الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة لايت

أحمد بهجت وأنا وكلام صيام.. الحلقة الأولى.. رؤية الهلال

أحمد بهجت وأنا وكلام
أحمد بهجت وأنا وكلام صيام
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كنت قد عكفت على كتابة حلقات عن ذكريات رمضان وساقتني الصدفة إلى أن تقع عيني على كتاب "مذكرات صائم، للكاتب الكاتب أحمد بهجت والذي صدر عام 1990 في 222 صفحة من القطع المتوسط، عن دار الشروق، فاحترت بين كتابة حلقات أو عرض الذكريات من الكتاب في حلقات، وبعد تفكير قررت واخترت الخلط فسأجاور كاتبنا الكبير وأنا الصغير ليحكي وأحكي وأكون قد اقتنصت أيام المغفرة في أن يسامحني على هذا الأمر..
بدأ "بهجت" كتابه بإهداء إلى ذي النون المصري وجاء فيه:
"إلى ذي النون المصري.. إلى حرف النون في اسمه.. إلى النقطة الوحيدة في حرف النون.. إلى النقطة اليتيمة التي تبدأ عندها حسرات المحبين وتنتهي إليها آمال العاشقين..
إن دمعة وجد صوفي تحدرت على وجهك.. وقطرة عطر سقطت من ردائك.. وبعض نور انسكب من كلماتك قد صنعت معا روح سيدي ومولاي الصوفي.

وبدأت أنا بإهداء حلقاتي إلى جدتي التي كان الهلال يسطع من جبينها كانت تستعد قبل الشهر الكريم بأيام فتفوح رائحة العجين وتبدأ في تجهيز الخزين و"فحت الركوة".

اخترنا سويا عنوانا كان لفصله الأول يبدأ بمظهر من مظاهر استقبال شهر رمضان الكريم وهو:

رؤية الهلال

وقال فيه: "كان أحد أجدادي الذين يعيشون في عصر المماليك رجلا قد أدركته
حرفة الأدب، وكان يكتب خواطره في الحياة بأسلوب المقامات القديم.. وقد ترك هذا الجد أوراقا متفرقة وقليلة.. من بينها ورقة صفراء 
تحكي عن رؤية هلال شهر رمضان في ذلك الزمان..

قال جدي والحكي على لسان كاتبنا الكبير أحمد بهجت: "فلما جاء اليوم التاسع والعشرون من شهر شعبان، استعد المصريون، في ذلك الزمان، لاستقبال أفضل الشهور وهو شهر رمضان، ففيه على الأقل تسجن الشياطين، ويقل ما يلقون من ظلم المماليك الحاكمين. 
وفي وقت الأصيل، بعد صلاة العصر بقليل، خرج موكب الرؤية كالمعتاد، وخرج لرؤيته كل الرجال والنساء والأولاد، وكان يتقدم الموكب في طريقه إلى جبل المقطم، شيخ مهدم محطم، يؤمن الجميع بأنه شيخ معظم، وكيف لا وهو المصدر المسؤول عن رؤية الهلال. 
وهي وظيفة شريفة لطيفة، يتوارثها شيوخ أسرته من أجيال وأجيال. 
والعجب العجاب، أن هذا الشيخ المهاب، كان لا يبصر ما تحت قدميه، بسبب رمد مزمن أصاب عينيه، واستفحل نتيجة لجهل والديه، لكنه رغم ذلك العمى الأكيد، كان قديرا عل رؤية الهلال من بعيد، وطالما انفرد برؤيته، من دون كل أفراد فرقته، فلم يسع الحكام إلا الأخذ بشهادته  وإعلان بدء شهر الصيام، بدون سلام ولا كلام. 
ويزول العجب، اذا عرف السبب، فقد كان الشيخ يستعيض عن نظره الضعيف المضعضع، بعيني مساعد شاب له يتبع ويخضع، فإذا رأى الشاب الهلال، عرف هو منه ذلك في الحال، ثم ادعى منه لله، أنه هو الذي رآه، وصدق الكل دعواه. 


