رسالة الإمام يثبت أن الفن أقوى من أي سلاح
العمل حرض الشباب على التنقيب في سيرة ثالث الأئمة
نحتاج إلى تخصصات بينية تجمع التاريخ والاجتماع بالدراما
فقه الشافعي وتحدي التعصب هدف صناع العمل
أثار مسلسل الإمام الشافعي "رسالة الإمام" كثيرًا من الجدل والذي بدأ قبل عرضه، واتهم فريق كبير من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي المسلسل بتزوير التاريخ تارة وتشويه فقه الإمام الشافعي تارة أخرى، بل وبسرقة بعض الأبيات المنسوبة لشعراء بعضهم معاصرون، وبدت حملة الانتقاد ذات وجهين؛ نمط غوغائي أقرب لإثارة البلبلة وإسقاط المسلسل في بئر التسييس المعرفي المرتبط بالحكم في مصر، ونقد بناء يحمل أبعادًا جادة من قبل متخصصين.
أكثر ما أخشاه أن ما حمله هجوم التيار الأول كان يحمل أبعادا ترفض تأثير مصر سياسيا وفقهيا وتاريخيا، فرفضوا فكرة العمل بأن فقه الإمام الشافعي قد تأثر بالبيئة المصرية، فيما يرتبط بـأنثروبولوجيا الفقه الإسلامي.
نقد مقولة بطلان تأثر الشافعي بالبيئة المصرية
ظهرت دراسات عديدة تنتقد القول بتأثير البيئة المصرية في الفقه الشافعي، ولعل منها دراسات قدمها د. ناجي لمين أستاذ الفقه والأصول بدار الحديث الحسنية بالرباط، وفي المغرب يسود الفقه المالكي، وكان من ذلك عنوان دراسته: " دحض مقالة تأثر فقه الإمام الشافعي بالبيئة المصرية" عن دار الكلمة عام 2012م، وقد قال باستحالة تغير فتاوى الإمام بقدومه لمصر، واعتبر أن أول من أطلق تلك الدعاوى في مطلع القرن الماضي الأستاذان أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" وعبد الرحمن الشرقاوي في كتابه "أئمة الفقه التسعة"، ورددها عدد غير قليل من العلماء المعاصرين.
وقال د. الناجي، إن أصحاب الشافعي القدامى لم يعرفوا عنه أنه يقول بالعرف أصلا ولا بالاستحسان ولا بسد الذرائع، بل لا يقول حتى بأصل عمل أهل المدينة مهبط الوحي ومقام النبي صلى الله عليه وسلم وفقهاء الصحابة من بعده، ولقد انكر الشافعي على مالك أخذه بعمل أهل المدينة في أكثر من موضع من كتبه.
وفي رسالته أكد الباحث المغربي أن الشرع عند الشافعي إما نص أو ما حمل على النص (اي القياس)، أو إجماع، ولم يجد في ذلك أثرًا لبيئة مصر ولا صيفها ولا شتائها، واعتبرا أن الغرض من ترويج هذه المقولة هو تمرير فكرة وجوب خضوع الاجتهاد الفقهي الى الأمراض التي يحدثها في المجتمع بعض "ضعفاء النفوس"، فيصبح الاجتهاد الفقهي تابعا لهوى المكلفين لا ضابطا له.
ورغم أن د. الناجي لم ينفِ التأثر بالواقع الزماني والمكاني مطلقا عند المفتي او الفقيه، لكنه انكر استحالة هذا مع فقه الإمام الشافعي في مصر على وجه الدقة!
وقال بأنه قد درس كتاب الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والاعتكاف، والحج والبيوع، والنكاح والطلاق والقصاص وباقي الأبواب الفقهية، ولم يجد انتقال الشافعي من قول قديم إلى آخر جديد هو ما وجد عليه أهل مصر من عادة كذا أو عرف كذا، وبرغم أن الرسالة الجديدة للشافعي بالفعل عامرة بالاختلافات في قضايا البيوع والنكاح المختلفة تماما بين بيئة الحجاز والعراق ومصر!
