيدة للبعض.
اعتبارات جمالية
من الناحية المثالية، مدير تنفيذى متوسط أو كبير، مقتنع تمامًا بيقينه المادى وبدلته ذات الحواف الحادة، يندمج بشكل واضح مع العالم المادى الذى يحيط به، مع التمسك ببطاقاته الائتمانية.. إضافة إلى «النيكل» الذى يكون صلب سيارته (أو طائرته) دون أن ننسى تلك الخرسانة التى تكون البرج الذى يقضى فيه معظم وقته.
يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فى التعرف على المواد: الوشم، أكثر وأكثر تطورًا. استخدام بشرتك مثل ورق كانسون لإرسال رسالة أو إظهار الشعور بالانتماء. علامة العصر: لا يوجد تحذير من السلطات الصحية، من حيث المبدأ صعب للغاية: مخاطر التهاب الكبد الفيروسى. ولكن أيضا هناك اعتبارات نفسية: لا شىء ضد طبيعة التدخل الذى لا رجعة فيها. لقد رأيت الكثير مع الأسف الشديد لهذا الخطأ الذى يقع فيه الشباب لدرجة أنهم يفضلون الندوب القبيحة للغاية المتبقية فى حالة استئصال الجلد الذى تم عمل عليه الوشم. الأهم من ذلك: ثقب الجسم، الذى أصبح منتشرًا فى أوروبا والغرب.
الاعتبارات العقلية والروبوتات ذات المسيرة المتسارعة
أما «كل شيء رقمى»، فقد غزا أيضًا حياتنا اليومية حيث أصبح هذا المبدأ أداة بل سيدًا للعديد من المجالات. وفى الواقع، لعمل أى تغيير أو تعديل فى أى آلة يجب عليك بالطبع الاحتفاظ بما هو قابل للبرمجة فقط. أما المشاعر والمبادئ فلم يعد لها مكان.. ويتم التخلص من الروح التى لم تعد مهمة. وتدريجيًا، يفسح الذكاء البشرى المجال لذكاء الاصطناعى. وإذا لم يتم التكيف مع كل ذلك فأنت مسكين! الفكر الواحد أصبح «الفكر الموحد». فلا مكان لحسن النية فى القانون العالمى. وبالفعل، فإن الدور التربوى للأسرة لا يضاهى نفس قوة الويب. وهكذا، فى طريقة تفكيره وفى الميتافيزيقيا، سيكون للمراهق الفرنسى، على سبيل المثال، قواسم مشتركة مع شاب أسترالى من نصف الكرة الجنوبى.. أكثر من تأثير والديه.
نظرية الإغواء الشمولى
وهكذا نتمكن من الاقتراب من نموذج بشرى مشروط ويتفاعل مع نفس الظروف. وطبقًا لتفسير بافلوفيان لمصطلح شمولى: أغلبية نصنعها بإجماع مطلق دون إطلاق رصاصة واحدة! أولئك الذين ما زالوا يحتفظون بقدراتهم العاكسة، وحسهم السليم، سيكونون متآمرين. انتصار بلا منازع للآلة على الفكر. ولكن يمكن أيضًا مهاجمة هذه «الآلة»، وتحتاج أجهزة الكمبيوتر لدينا باستمرار إلى تحديثات للحماية من الفيروسات.. ماذا لو فعلنا نفس الشيء مع البشر؟.. ليس غبيًا! لقد تم تنسيقها بالفعل من المدرسة إلى منطق (أقول «المنطق» وليس الأخلاق أو الفطرة السليمة) الكمبيوتر. يتم الحصول عليها للحاجة إلى تحديثات منتظمة لأجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. هم أيضًا سيفهمون، بفضل الوباء، على سبيل المثال، الحاجة إلى «تحديثات منتظمة». وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء هم نفس عمالقة صناعة الكمبيوتر الذين يدافعون عن اللقاحات لكوكب الأرض كله ويستثمرون بشكل كبير فى المعامل التى يصنعها هذا الجهاز المتطور الذى لا يعمل بشكل سىء!
أنا، مثل العديد من المراقبين الآخرين (الذين وصفهم البعض بأنهم «تآمريون") مندهش من قابلية السكان للانقياد للخضوع لمثل هذه القيود. كلمتان أساسيتان: الصحة والعلوم. نعم، عالمنا ملتزم بـ"العلموية» وكل ما يبدو أنه تقدم علمى يتم «ابتلاعه» دون طرح أسئلة حول تدهور الجزيئات الجديدة، والآثار الجانبية والاستخدام الضار لكل ما سبق وكل ذلك يمكن أن يؤدى إلى العديد من الأخطار الطبية والتأثيرات السلبية على الحريات ويجب تقييم آثار ما حدث على مدى عدة أجيال.
يبدو لى أن هناك تفكير يجب القيام به أيضًا خاصةً إذا اتبعنا هذا المسار الجنونى، من «العلم» إلى «العلم» وليس بالضرورة للإنسان.. هنا سأتأجرأ وأطلق هذا التحذير الذى يتبادر إلى الذهن: «العلم أنقذ البشرية أما العلمانية فتقتلها».
أين الفرد فى كل هذا؟
تم الاستعانة بالهوية الرقمية، فى جسم مادى بحت، يقبل عن طيب خاطر، كما هو الحال فى هاتفه الذكى، «تحديثات» تخترق الجسد ويمكن أن تنشط اللقاحات بشكل متنوع.. كل ذلك لإسعاد الشركات المصنعة. ومن الناحية العقلية، فإن هذا هو تفكير «ترابطى» أكثر منه «انعكاسى» كما يمكن التلاعب به من خلال «كلمات رئيسية» مُختارة بعناية. وهنا يقال إن المستقبل هو دمج تطبيقات الهواتف الذكية فى هيكلها. ونذكر على سبيل المثال ما قام به العديد من الإسكندنافيين بالفعل بدمج بطاقاتهم الائتمانية فى أجسادهم ويتم استخدامها عند الخروج من السوبر ماركت بشكل تلقائى.. ولم لا فالعديد من الشباب الذين يتغذون منذ طفولتهم المبكرة يعتبرون أن كيانهم الجسدى «عرضى» وسينتهى فى يوم ما.. وفى الماضى، أدى استخدام «الحياة الثانية الافتراضية» إلى انتحار الشباب الذين يواجهون صعوبة فى إحداث فرق بين الحقيقى والافتراضى، للتخلص من أجسادهم المرهقة للغاية، بسبب حزنهم الشديد.
فى «العالم القديم»، كان طموح الإنسان أن يفعل «شيئًا ما بحياته»، ليترك أثرًا للمجتمع، بصمة لوجوده.. اليوم، يتم اللجوء بشكل موضوعى للـ"البصمة الكربونية» وتم الاعتراف بها من قبل الكثيرين.ددذ
معلومات عن الكاتب: آلان بليش.. طبيب معروف فى الغرب بكتاباته التحليلية ذات النظرة الفلسفية العميقة للأشياء.. يأخنا إلى تحليل متكامل حول عالم اليوم وسيطرة الانترنت على العقل البشرى، وتداعيات ذلك على الحاضر والمستقبل.