مشروع تقسيم ليبيا فاشل لا محالة لسبب مهم يتعلق بوعى الليبيين بما يدبره الغرب الاستعمارى وقدرتهم على مقاومته وإفشاله فى الماضى والحاضر.. لكن التحذير والتنبيه واجب على الجميع
ليبيا بلد كبير جغرافيًا تكون بحدوده الحالية تقريبًا فى العهد العثمانى الثانى وترسخ وقت الاحتلال الإيطالى، أما تاريخيًا فإن ليبيًا كانت تطلق على شمال أفريقيا غرب مصر، وبسبب الظروف المناخية لم تكن إقليمًا جاذبًا للسكن، بل كانت بيئة طاردة فعلى الدوام كان يقطنها عدد قليل من السكان متناثرين فى الواحات على الساحل أو فى أعماق الصحراء الكبرى، لذلك كانت موضع لتنازع النفوذ بين الامبراطوريات الكبرى، فاستوطن الإغريق فى شرقها وأنشأوا المدن الخمسة وكانت عاصمتهم شحات التى ازدهرت حتى صارت من أكبر المدن على الساحل الجنوبى فى المتوسط، وسيطر الفينيقيون على الغرب وأنشئت المدن الثلاثة لبدة وصبراته وأويا "طرابلس" فشكلت عواصم مهمة فى جنوب المتوسط، ثم احتلها الرومان وبقوا فيها لقرون وتحولت مدينة لبدة إلى عاصمة ثانية خرج منها عديد من الأباطرة الرومان لعل أهمهم سبتيموس سيفروس الذى ولد وتعلم فى لبدة.
زارها فلاسفة الإغريق وأقاموا بها ولعل زيارة أفلاطون التى لم يتحدث عنها التاريخ كثيرًا دليل على ازدهار الفلسفة والثقافة بالمدن الليبية !
كما شكلت حضارة جرمة المحلية مرحلة تاريخية كبرى حيث تركزت فى الصحراء ولازالت مومياوات جرمة شاهد على قدمها وكذلك رسومات جبال أكاكوس التى لا مثيل لها، التى تبين حجم التطور الذى كانت فيه واحات الصحراء فى زمن الجرمنت!. [من المهم أن نشير هنا إلى أن جرمة مدينة تاريخية فى جنوب ليبيا تقع جنوب مدينة سبها عاصمة الجنوب الليبى وبها آثار ووجدت بها مومياوات قدرت أعمارها بثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.. وأكاكوس جبل جنوب غرب ليبيا قرب مدينة جات به رسوم فريدة فى العالم]
ثم كانت هجرات القبائل العربية من الجنوب عبر صعيد مصر إلى ليبيا أو من الشكل قبل الإسلام وبعد الفتوحات الإسلامية وهجرات قبائل بنى هلال وبنى سليم إبان الدولة الفاطمية!
وكانت ليبيا فى أغلب الأوقات ممرًا للهجرات من الجزيرة والشام عبر المتوسط أو عبر مصر، وهجرات اخرى عكسية من الغرب إلى الشرق !
أغلب سكان ليبيا الحاليين ينتمون إلى بنى سليم وبعضهم ينتمى الى قبيلة بنى هلال التى واصلت المسير غربا واستوطنت تونس والجزائر.. وبعض آخر قليل من تركيبات اجتماعية افريقية، لكن الإسلام واللغة العربية دمجا الليبيين اندماجًا تامًا فنتجت عادات وتقاليد ولباس وطعام موحد تقريبيا باستثناءات قليلة جدا!.
فالرداء الليبى للنساء واحد والجرد للرجال واحد أيضا، والبازين والفتات أكلات شعبية منتشرة فى ليبيا فقط ويتناولها الليبيون جميعًا ويقدمونها لضيوفهم، والكسكسى أيضًا أكلة شعبية أساسية فى ليبيا ومنتشرة فى كل دول المغرب العربى.
كل الليبيين مسلمون دون استثناء و٩٨٪ منهم على مذهب الإمام مالك، والآخرون أباضيون !
ولم يوحد الليبيين فقط العادات والتقاليد واللغة والمذهب، بل وحدتهم أيضا مقاومة الغزوات الأجنبية، ولعل ثوراتهم التى تفردوا بها بين العرب ضد الأتراك طيلة قرون والتى اشترك فيها كل الليبيين وأدت إلى انحسار سلطة الولاة الأتراك فى السرايا الحمراء فى طرابلس وقصر البركة فى بنغازى، دليل قوى على شدة المقاومة الليبية ووحشية القمع التركى آنذاك، أما الغزو الإيطالى فكان الليبيون أكثر وحدة وأشد بسالة فى مواجهته.
فأين نحن اليوم؟
من أهم استراتيجيات الغرب التى ينفذونها فى مشروع الشرق الأوسط الجديد الذى أطلقوا على شرارته اسم "الربيع العربى"، هو نشر فتنة مستدامة، من خلال خلق مشروعات تفتيتية دينية وإثنية وبذر الصراع بينها وتأجيجه حتى تنعدم فرص الاستقرار وتمنع توحيد الشعوب وبالتالى تفشل كل محاولات الاستقلال الجدية !
