تأتى زيارة الرئيس شى جين بينج لفلاديمير بوتين لتبشر ببدء "حقبة جديدة" هى النتيجة المنطقية الجيوسياسية لاستراتيجية الولايات المتحدة لاحتواء القوة الروسية وذلك طبقا لنظرية: "عدو عدوى صديقى"، وتتجسد هذه الفكرة بإعلانات "تعاون غير محدود" بين الدولتين لمواجهة النفوذ الغربى، لتكون نقطة تحول فى العلاقات الدولية، حتى لو كان علينا أن نكون متمسكين بالتمييز بين دعاية بوتين وبين الدوافع الصينية الخفية.
ومع ذلك، كما أشار العديد من المراقبين، فإن هذا الانعطاف الجديد فى التقارب الذى حدث منذ أكثر من خمسة عشر عامًا ليس سوى جزء من تداعيات الحرب فى أوكرانيا والعقوبات المفروضة من جراء هذه الحرب. وبعيدًا عن المحور الروسى الصينى، فقد أدرك العالم حدود النظام الاقتصادى الذى يهيمن عليه الغرب فعندما فرضت الولايات المتحدة وشركاؤها فى مجموعة السبع عقوبات على البنك المركزى الروسى ومنعت المؤسسات المالية الغربية من التعامل مع نظرائها الروس، وقامت بتجميد حوالى ٣٠٠ مليار دولار من الاحتياطيات الروسية، فقد أثاروا ثلاثة أشياء:
صدمة فى دوائر الأعمال الصينية التى هى فى طور التنظيم لاحتواء الغرب. على نطاق أوسع، حتى فى أوروبا، فقد أدت العقوبات الأمريكية والعقوبات المفروضة على بعض الشركات فى القارة إلى إثارة شكل من أشكال عدم اليقين القانونى؛
أدركت الدول الناشئة خطر الاعتماد المفرط على العملة الأمريكية؛
تزايد اعتماد الاقتصاد الروسى على اليوان، بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية، تم طرد روسيا من نظام سويفت إلى جانب كوريا الشمالية وإيران. توفر شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية سويفت لأكثر من ١١٠٠٠ مؤسسة مالية، فى أكثر من ٢٠٠ دولة، شبكة لإرسال واستقبال أوامر الدفع بالدولار بشكل أساسى. وقد اختار نظام نقل الرسائل المالية الروسى (SPFS) الارتباط بنظام الدفع الدولى الصينى CHIPS.
لكن رغبة العم سام فى استمرار استخدام الدولار كسلاح ليست جديدة، لأن العملة ضرورية فى التجارة العالمية، لكن أوكرانيا يمكن أن تكون معجلًا للإرادة السياسية للصينيين والروس وبعض الدول الجنوبية لتحرير أنفسهم من التفوق الاقتصادى الأمريكى.
إذا ظلت الولايات المتحدة القوة العسكرية العظمى الوحيدة فى العالم، فإن هيمنة الدولار ستستند إلى عناصر ليست بالضرورة موضوعية. لم يتم ربط الدولار بالذهب أو أى شيء آخر منذ عام ١٩٧١، ولكن بالثقة التى يضعها اللاعبون الدوليون فى ثقله الاقتصادى. يتم تمويل العجز والدين العام الأمريكى بالدولار على الأقل جزئيًا من الفوائض التى يستثمرها بقية العالم فى العملات الأمريكية أو أذون الخزانة. تعمل سندات دين الخزانة الأمريكية كأساس للتمويل العالمى لأنها تعتبر أكثر الأدوات أمانًا والتى تعمل كمقياس للسندات الأخرى، وبالتالى فهى تشكل جزءًا أساسيًا من مؤشرات القيمة التى تستند إليها أسواق السندات. لقد أساءت واشنطن "الامتياز الباهظ لأمريكا" لصك النقود وإغراق العالم بالنقود لدفع ثمن وارداتها وتمويل اقتصادها. كما أنها جعلت العالم أكثر حساسية للصدمات المالية والقرارات التنظيمية التى تؤثر على الاقتصاد الأمريكى.
وبالتالى، ربما يكون الدولار هو السلاح السرى وكعب أخيل للعم سام، وهذا ما أدركه منافسه الصينى فى وقت مبكر جدًا وتحديدًا مع أزمة عام ٢٠٠٨. فقد وضعت ثلاث استراتيجيات، فى بعض الأحيان فى وقت واحد لإزاحة الدولار.
