داخل قرية مترامية الأطراف، قريبة من الصحراء، ربما أردت أن تبتلعها برمالها، ولكن أبت أن تخضع لها، فأخرجت من جوفها علماء نشروا العلم فى ربوع الأرض، هنا ولد سلطان التلاوة، والصوت الحزين، الشيخ محمود عبدالحكم ابن قرية الكرنك بمركز أبوتشت، بمحافظة قنا.
كان الحاج عبدالحكم يؤمن أن العلم يرفع بيوتا لا عماد لها، والجهل يخفض بيوت العز والكرم، فما بالك لو كنت من أهل قرية تشتهر بالعلم والعلماء، فكان على الرجل الثلاثينى أن يربى ابنه بين أوراق الكتب، وينشئ الصبى على مقامات القرآن الذى حفظه فى سن صغيرة، وهو لم يكمل العاشرة من عمره، فحفظه القرآن من نوبات الدهر، وتقلبات الزمن.
بعد أن أنهى الصغير حفظه للقرآن الكريم، حمله والده متجها لمدينة طنطا، لاستكمال دراسته فى المسجد الأحمدى، الذى كان وقتها أحد منارات العلم، فقضى الشيخ محمود أقل من 3 سنوات وهو فى محراب العلم فى طنطا، وكأن السيد البدوى يحرس الصغير فى أيامه التى قضاها بجواره، فآنس وحدته، وقضى على مخاوفه، فتوجه ابن قرية الكرنك للجامع الأزهر ليستكمل دراسته فى علوم الدين.
كانت البدايات فى قراءة القرآن الكريم من أرض المحروسة، فارتفع صوته على الألف مئذنة، وهو يناجى ربه فى صوت كله خشوع وحزن، فخطف قلوب السامعين، وانجذب له أصحاب الخطوة، فنادته السيدة نفيسة رضى الله عنها، فكان قارئا للمسجد، وانضم للإذاعة المصرية، فتفرد بالتلاوة فى خمسينيات القرن الماضى، وأصبح أحد سلاطينها الذين تربعوا على عرشها وفى مقدمتهم الشيخ محمد رفعت وغيره من أعلام دولة التلاوة، واشتركوا فى تأسيس أول رابطة فى العالم الإسلامى لقراء القرآن الكريم، شغل وقتها الشيخ محمود عبدالحكم أمانة الصندوق فيها.
ارتبط الشيخ عبدالحكم ارتباطا وثيقا بالشيخ محمد صديق المنشاوى، فتزوج اثنتان من بنات الشيخ محمود، باثنين من أولاد الشيخ المنشاوى.
سافر الشيخ محمود إلى الجزائر، وهناك تعرض لحادثة، كانت عين الأولياء تبدو أنها ترافقه، فتوفى كل من فى الحافلة، وخرج الشيخ دون أذى يذكر، ورفض الشيخ طيلة حياته التى استمرت سبعة عشر عاما بعد الحادثة أن يتحدث عن تفاصيلها، وكأنه سر من السماء عليه الاحتفاظ به، حتى رحل عن عالمنا فى شهر سبتمبر عام ١٩٨٢، بينما جاء تكريم الشيخ وهو تحت الثرى عندما منحه الرئيس مبارك وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.