التصوف جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامى المعتدل، والمقصود به تزكية النفس وإصلاح القلب وتعمير الظاهر والباطن بكل خير للوصول إلى مقام الإحسان. «البوابة» تحاور الدكتور أحمد البصيلي، عضو هيئة التدريس، رئيس قسم الأديان والمذاهب بكلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر، للحديث عن التصوف وجوهره ومنهجه وعلاقته بالواقع، وعلاقته بالتيارات الدينية الأخرى والمشاكل التى يعانى منها، كما يتحدث عن الإنشاد الديني وعلاقته بحب المصريين للرسول وآل بيته، مشيرًا إلى أن الإنشاد الديني والمديح فى مصر، فيه تقديس للذات الإلهية وتعظيم فى حضرة النبى ومدحه وآل البيت، وعلاقة الشعب المصرى بآل البيت علاقة فريدة منذ دخول الإسلام، وهذه الابتهالات التى ورثناها عن مشايخنا، والتى رأيناها فى التاريخ المجيد للمنشدين المصريين قلما نجد مثلها لدى شعب من الشعوب.. فإلى نص الحوار.
■ حدثنا عن رؤيتك للتصوف؟
- الدكتور أحمد البصيلي: إن الدين الإسلامي يتمثل فى ثلاث دوائر متداخلة، الدائرة الكبرى تسمى بدائرة الإسلام وأركانه الخمسة والدائرة فى مركزها تسمى بدائرة الإيمان وأركانه ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وبداخلها فى المركز والقلب، دائرة تسمى بدائرة الإحسان، والإحسان هو التصوف، والإحسان أنك تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. والإحسان هو زبدة خلاصة الدين، والتصوف الحق باختصار ألا يكون فى قلبك غير الله، وهو المنهج الذى ربى عليه رسول الله صحابته، والقرآن يرسخ لهذا التصوف، فيقول: (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين)، والتزكية هنا، هى التصوف، هى التربية الروحانية النورانية، وفيها الأسرار والأنوار، والتصوف يعنى عرفت ربى بربى ولولا ربى ما عرفت ربي.
إن التصوف كما قال الإمام علي، عندما قالو له: "هل رأيت ربك يا إمام"، قال: "وكيف أعبد ما لا أرى؟"، فقالوا: "وكيف رأيته؟"، قال: "إذا كانت العيون لا تراه بمشاهدة العيان فإن القلوب تراه بحقيقة الإيمان".
■ وماذا عن التصوف على أرض الواقع؟
- لا بد من التفرقة بين التصوف كمنهج والتصوف كواقع، التصوف كمنهج لا يختلف عليه أحد من العقلاء، حتى الملحدين لا يختلفون معنا على جوهر التصوف، وجوهره أن نصفى القلب، وحينما نتعامل أو نتواصل مع الخلق، لا ينبغى أن تكون المعاملة مرهونة بغايات مادية، وإنما نرتقى بالعلاقات إلى مستوى الروحانيات، وإذا قلنا للناس صفوا قلوبكم، لن يختلف أحد معنا على ذلك، وهذا هو التصوف. والتصوف فى الواقع مليء بالمشكلات، لأن الصوفية جزء من المجتمع، والذي توجد فيه مشكلات لها انعكاسات على الفقهاء، وعلى المحدثين، وعلى الرؤساء والمرؤوسين، وعلى الوطن والمواطن، على العادات والتقاليد، وكذلك على الصوفية، وهذه العادات التى نحن أسرى لها تلقى بظلالها وبظلامها أحيانا على تخصصاتنا. وعلى هذا، فكل الخلافات التى بين الصوفية والسلفية، أو بين الصوفية والإخوان، مردها فى أمرين، الأول أن هناك مشكلات لا بد أن نعترف بها فى البيئة أساسها الجهل وحب الدنيا، والأمر الثانى أن هناك سوء فهم من أصحاب التيارات الأخرى أنهم لا يستوعبون حقيقة التصوف.
■ إذا أردنا الحديث عن الإنشاد.. فما الأدلة الشرعية على جواز المديح، وكيف تطور تاريخيا؟
- دعنى أتحدث عن واقعة تاريخية مهمة، سيدنا كعب بن زهير كان رسول الله قد أباح دمه، يعنى بمفهوم العصر حكم عليه بالإعدام، ولم يجد "كعب" سبيلا يخرج به من غضب رسول الله إلا باب المديح والإنشاد، وجهز قصيدة عصماء مطلعها: "بانت سعاد فقلبى اليوم متبول"، ثم دخل على مجلس رسول الله وهو ملثم وكشف اللثام عن وجهه أمام النبى الكريم وأنشد هذه القصيدة فى مدحه عليه الصلاة والسلام، إلى أن قال: "إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول"، فعفا عنه رسول الله وأمنه وضمنه وأدخله فى جواره، ثم أهداه بردته الشريفة، وذلك كله دليل دامغ على أن رسول الله كان يعلم الصحابة كيف يمدحونه وكيف ينشدون الشعر فيه.