ويشاء السميع العليم أن يتغيب الشاب عن الموكب في ذلك اليوم العظيم، وكانت لذلك حكاية ولا كل الحكايات، ليس كمثلها في الماضيات، ولا يظن تكرارها في الآتيات، فقد حدث قبل ذلك بأيام معدودات، أن الشاب كان يسير في إحدى الحارات، فوقعت عينه على إحدى الفتيات البلديات، ذوات الملايات، ولم تكن كأترابها من السمراوات الكثيرات الممتلثة بهن الطرقات، بل كانت بيضاء كالفضة النقية، أو طبق المهلبية، وبدا له وجهها تحت ملايتها السوداء، كأنه الدر في الليلة الظلماء، وما كادت تبادله النظرات، وترد على دهشته بالابتسامات، حتى شعر بقلبه يحاول الهبوط إلى رجليه، وبعقله يطير في الهواء مرفرفا بجناحيه، فلا عجب أن كان يقع من طوله، لفرط انجذابه وذهوله، وهل هو إلا مصري ككل المصريين، إذ يقفون أمام النساء البيض خاشعين مبهورين، فاللون الأبيض عندهم هو لون الغزاة الفاتحين الحاكمين، وإن يظفر أحدهم بامرأة بيضاء فذلك هو الفوز المبين، وبلوغ القصد والمراد من رب 
العالمين.. 
ومن تبادل النظر والابتسام، إلى تبادل التحية والسلام والكلام إلى التواعد على اللقاء بعد أيام، وقع الاثنان في حب نصفه وجد ونصفه هيام.. 
ولسوء حظ المصريين التعساء، كان التاسع والعشرين من شعبانهو اليوم المحدد للقاء، فتغيب الشاب عن موكب الرؤية في ذلك العام،ولم يجد الشيخ بدا من الاعتراف بأنه عجز عن رؤية الهلال، فتأخر الصيام يوما بلا نقاش ولا جدال، وقال المماليك للمملوكين: أنتم الكسبانون، وقال المحكومون البائسون: بل نحن منحوسون، أما الفتى العاشق المجنون، وأما الفتاة واسمها يبدأ بحرف النون، فكانا في شغل عما كان ويكون، بالجلوس بين يدي الحب المكنون، في انتظار 
الجلوس بين يدي المأذون.. ولله في خلقه شؤون».

يختتم "بهجت" حكايته عن الشيخ والفتى والفتاة ورؤية الهلال بقوله:
"انتهيت من قراءة الورقة القديمة وابتسمت...في الأزمنة السحيقة البائدة، وفي الأعوام القديمة السالفة الماضية كانت الاختلافات تثور بين فقهاء المسلمين على رؤية الهلال، هل يرونه بعين الشيخ أم يرونه بعين علم الفلك.. وهل تعتبر عين علم الفلك وهى بلا حاجب كعين الإنسان رغم كونها بحاجب، وهل لعين علم الفلك شرعية عين الإنسان أم ماذا.. وتدور حول هذه ال "ماذا" آلاف التساؤلات المنطقية المتمنطقة، ويحتدم الجدال ويثور النقاش ويحمى وطيس الكلمات، ويخيل إليك أنك داخل مسرحية كوميدية مضحكة، ويزيد من فداحة الضحك أن يجري ذلك بين المسلمين، 
وقد نزل دينهم بكلمة (اقرأ)، وصرح رسولهم بأن مداد العلماء مثل دم الشهداء يوم القيامة، ولا تكاد سورة تمضي من القرآن بغير أن توجه النظر إلى آيات الله في الآفاق وفي الأنفس.


وجاء على لساني أنا الراوي أننا كنا ننتظر الهلال صغارا بين أجولة القطن الكبيرة بعد أن نكون قد انتهينا من "حرب الحتت" وجلس نلتقط أنفاسنا ونسأل بعضنا البعض: "هو رمضان بكرة؟" فتكون إجابة فيلسوف العيال "علي الخيال": "لسه الشيخ عبده ما قالش".. وكان الشيخ عبده هو الوحيد الذي يملك راديو بحجاير يعضعض فيها ويسير أميال ليضبط الموجة ليعرف ما نتيجة رؤية الهلال ويعتبر الأمر سرا حربيا فيقطع المسافة من داره إلى المسجد الكبير وهو يخفي سره في فمه ولا ينبس ببنت شفاه حتى لو تشعبطت في جلبابه من الرجاء.. يهرول أهل القرية خلفه فيصعد على سلم خشبي إلى أعلى المسجد ويمسك "كوز صفيح" ونحن نرفع أعناقنا مبحلقين العين فارغين الفاه نمسك بعصيان وعلب صفيح في استعداد تام للبشارة.. بعد كحكحة ونحنحة وحشرجة ومبالغة صاح الشيخ عبده: بكرة رمضان.. فعلى صوت قرع العصا على الصفيح وبدأ الكل يصيح: أهلا رمضان.

إلى اللقاء في حلقة جديدة