«هنا السيدة».. هنا بهجة رمضان في أسمى معانيها، خطوات معدودة فى ميدان السيدة زينب كفيلة لتحملك إلى عالم آخر من روحانيات الشهر الكريم، فما بين أصوات مشاهير قراء القرآن الكريم والأغاني الرمضانية يأخذك مزيجًا مختلفًا من المشاعر المفرحة التي تعيد لنا ذكريات الطفولة والشوق للماضي، ومن السيدة كانت بداية رحلتنا مع بداية الشهر الكريم، فى المقاصد التاريخية لصناعة وتجارة الفوانيس فى محافظات القاهرة الكبرى.
«السيدة» منبع الفوانيس
ولعل بداية الرحلة من السيدة زينب تأتي لشهرتها كونها منبع صناعة وتجارة الفوانيس فى قلب قاهرة المعز بل وهي الوجهة الأولى لكل من يرغب فى شراء الفوانيس لأطفاله الصغار أو بغرض الزينة فى المنازل والشوارع.
وعلى بعد خطوات من مسجد السيدة زينب، وفى الشوارع الجانبية المتفرعة من شارع بورسعيد، وجدنا الآلاف من الفوانيس المتراصة بأشكالها المختلفة والمتنوعة إلا أن الفوانيس المعدنية التراثية لا تزال تتصدر المشهد، إلى جانب العديد من الأشكال البلاستيكية والخيامية التي تزين الأجواء.
كما كان للأشكال الكرتونية حضور بارز، فبجانب الكتل المعدنية الضخمة للفوانيس المعدنية تأخذ الشخصيات الكرتونية الشهيرة مثل بكار وبوجي وطمطم، والحضور الطاغى لشخصيات كارتون «فنانيس» التى ملأت شوادر الفوانيس.
ورغم التنوع الكبير والإقبال على الفوانيس مطلع الشهر الكريم، إلا أن الظروف الاقتصادية أثرت على المبيعات بشدة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الفوانيس التي ارتفعت بنسب تتراوح من ٥٠ إلى ٧٠ ٪ على الأقل فيما تضاعفت أسعار بعض الأصناف لتتجاوز الزيادة نسبة ١١٠٪.
مبيعات الفانوس
«ظروف البلد مأثرة علينا أوي» بهذه الكلمات يبرر يوسف عبد العال، أحد تجار الفوانيس بالسيدة زينب، تراجع المبيعات هذا العام، وقال: «الظروف اللي بيمر بيها الناس خلت الفوانيس مش على أولوياتهم إلا للضرورة أو كهدايا، لذلك على الرغم من الازدحام الشديد فى السوق إلا أن المبيعات ليست بأحسن حال».
وأضاف “عبد العال”، فى حديثه لـ«البوابة»: «المبيعات أقل من السنة الماضية ٣٠ ٪ على الأقل، والأكثر من ذلك أن مبيعات العام الماضى لم تكن كبيرة أيضا، فبالتالي المبيعات فى تراجع مستمر، كما أن ارتفاع أسعار الفوانيس نتيجة لارتفاع أسعار المواد الخام كان له دورًا كبيرًا في تراجع المبيعات.
الخيامية.. إقبال على الأقمشة وتراجع بيع الفوانيس
ومن السيدة إلى الأزهر، وبالقرب من وكالة الغوري، اكتست محال الأقمشة على طول شارع الأزهر بشتى أنواع قماش الخيامية التي تشهد إقبالا كبيرًا من قبل المواطنين فى أول أيام شهر رمضان، وفى شارع الخيامية بالأزهر يجلس صناع الفوانيس الخيامية المكونة من الأخشاب والأقمشة، وتتعالى أصوات الأخشاب والمطارق، فى حين تتسم محال أخرى بهدوء تام حيث أرباب الحرف اليدوية ينسجون على الأقمشة أشكالا تراثية غاية فى الجمال.
اقتربنا من أحد المحلات الشهيرة لصناعة فوانيس الخيامية لنسأل عن مبيعات الفوانيس لديهم، فقال محمد عثمان، أحد صناع فوانيس الخيامية: «المبيعات الحمد لله طبيعية إلى حد ما فى ظل غلاء أسعار المواد الخام فالأقمشة زادت، وتبدأ أسعار المتر من ٣٥ جنيها حتى ١٥٠ جنيها حسب الخامة والثقل، كما أن الأخشاب زادت أسعارها».