فى المشرق العربى كان الأمر سهلًا نوعًا ما لوجود مذاهب مختلفة لها تمثيل سكانى معتبر، ولوجود مجموعات قومية قسمتها اتفاقيات سايكس بيكو بعد الحرب العالمية الأولى إلى دول متعددة، ووجود نظام طائفى وأديان مختلفة أيضًا لوقوعها بين كماشة دول كبرى منافسة للأمة العربية تاريخيًا "إيران وتركيا". أما ليبيا فالأمر مختلف جدا بسبب الاندماج الليبى القوى فأغلبهم سليميون ومالكيون، متصالحون مع غيرهم ولغتهم واحدة رغم وجود لهجات متعددة أو قل حتى لغات لبعض القبائل، والأهم من ذلك عدم وجود صراع تاريخى على أساس عرقى بل كانت الصراعات على المراعى والمياه تأخد طابعًا قبليًا نتجت عنه تحالفات قبلية لحسن الحظ كانت دائما مختلطة، ففى الجبل الغربى كانت قبائل أمازيغية تحارب مع قبائل عربية ضد تحالف قبلى آخر مختلط، فلم يجد مصممو الربيع العربى إلا تصنيع آليات للفتنة، فأسسوا المجموعات التكفيرية تحت بند الرجوع لعهد السلف الصالح، ولست فى حاجة فى هذا المقام التذكير بالجماعات التى تستخدم الدين والتى أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية المتسترة بالدين، ولا ظهور حركات الجهاد خاصة فى مصر، وكذلك تشكيل داعش من قبل المخابرات الأمريكية وقبلها القاعدة لمواجهة المد الروسى فى أفغانستان! لكن دور الجماعات التكفيرية كان اخطر وأشد وبعد أن مُكنوا من السيطرة على البلاد عقب تدخل الغرب العسكرى عام ٢٠١١ مارسوا قمعا غير مسبوق ضد الناس العزل بقصد إرهابهم واخضاعهم فشهدت مدن بنغازى ودرنة وسرت وصبراتة أعمالا وحشية يندى لها الجبين، ليس أقلها قطع الرؤوس فى الساحات العامة وصلب أفرد أسر باكملها وبقائهم مصلوبين لأيام وأسابيع، ناهيك عن الاستتابة وما أدراك ما الاستتابة !
من جانب آخر، اخترعوا قصة المكونات الاجتماعية، وكأن ليبيا تكونت من أمم مختلفة، وكأن العروبة ليست سوى لغة وانتماء ومصير، ويعملون جاهدين لإطلاق صراع اثنى من آجل التفتيت والتقسيم، ولكى يكون الحال مستداما، اخترعوا كتابة اللهجات المحلية بالحرف اللاتينى، بالرغم من ان أغلب اللغات واللهجات الإفريقية تكتب بالحرف العربى حرف لغة القرآن !
وظهرت دعوات الخصوصيات الأمازيغية والتباوية والتارقية رغم رفض غالبية المنتمين لتلك القبائل للأطروحات الاستعمارية، ويتم النفخ فيها لإشعال شرارة حرب قد لا تبقى ولا تذر، تحت ادعاءات المطالبة بالحقوق الثقافية والسياسية !!
ففى حين لم توجد عبر التاريخ اعتراضات على ممارسة الحقوق الثقافية لأى كان، ولسوء حظ الغرب ان الثقافة الليبية متشابهة، لو استثنينا اللهجات واللغات حتى فى الحبل والجنوب فى مناطق التوارق والتبو !
أما الحقوق السياسية فهى وفقا للنظم الديمقراطية الحالية تعطى على أساس المواطنة وليس وفقا للانتماءات الاجتماعية ولاحتى الاختلافات اللغوية! وهنا يظهر نفاق الغرب وازدواج المعايير فيه !
فهو يعمل على تفجير صراعات وحروب بذريعة المطالبة بحقوق الأقليات، وفى نفس الوقت يفرض اندماج المهاجرين والأقليات فى مجتمعاته بذريعة مناقضة وهى أن الحقوق تعطى على أساس المواطنة وليس العرق أو الدين !
الفرنسيون قادة مشروع الصراع بين العرب والأمازيغ فى المغرب العربى يرفضون كليًا أن يتمتع الباسكيون والكورساركيون بحقوقهم على أساس إثنى استقلالى، وهكذا الحال فى إسبانيا فيما يتعلق بالباسك وكاتالونيا وهكذا.
فى الهند أكثر من ٦٠٠ لغة مندمجة فى ديمقراطية كبرى وكذلك روسيا وألمانيا وأمريكا نفسها، رغم كونها مركز المشروعات التدميرية للمنطقة والعالم.
لا شك عندى أن هذا المشروع فاشل لا محالة فى ليبيا لسبب مهم يتعلق بوعى الليبيين الدائم بما يدبره الغرب الاستعمارى وقدرتهم على مقاومته وإفشاله فى الماضى والحاضر، لكن التحذير والتنبيه واجب على الجميع!.
معلومات عن الكاتب:
د. مصطفى محمد الزائدى.. سياسى ليبى، تولى سابقًا منصب وزير الصحة، وكان نائب وزير الخارجية 2011، أمين الحركة الوطنية الشعبية الليبية.. يقدم شرحًا وافيًا لتاريخ ليبيا قبل أن يعرج إلى مخططات تقسيم البلاد التى تنسج خيوطها دوائر غربية.