والأخطر في قول د. الناجي أنه قد نفى تتبع الشافعي سيرة الإمام الليث وحزنه لضياعها وعدم تدوين فتاواه ومساجلاته مع الإمام مالك رحمهما الله.
التاريخ والفقه.. من النصوص للمشاهدة
لا يستطيع أحد من مؤرخي عصرنا والمشتغلين بالعلوم الاجتماعية إنكار تأثر الفقيه والمؤرخ والمحدث بالبيئة المحيطة به، وعادة لا يقتصر المؤرخون على النصوص الدينية وقراءتها، ويغفلون نظرية الممارسة التي تدور حول الحياة الاجتماعية والإنسانية داخل المؤسسات والمدارس والمذاهب الإسلامية، ومن ذلك ما ذكره المقريزي في المواعظ والاعتبار.
وقد نشأت في مصر أربعة وعشرين مدرسة فقهية خصص منها ست مدارس للشافعية: ( احمد فكري: مساجد القاهرة ومدارسها ) ويستحيل للمصريين علي الإطلاق تبني مذهب وانتشاره في وجه بحري ما لم يتأثر بعاداتهم وتقاليدهم.
لقد تكونت مدارس في العصر الإسلامية سواء الممارسة المفروضة بقوة السلطة او التي يمارسها طلاب العلم في المساجد والزوايا والخانقات حتى أننا ندرس الجوانب السيسيولوجية من تجمع طلاب العلم حول الشيخ، ثم التجمعات حوله بعد انتهاء مجالس العلم، وتأثيرات ذلك على الفقيه والمفتي.
ومن هنا فإن نفي تأثر الشافعي بالبيئة المصرية فيها إجحاف شديد وخلل منهجي لفكر فقيه رحل وارتحل من مدينة إلى أخرى.
الغريبة أن الباحث المغربي نفسه قد أقر بأن الحقيقة وهي المؤثر الاجتماعي والسسيولوجي تقبل التأثير والتأثر، وقد شاع عن الشافعي قوله: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، فالتغيير لم ينشأ من شك واضطراب، ولكن عن بحث واجتهاد وتأثير المحيط به بالطبع.
هدف الهجوم علي العمل
غاب عن كل من هاجم المسلسل " رسالة الإمام" هدفه الذي يكمن في تبيان أثر البيئة المصرية على فقه الإمام الشافعي، ونزعة فقهه لمواجهة الغلو والتعصب والتشدد المذهبي.
الحقيقة أن الإمام الشافعي أخطر من أن يحسبه البعض مجرد فقيه عابر ضمن الفقهاء الأربعة، فلقد أثر ودون مبالغة على طريقة تفكير المسلمين، ولمن يريد أن يصدق عليه الذهاب إلى ضريح الشافعي في منطقة التونسي بقلب القاهرة المملوكية ليعرف المزيد.
لقد أُجيز الإمام مالك الشافعي، وهو من هو في صرامة معاييره بالفُتيا، وكان- لم يزل- صبيًا في الخامسة عشر من العمر!
لقد رحل إلي مصر ومكث فيها وتتبع سيرة ومذهب وأثر الإمام الليث بن سعد فكيف لم يتأثر بالبيئة المصرية، وبهذه الألمعية العقلية المذهلة التي التقطها الإمام مالك فيه، وهو يخالفه الرأي في مسألة يفتي فيها مالك.. بل ويستدل عليه بمالك نفسه، فكأنه يحاجج مالكا بمالك!
عبقرية الشافعي الباقية
هذا الشيء المذهل في جنبات وحياة الشافعي هو ذاته الذي اجتذب إليه الإمام أحمد بن حنبل، فسعى وراءه بعزم لا يلين وبرغبة جارفة في التعلم منه، حتى يتعجب رفيق أحمد، والفقيه والمحدث الكبير "يحيى بن معين".. من هذا السعي الذي يتملك ناصية ابن حنبل إزاء الشافعي، فيرد ابن حنبل: إن فاتنا حديث بطالع وجدناه بنازل وإن فاتنا بنازل وجدناه بطالع.. ولكني أخشى أن يفوتنا عقل هذا القرشي إلى يوم القيامة!