وأضاف عثمان، أنه بالطبع المبيعات تأثرت بتغير احتياجات المواطنين، فمع زيادة أسعار المواد والسلع الأساسية، سيكون بالطبع لها تأثير على أى منتجات أخرى، قائلا: «الناس بتدور على لقمتها وجنب اللقمة مفيش أى حاجة مهمة فالواحد فينا هيكفى بيته الأول أكل وشرب بعدين هيدور على أى حاجة تانية، بس احنا الحمد لله مطمنين والفوانيس جزء مهم فى تراثنا وهنفضل نبيع إن شاء الله».
ومن السيدة والأزهر والغورية إلى محافظة الجيزة حيث زادت الفوانيس من ازدحام الميدان المكتظ بالسيارات والمارة فى الأصل، لتسيطر شوادر الفوانيس القريبة من محطة قطارات الجيزة على المشهد الرمضانى، إلا أن الفوانيس الخشبية كانت السائدة نظرا لوجود العديد من ورش تصنيع الفوانيس الخشبية فى الشوارع المتفرعة من الميدان فى شارع الصناديلى وحارة المنشاوى.
وتوقفنا أمام أحد الشوادر لسؤاله عن رواج الفوانيس الخشبية، فقال عبد الرحمن محمد، أحد بائعي الفوانيس، إن سبب الإقبال على الفوانيس الخشبية هو أن سعره أرخص من المعدنية والبلاستيكية المستوردة، حيث يتراوح سعر الفانوس من٤٥ جنيها إلى ٢٠٠ جنيه للمقاس الكبير، فيما يبدأ الفانوس البلاستيك أو المعدن من ١٢٠ جنيها وصولا إلى ٣٠٠ جنيه فأكثر حسب الحجم. وبسؤاله عن أشهر الأنواع وأسعارها، أكد عبد الرحمن، أن الفانوس المعدن هو موضة هذا العام حيث تتعدد أشكاله وأنواعه، إلا أن متوسط أسعاره ٢٧٠ جنيها، كما أن فانوس محمد صلاح يبدأ من ١٦٥ جنيها، ولا يزال ضمن الأكثر مبيعا إلى جانب «فنانيس» بشخصياته المختلفة، والتي تلقى رواجا كبيرا وبخاصة من الأطفال وتبدأ أسعاره من ٩٥ و١٥٠ وحتى ٢٤٠ جنيها.
3 روايات تحكي قصته
لا شك أن الفانوس أحد التقاليد المصرية الخالصة التى ارتبط بها ملايين المصريين عبر التاريخ، إلا أن قصة الفانوس وارتباطه بشهر رمضان لا تزال محل دراسة حتى يومنا هذا، حيث تعددت الروايات حول تاريخ وأصل الفانوس، وبعدما كان الفانوس مصدرا للإضاءة فى المنازل فى العصر الإسلامى، إلى مصدر متحرك يدل الناس على طرقهم فى الظلام، حيث استخدمه الكثيرون في الإضاءة ليلا للذهاب إلى المساجد وزيارة الأصدقاء والأقارب.
ولعل كلمة الفانوس هي كلمة من أصل إغريقي، وكانت تستخدم للإشارة إلى إحدى وسائل الإضاءة، ولكن الانتشار الكبير للفانوس بحسب إحدى الروايات جاء فى العصر الفاطمى، حيث كان الخليفة الفاطمى كان يخرج إلى الشوارع ليلة الرؤية ليستطلع هلال شهر رمضان، وكان الأطفال يخرجون معه ليضيئوا له الطريق، حيث كان كل طفل يحمل فانوسه ويقوم الأطفال معا بغناء بعض الأغانى للتعبير عن سعادتهم باستقبال شهر رمضان المبارك.
وفى رواية أخرى قيل إن أحد الخلفاء الفاطميين أنه أراد أن يضيء شوارع القاهرة طوال ليالى شهر رمضان، فأمر كلشيوخ المساجد بتعليق فوانيس يتم إضاءتها عن طريق شموع توضع بداخلها، فيما روى البعض أنه خلال العصرالفاطمى، لم يكن يسمح للنساء بترك بيوتهن إلا فى شهر رمضان وكان يسبقهن غلام يحمل فانوسا لتنبيه الرجال بوجودسيدة فى الطريق لكى يبتعدوا، وبهذا الشكل كانت النساء تستمتعن بالخروج وفى نفس الوقت لا يراهن الرجال.
وعن السبب وراء التراجع الكبير فى مبيعات فوانيس رمضان، قال بركات صفا، عضو شعبة الألعاب الأطفال بغرفة القاهرة التجارية، إن الإقبال هذا العام ضعيف، كما أن الأسعار فى ارتفاع مما دفع قطاعا كبيرا من المواطنين للعزوف عن شراء الفوانيس جزئيا أو كليا، وذلك بسبب تغليب المصروفات لصالح شراء السلع الأساسية كالأغذية والمشروبات، لذا وجدنا نسبة كبيرة من المستهلكين قررت الاستغناء عن شراء الفوانيس.