الأول، الكلاسيكى تمامًا، وهو التحكم فى سعر صرف عملتها، وبالتالى تثبيت نظامها المالى، مع الاعتماد على الذهب، وهو أصل "محايد"، لا يتلاعب به أو يتحكم فيه أى شخص وسيظل هو وسيلة الدفع المعترف بها من قبل جميع دول الكوكب دون التعرض لخطر التجميد الاصطناعى. لقد طبقت الصين سياسة إعادة شراء الذهب المستمرة والواسعة منذ عام ٢٠٠٨، حيث انتقلت من ٦٠٠ طن إلى أكثر من ٢٠٠٠ طن اليوم. فى حالة إجراء إصلاح نقدى كبير، ستسمح هذه الأصول للصين بأن تكون لها بشكل ملموس دور مؤثر كلاعب رئيسى. تذكر أن هذا التكتيك قد استخدمته فرنسا بقيادة الجنرال ديجول، مع شئ من الاختلاف، حيث لم تكتف فرنسا بتراكم الذهب، فقد انتهزت الفرصة لشرائه بالدولار، من أجل اختبار قابلية تحويل الذهب. فى عام ١٩٦٥، صرفت فرنسا أكثر من ١٥٠ مليون دولار مما أدى الى رفع الاحتياطى الوطنى الفرنسى من الذهب الطبيعى من ٧١.٤٪ إلى ٩١.٩٪! بعد ست سنوات، انهار الدولار "بجودة الذهب".
ثانيًا، كانت الاستراتيجية المؤسسية هى أن تستخدم بكين مؤسسات بريتون وودز لزيادة شرعيتها الدولية فى تحدى الدولار. وهكذا، دأبت الصين منذ فترة طويلة على الضغط من أجل زيادة وزن وتأثير اليوان فى سلة العملات التى توضع فيها عملة صندوق النقد الدولى وحقوق السحب الخاصة. وهكذا ارتفع اليوان فى عام ٢٠٢٢ من ١٠.٩٢٪ إلى ١٢.٢٨٪، مما يجعله الآن العملة الثالثة فى السلة. يزن الدولار ٤١.٧٣٪ مقابل ٤٣.٣٨٪ سابقًا. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية المتزايدة للغاية لم تزعج التسلسل الهرمى الدولي.
الثالث، الأكثر عدوانية، جذرى. يتعلق الأمر بإنشاء بديل جديد للدولار، أقل ارتباطًا باليوان وأكثر اعتمادًا على اليورو. بالفعل فى عام ٢٠٠٩، طرح محافظ البنك المركزى الصينى، تشو شياوتشوان، فكرة إنشاء عملة سيادية لتحل محل الدولار. وقد تبنت هذه الفكرة دول البريكس من خلال عملة افتراضية. فى عام ٢٠٢٣، بفضل توسع بريكس، الذى يجمع البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، ليضم ثلاثة عشر دولة، بما فى ذلك الجزائر ومصر وإيران والبحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وتركيا وأفغانستان وإندونيسيا، أعاد فلاديمير بوتين إطلاق المشروع لإنشاء عملة احتياطية - عملة البريكس، عملة مشفرة - والتى تمثل رد فعل للاضطرابات الاقتصادية الناتجة عن الحرب فى أوكرانيا وبديل لهيمنة الدولار.
وكان الهدف من ذلك هو بناء نظام دفع كامل يتجاوز شبكة سويفت، خاصةً فى حالة العلاقات التجارية مع الدول المستهدفة بالعقوبات الاقتصادية الأمريكية باستخدام عملة مستقلة عن الدولار. لذلك، ليس من المهم أن يتم إنشاء نظام دفع بين البنوك عبر الحدود لتسهيل تسوية الرنمينبى (الاسم الرسمى للعملية الصينية) لتقديم بديل لنظام يدوير وكليرينج هاوس Fedwire وClearing House Interbank Payments System (CHIPS).
وعلى الرغم من هذا الهجوم لا يزال الدولار ملكًا. فى ما يزيد قليلًا عن ٢٠ عامًا، فقدت حصة الدولار فى احتياطيات النقد الأجنبى العالمية ١٢٪ فقط، ولكنها وصلت إلى مستوى تاريخى منخفض (٥٩٪) فى عام ٢٠٢١. ووفقًا لبنك التسويات الدولية (BIS) فإن ٨٨٪ من المعاملات البنكية تتم بالدولار الأمريكى.
ومع ذلك، إذا كانت الصين، عبر البريكس وروسيا، ستضم معها غالبية دول الجنوب، فسيكون كل ذلك مقدمة لتحول اقتصادى كبير يؤدى إلى التهميش المالى والاقتصادى للغرب، كما تعتزم روسيا عقد قمة مع الدول الأفريقية فى يوليو ٢٠٢٣ فى سانت بطرسبرج. ومن المنتظر أن تتم مناقشة هذه القضايا الاقتصادية فى القمة المرتقبة.
معلومات عن الكاتب:
جوليان أوبير.. سياسى فرنسى، اُنتخب نائبًا عن الجمهوريين خلال الانتخابات التشريعية لعام 2012، ثم أعيد انتخابه عام 2017، ولم يوفق فى انتخابات 2022.. يقدم، بمناسبة زيارة الرئيس الصينى لموسكو، صورة بانورامية لتطور وضع الدولار والجهود الرامية إلى توجيه ضربة قاضية لهذه العملة المهيمنة على الاقتصاد العالمى.