وهي الإشارة المدهشة من أن ابن حنبل أدرك أن "عقل" الشافعي ومحاولة فهم كيف يبني أحكامه وكيف يحبك آراءه.. أهم بكثير من أي مسألة أخرى.
الشافعي نفسه كان يتجول في الأسواق في مصر ويدرس التاريخ ويتعمق في اللغة كأنها علوم منفصلة عما شغل نفسه به، لكنه من ناحية أخرى كان يستوعب كل هذا ويهضمه ويعيد إنتاجه في بناء علمي اجتماعي متماسك.
لقد وصل به الحال حين ذهب للصلاة في بلدة أبي حنيفة.. أنه صلى بهيئة صلاة الأحناف لا بالهيئة التي استقر عليها رأيه ومذهبه.. من عظيم التأدب مع أبي حنيفة حتى وهو جثة راقدة ان ينقل فقه الرجل في بعض المسائل اليس هذا تأثير وتأثر؟!
المصريون هنا يقرون بعد هذه القرون أن الشافعي ولي من أولياء الله المحققة لهم درجة الولاية.. ولم ينظر له كمجرد عالم مذهب ولا فقيه مؤسس، ينظر إليه الوجدان المصري كولي متصرف.. لا كمجرد مشتغل بالشريعة وينظر له المؤرخ علي انه سيسيولوجي بارع نفذا في اوصال المجتمعات ونقلها في أوراق كتاب" الأم" المؤسس لعلم أصول الفقه ودواوين الشعر والأدب.
والشافعي نفسه الذي لقي ربه وهو ابن ٥٤ عاما تقريبا، أنجز منجزه الهائل وهو تحت ضغط هائل من العباسيين.. ودون أن يتراجع عن معتقده في آل البيت الذين طارد العباسيون مناصريهم ومحبيهم وتخوفوا منهم..
فهو صاحب القصيدة الشهيرة التي منها: لئن كان رفضا حب آل محمد.. فيشهد الثقلان أني رافضي..
والحقيقة أن الشافعي إنما قدم إلي مصر ليس لمجرد الرغبة في مصاحبة الوالي، فقد كان يتشوف إلي مصر من قبل ويري انه كان يحتاج إلي معرفة عاداتهم وتقاليدهم
ورووا له شعرا ً:
لَقَد أَصبَحَت نَفسي تَتوقُ إِلى مِصرِ وَمِن دونِها أَرضُ المَهامَةِ وَالقَفرِ
فَوَاللَهِ لا أَدري أَلِلفَوزِ وَالغِنى أُساقُ إِلَيها أَم أُساقُ إِلى القَبرِ
وقد روي هذا الشعر أبو بكر بن محمد الهماذي المعروف بابن الفقيه ( مصطفي باشا عبد الرازق: الإمام الشافعي، ص31 )
وهو الذي وسط المعارك الضارية سيطلب أن تمر جنازته أمام بيت السيدة نفيسة حفيدة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب في مصر بلد الأطهار.. كلمسة وفاء ووداع أخيرة قبل أن يواريه التراب..
شجاعة الشافعي ومواجهته للخصوم واهل الغلو والتشدد من متمذهبي عصره ومدعي العلم على كل الجبهات.. هي القيمة الوحيدة التي ربما تناطح عبقريته المذهلة..
مات الشافعي وكان عليه دين وذكر الأستاذ مصطفي منير أدهم في رسالة " رحلة الإمام الشافعي إلى مصر " أن اهل الإمام ذهبوا إلي الوالي في صباح الليلة التي توفي فيها رحمه الله وكان الوالي هو محمد بن السري بن الحكم، وطلبوا إليه الحضور لتغسيل الإمام كما اوصي، فقال لهم الوالي: هل ترك الإمام دينا: قالوا نعم فأمر الوالي بسداد الدين كله، ثم نظر إليهم وقال لهم، هذا معني تغسيلي له (ص 41).