ولفت "صفا" إلى أن أسعار الفوانيس ارتفعت بنسبة تتراوح من ٥٠ ٪ إلى ٦٥ ٪ مقارنة بالعام الماضي، نتيجة لارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج والمواد الخام نتيجة لقرارات وقف الاستيراد، لذلك نجد أن الفانوس المعدن أو الصاج تراوحت أسعاره من ١٠٠ إلى ٧٠٠ جنيه حسب المقاس والحجم بالنسبة للأحجام المتوسطة والصغيرة، فيما كانت الفوانيس الخشبية صاحبة الأسعار الاقتصادية لتبدأ من ٢٠ إلى ٢٠٠ جنيه.
وعن الإنتاج المحلى من الفوانيس، أكد أن الإنتاج أيضا تأثر بارتفاع مستلزمات الإنتاج والمواد الخام بشتى أنواعها، إذ تقلص الإنتاج من ٥ ملايين فى العام الماضى، إلى نحو ٢.٢ مليون فانوس العام الجارى، حيث اضطرت بعض المصانع إلى خفض إنتاجها بنسبة ٨٠٪.
من جهته، قال محمد حسن، وكيل شعبة الأدوات المكتبية ولعب الأطفال بالغرفة التجارية بالقاهرة، إن الارتفاع فى أسعار الفوانيس كان متوقعا فى ظل الارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام، وزيادة تكاليف الإنتاج، مشيرا إلى أنه على الرغم من التحديات التى تواجه صناعة الفوانيس المصرية إلى أنها لا تزال تتمتع بسمعة طيبة وتصدر للعديد من الدول العربية وعلى رأسها الإمارات وليبيا والسعودية.
وأضاف حسن، أن الدولة تعمل على حماية صناعة الفوانيس المصرية، ولعل قرار حظر استيراد الفوانيس الذى أصدرته وزارة الصناعة والتجارة فى ٢٠١٥ كان من أبرز هذه القرارات، وهو ما دفع العديد من الصناع لتطوير ابتكاراتهم فى صناعة الفوانيس إلا أن ارتفاع أسعار الخامات تشكل تحديا كبيرا أمام الصناع.
حظر الفوانيس المستوردة وحماية الصناعة الوطنية
وكانت مصر قد حظرت استيراد الفوانيس بالقرار رقم ٢٣٢ لسنة ٢٠١٥ الصادر من منير فخرى عبد النور وزير التجارة والصناعة الأسبق، فى أبريل ٢٠١٥، ونص على وقف استيراد فوانيس رمضان من كل دول العالم والاعتماد على الصناعة المحلية، ومنع استيراد الموزاييك والمعادن وكل الفوانيس المستوردة من الخارج، ورفض دخول أى شحنات منها اعتبارا من ٥ أبريل ٢٠١٥.
وعلى الرغم من قرار حظر الاستيراد إلا أن السوق المصرية به كميات كبيرة من الفوانيس المستوردة، وذلك نتيجة لتحايل بعض التجار والمستوردين والتجار على قرار وقف الاستيراد، وجلب الفوانيس من الخارج ضمن ألعاب الأطفال والأدوات المكتبية، ومعظم هذه الفوانيس تأتى من الصين وماليزيا، بحسب مصدر بشعبة الخردوات والهدايا بالاتحاد العام للغرف التجارية رفض ذكر اسمه.
وأضاف المصدر إنه على الرغم من جهود سلطات الجمارك وهيئة الصادرات والواردات التي تحظر أى شحنات فوانيس مكتملة الصنع، إلا أن التحايل لا يزال مستمرا سواء باستيراد فوانيس بأشكال مختلفة بخلاف الشكل التقليدى للفوانيس، لذلك تدخل على أنها لعب أطفال.
الفانوس وعلاقته بالمصريين فى رمضان
وعن علاقة المصريين بالفانوس، فقد بدأت فى العصر الفاطمى أيضا وبالتحديد مع دخول المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة قادما من الغرب، وكان ذلك فى يوم الخامس من رمضان عام ٣٥٨ هجرية، حيث خرج المصريون فى موكب كبير اشترك فيه الرجال والنساء والأطفال على أطراف الصحراء الغربية من ناحية الجيزة للترحيب بالمعز الذي وصل ليلا،وكانوا يحملون المشاعل والفوانيس الملونة والمزينة وذلك لإضاءة الطريق إليه، وهكذا بقيت الفوانيس تضئ الشوارع حتى آخر شهر رمضان، لتصبح عادة يلتزم بها كل سنة ويتحول الفانوس رمزا للفرحة وتقليدا محببا فى شهر رمضان.