كنت قد عكفت على كتابة حلقات عن ذكريات رمضان وساقتني الصدفة إلى أن تقع عيني على كتاب "مذكرات صائم، للكاتب أحمد بهجت والذي صدر عام 1990 في 222 صفحة من القطع المتوسط، عن دار الشروق، فاحترت بين كتابة حلقات أو عرض الذكريات من الكتاب في حلقات، وبعد تفكير قررت واخترت الخلط فسأجاور كاتبنا الكبير وأنا الصغير ليحكي وأحكي وأكون قد اقتنصت أيام المغفرة في أن يسامحني على الأمر.
يواصل عمنا أحمد حكاياته في مذكراته التي صدرت قبل 23 عاما عن رمضان ويقول: لم أكد أفتح باب منزلي حتى استقبلتني سحابة ضبابية من روائح الشواء والمسلوق والمحمر والحلوى .. مسحت شفتي الصائمتين وابتسمت زوجتي في غرفة القيادة في المطبخ:
شمت زوجتي رائحتي رغم روائح التقلية فأسرعت ترحب بي. نظرت في وجهها الطيب ونظراتها المنكسرة،
ونقلت بصري لمائدة الإفطار وقارنت بينهما معا وبين صاحبة الميني جوب، وجدت زوجتي أثقل في الميزان وأفضل . قطعا لا تعرف صاحبة الميني جوب كيف تسلق بيضتين. . جاءت زوجتي مباشرة من الريف إلى بيت الزوجية.
يواصل عمنا أحمد حديثه له ولنا دون أن تسمعه في تلك اللحظة زوجته وربما قرأت بعد ذلك: "تعتبرني زوجتي أهم موظف في الحكومة المصرية، تعتبرني الحكومة ذاتها، وتؤمن انني أشجع الناس وأعظم الناس وأحكم الناس، وهي تشبه زوجة خرجت من القرن الماضي بكل فضائله.
نحن في انتظار مدفع الإفطار .. أكبر أبنائي ينظر في ساعة الحائط ويكاد يدفع بنظراته عقارب الساعة .. تأملت مائدة الطعام.. على المائدة أهداف استراتيجية كاللحم والبطاطس، وأهداف تكتيكية كالفول والسلطة ، وثمة أهداف تكميلية كالكنافة القطايف، كمية الطعام هائلة وتوكد أن رمضان كريم .
لا نطهو بغير السمن البلدي فنحن قوم محافظون "الحديث مازال على لسان عمنا أحمد بهجت"، استخدمت زوجتي السمن الصناعي يوما فكدت أطلقها.
انطلق مدفع الإفطار وبدأت العمليات العسكرية، رحت أرقب أبنائي وهم يأكلون بحب، أصغرهم وأقربهم من
قلبي يجلس مشموما لا يأكل ولا يشرب، أمرته أمه أن يأكل ثلاث مرات فلم يستمع، فلما أمرته أنا مد يده الى الطعام فقالت أمه، لا يخاف إلا منك ربنا يخليك، انتهيت من الطعام، لم أكد أدخل غرفة النوم حتى دخلت زوجتي الغرفة ومعها طبق القطايف والكنافة .
دخلت الكنافة والقطايف تاريخ المسلمين حين خرج الحب من القلوب، وصار الإسلام سبحة معطلة وفانوسا أثريا وكلمات تتمتم بها الشفاه وتنقطع صلتها بالارادة .
تعبت من الأكل فاتكأت في الفراش.
أنا أدخل الغرفة مسرعا وأصرخ:
لا يا عم احمد لا تنام بعد الأكل، انتظر لدي سؤال.
فرك عم احمد عينيه بيده وصاح: إنت مين يا جدع! ومين دخل غرفتي؟
أنا.. أنا يا عم أحمد.. إنت إزاي مش عارفني ده أنا عارفك من زمان.. ما علينا حتى بزمان أنا هنا بقالي 3 حلقات وهنا دخل الغرفة أصغر أبنائه، يمسك بيده كتاب الدين .. وكان يبدو عليه الوقوع في مشكلة من نوع ما.
أنا: غريبة يعني يا عم أحمد ابنك بيذاكر والناس لسه بتفطر.. فالح أوي يعني.
نظر عم أحمد نحوي بغضب.. وقال لابنه: "عايز إيه يا بني"
قال الصغير فجأة: إحنا بنصوم ليه؟
فاجأني السؤال فقلت هو نفس السؤال الذي كنت اسأله يا عمنا:
فأجاب: عشان الأغنياء تحس بجوع الفقراء.
قلت انا وصغيره: طيب الفقرا يصوموا ليه؟
فقال عم احمد: هذا هو السبب التقليدي للصوم كما علموه لنا. وهو سبب غير صحيح .. لماذا نصوم ، إن الصوم في حقيقته نوع من الحب.. هو العبادة الوحيدة التي لا تظهر على صاحبها في شكل طقوس وحركات، ولهذا كان العارفون بالله يبللون شفاههم حين يخرجون الناس صائمين، فالصيام صلة بين العبد والرب، وهو صلة داخلية كسر من أسرار الحب يموت لو أعلنا عنه، كانوا يصومون عن الدنيا رغم قدرتهم عليها وتحكمهم فيها، وكانوا يصومون عما سوى الله حياء منه وشوقا إليه، وكانوا يمتثلون لأمر الله في الصوم رغم عدم فهمهم لحكمته، مثلما يمتثل المحب لأمر حبيبه ولا يسأل.
كانوا يا ولدي الصغير وانت ايها الولد الحشري "يقصدني" يتصورون أن كمال الحب أن تطيع ولا تسأل عن حكمة الإجراء وموجباته .. ذهب هذا الزمن الطيب وجاء زمن الصيام الذي نصوم فيه لنسهل عملية ابتلاع الكنافة والقطايف..
وهنا تركنا عم أحمد انا وابنه ونام وغدا نكمل معه الحوار.. رمضان كريم.