رمضان من أجمل شهور السنة. ولا أقبل السفر إلى أى مكان فى الدنيا؛ كى أتمتع بهذا الشهر العظيم فى مصر الحبيبة من عبادة وعمل وممارسة للرياضة. وفي هذ الشهر المبارك، أقابل أصدقائى الذين لم أرهم طوال العام. ويعتقد البعض أن عملى بالآثار الفرعونية قد شغل كل وقتى، وأننى لا هم لي سوى الكشف عن حياة قدماء المصريين، وأن اهتماماتى بعيدة تمامًا عن أمور الدين.
وهذه أفكار خاطئة عن علماء تاريخ وآثار الحضارات القديمة بصفة عامة. أما الحقيقة، فهى عكس ذلك تمامًا، فأنني أؤمن أن هذه الفئة من الناس هم أكثر البشر إحساسًا بقدرة مبدع الكون الخالق العظيم والذى يرون قدرته الفائقة وبديع خلقه فى كل مفردات الكون من حولنا. ومن أهمية ذلك العلم، علم الآثار، أن المولى سبحانه وتعالى، دعانا إلى السير فى الكون لنرى ونتفكر فى آثار من سبقونا. ويقول الله عز وجل فى كتابه الكريم:"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ * ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ * إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (سورة العنكبوت: آية ٢٠). ويأتينا شهر رمضان، وهو أطول أعياد المسلمين، ويستمر ثلاثين يومًا، وإن قل، فيصبح ٢٩ يومًا فقط. وآخر أيامه، قبل وقفة عيد الفطر المبارك، عيد بعده عيد، وهو العشر الأواخر من رمضان، ولها مكانة خاصة فى نفوس المسلمين فى كل بقاع الأرض. ويرصدون فيها ليلة القدر التى تم فيها تنزيل الذكر الحكيم، القرآن الكريم، والذى أُطلق عليه القرآن كي يظل يُقرأ آناء الليل وأطراف النهار منذ نزوله على نبي الله محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأتم تسليم عن طريق ملاك الوحي سيدنا جبريل عليه السلام. وروحانيات هذا الشهر الكريم تتعدى كل وصف؛ ففيه يتغير الناس، وتسود بينهم الرحمة والمودة، ونرى نفوسنا مليئة بالسلم والحب. فهل هذا ناتج عن الانقطاع عن الطعام والشراب؟ أم أنها نفحات هذا الشهر الكريم وبركة الخالق سبحانه وتعالى على عباده المتقين؟ ربما هذا وذاك وغيرهما.
ورمضان فى مصر له مذاق خاص مختلف تمامًا عن رمضان فى أى بلد آخر؛ ففى هذا الشهر الكريم يتحول المصريون جميعًا إلى عائلة واحدة، فلا تعرف بينهم المسيحى من المسلم. وتنتشر موائد الرحمن فى كل مكان. ويتسابق الناس إلى فعل الخير وإخراج الزكاة. وما يزال آباؤنا وأجدادنا يتذكرون رمضان الذى مرّ عليهم فى طفولتهم وشبابهم حين لم يكن هناك تلفزيون أو كهرباء فى قراهم. وكان العمل يتواصل بالنهار. ويُخصص وقت ما بعد الظهيرة لإعداد مائدة الإفطار حتى إذا ما ارتفع صوت المؤذن بآذان المغرب، فلا تجد أحدًا فى شوارع القرية، وكأنها قد فرغت تمامًا من أهلها؛ فالعائلات فى البيوت تنتظر عودة الرجال من مساجد القرية بعد أداء صلاة المغرب، لتناول الإفطار. وبعدها يخرج الأطفال بفوانيسهم المضاءة بالشموع إلى شوارع القرية للعب. ويخرج الرجال إلى مجالسهم ليتسامروا، وينفضوا بعد ذلك لصلاة العشاء والتراويح والقيام. ثم يجتمعون مرة أخرى. وقد يتواصل اجتماعهم إلى وقت السحور. ومازلت أذكر، وأنا طفل صغير بقريتي العبيدية بمركز فارسكور، ذهابى كل يوم مع الصبية إلى كتّاب الشيخ يونس لحفظ القرآن الكريم. وكنا بعد الإفطار، نجتمع حول عم الدسوقى ليروى لنا قصص عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالى وسيف بن ذى يزن، هذا القائد المغوار الذى عاش بحمير باليمن وجاهد لطرد ملوك الحبشة من أرض اليمن. وكانت قصص سيف بن ذى يزن من أحب القصص الشعبية إلى نفسى. ولن أكون مغاليًا إذا قلت إن السيرة الهلالية كانت من أهم العوامل التى جعلتنى أحب التاريخ وأخبار السابقين. وبالتالى فقد حدد رمضان مستقبل وشكل حياتى كلها. ومن أجمل ذكريات القرية كان الطواف مع الوالد، رحمه الله وأدخله فسيح جناته، لزيارة المضايف فى منازل الأصدقاء والأقارب لسماع أحاديث متنوعة فى السياسة والاقتصاد وغيرها من فلاحي القرية. وفى فترة الشباب، عندما انتقلت إلى القاهرة، كنت أذهب يوميًا إلى حى سيدنا الحسين للإفطار مع الأصدقاء. وكنا نذهب لحجز أماكن لنا بالمطاعم الشعبية. وكنا نصلى الفروض المكتوبة في جماعة. ثم كنا نجلس على مقهى الفيشاوى الشهير. وبعد الإفطار، كنا نرى المسرحيات ونشهد المهرجانات الشعبية بالقاهرة الفاطمية.
كل عام وأنتم بخير.. ورمضان كريم.