يحلم الصائم طوال يومه بالمياه التي سيكون من الطبيعي أن يتناولها بعد انطلاق أذان المغرب، وعندما ينطلق المؤذن الله أكبر، يلتقط القلة كي يتناول جرعات خفيفة من الماء، وعندها يرى أمام عينيه التي تتابعان تدفق المياه منظرًا بديعًا أو كلمات رائعة التصميم، مرسومة بدقة داخل القلة، وتحديدًا على قطعة منها يُطلق عليها شباك القلة، فما القصة؟.
الفن في مصر أثناء العصر الإسلامي، سجل لنا العديد من الروائع التي تحير العقول كما هي عادة المصريين في كل العصور، فكما أثاروا الحياة بقناع توت عنخ آمون، وببناء الأهرامات، لم يكفوا عن نفس عاداتهم في العصر الإسلامي، ونجد ذلك الشعور عندما تطالعنا شبابيك القلل بفنونها الرائعة التي أبدعها فنان ما بأنامله الدقيقة.
وشباك القلة هو مساحة ضيقة للغاية، أصر الفنان أن يصنع فيها لوحة فنية نادرة، لن تراها في مكان آخر إلا ساعة أن تقرر أن تشرب جرعات من المياه، وفي كتابها عن الفنون تحكي الدكتور شادية الدسوقي أستاذة الفنون الإسلامية بجامعة القاهرة، قائلة إن الصناعات الفخارية في مصر تطورت منذ العصور القديمة وحتى العصر الإسلامي.
وشباك القلة هو المنطقة التي تفصل ما بين رقبة القلة وبين بدنها، أو الجزء الذي تخزن فيه المياه كي نشربه عذبًا باردًا، وهذا الشباك وظيفته حماية المياه من التلوث، وحرص الفنان على تثقيب هذا الجزء بشكل متساوٍ مما يضبط اندفاع المياه أثناء الشرب فلا يُسبب ضررًا للمرتوي بها.
وحرص الفنان على ملء هذا الفراغ وعدم تركه بدون زخارف، وتلك هي العادة في الفنون الشرقية، فالفنان الشرقي بشكل عام يميل إلى أمرين أولهما التجريد، وهو محاولة أن يضفي على العنصر الزخرفي الكثير من خياله، مما يعطيه أشكالًا تخالف شكله في الطبيعة، أو تجرده من شكله الواقعي في الحياة، وثانيهما هو ملء أي فراغ بالزخارف، فالهروب من الفراغات هي عادة الفنان الشرقي بشكل عام.
وقديمًا في الفنون الصينية واليابانية نجد هذه العادة، وكذلك نجدها عند الفنان المصري القديم فهو لم يترك شبرًا دون زخارف أو كتابة، وقد ورثها عنهما الفنانون المسيحيون ثم المسلمون، وطوعوها حسب ما يعتقدون، لذلك سنجد في المتحفين القبطي والإسلامي شبابيك القلل بنفس التصميمات والزخارف تقريبًا.
وتنوعت الزخارف الموجودة على شبابيك القلل ما بين زخارف نباتية، وحيوانية، وكتابية، وآدمية، وظهرت شبابيك القلل أول ما ظهرت في العصر العباسي في القرن الثالث الهجري، ثم تزايدت وكثرت في العصر الفاطمي، ويظهر عليها أشكال للأرنب والطاووس والفيل ورجل بلحية وكتابات بالخط الكوفي.
والكتابات التي توجد على شبابيك حرص فيها الفنان أن تعبر عن الحالة مثل كلمة عافية، والتي سيراها الشارب ويقرأها، أو سيرى صورة لطاووس أو فيل أو أرنب، وهو ما سيُدخل شيئًا من الراحة والسرور على نفسه، وقد أبدع الفنان القبطي والفنان المسلم في تلك الشبابيك وترك لنا نماذج رائعة ما زالت محفوظة بالمتحفين سواء القبطي بمنطقة مجمع الأديان، أو في متحف الفن الإسلامي بباب الخلق.