وفى واقعة أخرى كان رسول الله فى عمرة القضاء، وكان سيدنا عبد الله بن رباحة ينشد الشعر فى مدح رسول الله ونهره سيدنا عمر، فقال له رسول الله يا عمر دعه فوالذى نفسى بيده إن لكلامه وقعا فى قلوب العدو أشد من نطع النبال، أى أن السلاح الإعلامى الذى كان يعتمد عليه رسول الله في أي حرب هو سلاح المديح والإنشاد.
وفى واقعة سيدنا حسان بن ثابت، الذي كان على وشك الدخول فى الإسلام، فأغروه المشركون بالمال والمناصب وطلبوا منه قصيدة عصماء فى هجاء رسول الله، ولكنه وبمجرد رؤية الرسول الكريم، لم يتمالك نفسه، وقال: "خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ، وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عينى وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ"، حتى أن النقاد والأدباء فى العصر الحديث، يقولون إنهما أصدق بيتين قيلا فى مديح سيدنا رسول الله وأصبح بالمديح والإنشاد من أخلص المجندين لرسول الله، لدرجة أنه كان يدافع عن الرسول بالشعر والمديح، ويقول له النبى قل وروح القدس تؤيدك.
وحينما فتح الله حصن خيبر على يد الإمام على بن أبى طالب، سيدنا حسان قال شعرا فى مدحه: "جبريـل نادى معـلنًا والنقـع ليس ينجلى والمسلمـون أحدقـوا حـول النبى المرسل لا سيـف إلاّ ذو الفقـار ولا فـتى إلاّ عـلى".. لذلك الإنشاد جزء لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية بصرف النظر عن التصوف، وأول من مدح الرسول، هو الله سبحانه وتعالى، حينما قال فى القرآن الكريم (وإنك لعلى خلق عظيم).
■ ولماذا تعد مصر دولة الإنشاد بحق؟
الإنشاد إذا لم يقترن بالمحبة يكون كلاما لا يلامسه شغاف القلوب، ولابد أن يكون المنشد محبا لسيدنا رسول الله ومحبا لآل البيت.. والإنشاد فى مصر فيه تقديس للذات الإلهية وتعظيم فى حضرة النبى ومدحه وآل البيت، وعلاقة الشعب المصرى بآل البيت علاقة فريدة منذ دخول الإسلام، وهذه الابتهالات التى ورثناها عن مشايخنا، والتى رأيناها فى التاريخ المجيد للمنشدين المصريين قلما نجد مثلها لدى شعب من الشعوب.
■ كيف أدت علاقة الشعب المصرى بالنبى وآله إلى تطور فن المديح المصري؟
علاقة الشعب المصرى بحضرة سيدنا النبى وآل بيته علاقة متميزة فريدة، ربما لم تتكرر كثيرا فى التاريخ، وفى مصر من وقت دخول الإسلام فى هذا البلد إلى الآن، ومهما اختلفت الحكومات ومهما تعاقبت السياسات ومهما تنوعت منطقة صنع القرار عندنا فى مصر، فالشعب المصري على خط واحد مستقيم لا يحيد عنه فى علاقته بسيدنا النبى وآل البيت.
ولذلك المديح والإنشاد المصرى وصادق وصافي، وكما نقول القرآن نزل بمكة وكتب بالكوفة وقرئ بمصر، نقول أيضا إن المديح وإن كان رسول الله أصل له فى بلاد الحجاز، إلا أن المديح لم يطبق كما أراد رسول الله إلا فى مصر.
وكذلك عندنا كل يوم فى إذاعة القرآن الكريم عند صلاة الفجر لابد أن يكون قبلها تواشيح وتختم بمدح حضرة النبي، وأيضا فى الاحتفالات والأمسيات التى تعقدها الإذاعة المصرية، لابد أن تكون الأمسية مشتملة على مديح حضرة النبي.
وعندنا فى مصر منشدون أصبحوا مرجعيات، سواء فى المقامات الموسيقية أو أداء النغم، حتى على مستوى تأليف الكلمات عندنا نماذج قلما تجد مثلها فى كوكب الأرض، مثل النقشبندي، ونصر الدين طوبار، وعلى محمود، وطه الفشني، ولدينا أيضا تنافس شديد فى إنتاج وإنشاء وتأليف القصائد فى مدح حضرة النبى ولأسيادنا آل البيت والصحابة.
حتى البوصيرى صاحب البردة، فهو شاعر مصرى المولد ولد فى بنى سويف ودفن فى الإسكندرية، وله قصيدته المشهورة فى مدح حضرة النبى وآل البيت والصحابة، وأحمد شوقى له أيضا نهج البردة، وكل نجوم الغناء الكبار، مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد المطلب وعبدالحليم، جميعهم قدموا أعمالا فى الإنشاد ومديح حضرة النبي.