الدراما تاريخ أم التاريخ هو الدراما
يجب ان نفصل بين التاريخ والتأريخ بالهمزة، فالأول (التاريخ) هو الكتابة عما حدث، تجسيدًا عما حدث، أما (التأريخ) بالهمزة فهو إعادة قراءة ما حدث، بصورة أخرى أقرب إلى الحقيقة، وهنا الإشكال بين الدراما والتاريخ.
وجدل مراجعة الازهر يحتاج إلى نظر، معظم صناع الدراما والوثائقيات لا يحترمون الأزهر والمتخصصون في مجالات علم اجتماع الدين، لا أظن أن الازهر راجع العمل رغم وجود إحدى إدارات الأزهر المهمة المعنية بهذا الأمر من الناحية الشرعية ومن المفروض أن تستعين بالأكفاء في جميع المجالات، بل والاتصال بتكليف وطني للتنفيذ الفوري، وهي مهمة هذه الإدارة، وهي " الإدارة العامة للبحوث والتأليف والترجمة" وكانت وأقول كانت.. معنية بمراجعة ما ينشر من مسلسلات دينية، وراجعت عشرات المسلسلات في السابق.
قال صناع العمل بأنهم عادوا للأزهر وللجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وإن كان الأمر يحتاج لمراجعة أدق وأشمل، ولكن على أية حال بخصوص اللغة وفي ظل عجمة اللسان، لا أظن أنه يمكننا قتل عمل بكامله لأجل كلمات نطقها غير سليم أو مفردات عامية قال بها الإمام، وبالتأكيد كان تلافيها أفضل.
هناك الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وقد راجعت وأقول قد راجعت.. مثلًا مسلسل "أوراق مصرية" بجميع اجزائه والمسلسل تظهر به بصمة الجمعية ووثائقها الرصينة والمرموقة المحفوظة عن الحركة الوطنية المصرية.
هناك جميعيه المؤرخين العرب والمعنية بتحقق تحولات المؤرخين المصريين والعرب وما يخص هذا الامر وهذا العمل يفتح إشكالية اين المتخصصون والمؤرخون أظن انهم غائبون عن كثير من الاعمال الفنية والوثائقية المرموقة الخاصة بوطننا العزيز مصر وتاريخ الإسلام والمسلمين وتحولات الشخصيات الفكرية والثقافة .
ولا ننسى أنه عمل فني درامي وليس مصدرا تاريخيا يستقي منه العلم، بل عمل يسعى لأن يُجلي الحقائق مما التبس بها من غموض.. يبسطها حتى تبدو مفهومة وواضحة وبأسهل لغة ممكنة.. وهنا أري أن رسالة العمل الدرامي في "رسالة الأمام" قد تحققت، كيف يقدم التاريخ نفسه لنا ؟ كيف أصبح جزءا مهما فى ذاكرتنا؟ كيف قدم لنا الموقعون عن رب العالمين مرآة حياتنا.
الماضي غير قابل للنسيان.. وهذا ما قدمه العمل وصناع العمل وهو غير قابل للتدمير أو حتى التجاهل؛ ليس لأنه ساهم بقوة فى صناعة واقعنا المعاصر فحسب، بل لأنه - وهو الأكثر أهمية - مستمر معنا بتأثيراته الممتدة فى تحديد مسار قطعناه إلى المستقبل.
لقد انتصر المسلسل للتاريخ، واعتمد على المتخيل في جانب منه، وأجبرنا على أن نغوص في شخصية الفقيه الشافعي ابن ادريس الذي تحمل له قلوبنا مكانة خاصة..رضي الله عنك في برزخك أيها الإمام الحبيب..