تقدم «البوابة» فى هذه النافذة على مدار شهر رمضان كل يوم رائدا من رواد التنوير فى مصر، للتعرف على دورهم فى محاربة الظلام والفكر المتطرف وإنارة طريق العقل والتنوير للسير فى درب التقدم والتطور ومواكبة العالم الحديث.
«أول التجديد قتل القديم فهما وبحثا ودراسة، أما إذا مضى المجدد برغبة فى التجديد مبهمة، يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم فذلكم ـ وقيتم شره ـ تبديد لا تجديد».. هكذا كان الشيخ أمين الخولى الذى ولد فى أول مايو عام ١٨٩٥ فى قرية شوشاى فى مركز أشمون بمحافظة المنوفية، يبث أصول التجديد فى كل المجالات المتصلة بإسهامه، التجديد فى اللغة ونحوها، فى البلاغة وجمالياتها، فى الأدب ونقده، فى تفسير القرآن، وفى الفكر الدينى.
وحتى حين تعرض لترجمة إمام من عصر التدوين، لن يحمل خطوطا تجديدية بل فقط أصول السلفية، هو الإمام مالك بن أنس، حتى فى هذا أعطى الخولى درسا تجديديا فى أصول تحرير التراجم وثارت بينه وبين العقاد معركة أدبية شهيرة حول كتابة التراجم؛ لذلك قيل عن الخولى - بحق – أنه فى كل إسهاماته قد «حرر عقله من سلطان التقليد الذى يبطل الإرادة الحرة، ويميت روح الإبداع، ويشل حركة العقل، فبعدت مطارح أفكاره، وسما فى نظر طلابه، ودأب على سموه فى كل يوم فى النفوس والعقول ما».
لقد تأتت إسهامات الخولى - جهوده الأصولية التجديدية فى مجالات تجعلها بنية حضارتنا فى موقع ثقافى محورى، فضلا عن ارتكازها على الثابت البنيوى فيها - النص الدينى / القرآن الكريم، فلم يكن للتجديد فى هذه المجالات - عند الخولى - إلا طريق واحد هو النظر العلمى الذى لا يستقیم بغير الفهم العميق للقرآن الكريم، بل وجاهر الخولى بأن هذا الفهم ليس سهلا لمن لا يتذوقون العربية، ومهما فعل المستشرقون، ومهما بذلوا من جهود رصينة، لن يستطيعوا النفاذ إلى جوهر القرآن، بعبارة أخرى هذا التجديد مهمة منوطة بنا وحدنا، واجب علينا وحق لنا.
وكانت جهود الخولى فى منهجية التجديد عميقة الأصول ومترامية الحدود، وغزيرة المضمون، ومتعددة العناصر. لكننا نلتقط منها خيطا بدا لنا مفتاحا يفض مغاليق، مما يلقى ضوءا كثيفا على أهمية ميراث الخولى.
ذلك أن هاجس الحياة والارتباط بالواقع الحضارى الحى كان مهيمنا على فكر الخولى، حتى قيل إن الحياة والحيوية أكثر الكلمات شيوعا فى كتاباته وأحاديثه؛ لذلك كان من السهل أن يبلغ التجديد الدينى معه مقولة «التطور» ذاتها؛ ليكون طبيعيا متأصلا سائرا نحو الأصلح والأكمل والأكثر بقاء.
وكما هو معروف فإن نظرية التطور، مجرد نظرية بيولوجية؛ أى محاولة لوصف وتفسير نشوء ظاهرة الحياة على سطح، وارتقائها عن طريق الانتخاب الطبيعى - حتى بلوغها الشكل الراهن.
وعلى الرغم من أنها من الوجهة العلمية البيولوجية تحوى ثغرات ومواطن قصور جمة، كما أوضح كثيرون، من أكفئهم فيلسوف العلم البارز کارل بوبر فإنها – بتعبير بوبر نفسه - برنامج بحث ميتافيزيقى ممتاز، وحتى هذه اللحظة لا يوجد بديل لها، وأبدت خصوبة وفعالية فرضتا التسليم بها كنظرية عامة لسائر علوم الحياة، فضلا عن خصوبتها فى مجالات أخرى عديدة، تتجاوز كثيرا ظاهرة الحياة، كما سنرى مع أمين الخولى لا سواه.
فيقدم الخولى لطلابه عرضا جيدا لنظرية التطور مع إمامها تشارلز دارون مع الإشارة إلى الرواد الآخرين لامارك، وألفرد والاس وببيانه المحكم البديع، يوضح الخولى كيفية تفسيرها للحياة، فأنواع الأحياء - وعلى رأسها الإنسان - لم تظهر هكذا منذ خلقت، بل هى دائمة التغير من حال إلى حال، وبهذا تتطور من البساطة إلى التركيب المتدرج بالتغير والتطور تنشأ بعض الأنواع عن بعض، وترتقى بعمل ناموس الانتخاب الطبيعى - بقاء الأصلح للحياة وانقراض ما عداه. ويتهكم الخولى من رد النظرية إلى القول الدارج: إن الإنسان أصله قرد! ولا يفوته تعداد مواطن القصور المعروفة فيها.
ويبين الخولى أصول نظرية التطور فى الفكر البشرى، عند الإغريق ثم عند الإسلاميين، خصوصا مع جماعة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، ومع ابن سينا، وابن طفيل، والقزوينى، وابن خلدون.
وهنا يتوقف الخولى لتبيان أن نظرية التطور الحديثة فى صلبها لا تتناقض مع العقيدة الدينية ولا تتعارض مع الإسلام، والقرآن هدى للمتقين لا درسا فى الفيزياء والكيمياء والأحياء، والإسلام فى أصوله وفروعه يحث على عمل العقل، ويستحيل أن يصادر على نظرية أو تفسير علمى ما. أما مقاومة نظرية التطور والنزاع الشهير بشأنها فى أوروبا وأمريكا، فهذا – كما يؤكد الخولى - لا يخصنا؛ لأنه تناقض بينها وبين نصوص فى التوراة.
وقد أرسى بناءه المنهجى التجديدى على ما أسماه "التفسير البيانى للقرآن"، كان محور هذا الضرب من التفسير هو إظهار الإعجاز البلاغى للقرآن، لكن الخولى يرى أن ما ألف فى هذا الغرض من التفاسير السابقة ينطلق فى معالجته للنص من منطلق دعوى وتراثى، لذلك كانت الجهود مسخرة لغايات دفاعية عن الإسلام، ولم تكن العناية بالجانب البيانى اللغوى غاية فى حد ذاتها. ويتحدد مدخل التجديد عند الخولى والمدرسة الحديثة كلها فى وظيفة المفسر أولا، وفى مكانة النص المفسر ثانيا، فليس مقبولا عند الخولى أن يظل التفسير المعاصر مجرد أداة لاختيارات مذهبية وتوظيفات دعوية مهما كانت أهميتها.