يتميز شهر رمضان فى مصر بطبيعة خاصة، إذ حافظ المصريون على تراثهم الثقافى عبر الأجيال المتعاقبة، فمنذ عصر الدولة الفاطمية وهم يحرصون على الاحتفال برمضان على طريقتهم الخاصة، فبين زينة رمضان واستعدادات المساجد لاستقبال المصلين، والكنافة والقطايف، وتزيين الشوارع وشراء الفوانيس، تمتلئ القاهرة وضواحيها بأنوار الهدى والرحمة.
وفى السطور التالية تصحبكم «البوابة» فى رحلة عبر التاريخ حول كيف كان المصريون يحتفلون بالشهر الكريم، وكيف كان مصدر سعادة ورحمة وتراحم وشهر العبادة- على حد وصف المصريين- إذ استطاعوا الحفاظ على موروثاهم الثقافى فى طرق الاحتفال بشهر رمضان عبر الأزمنة المتعاقبة.
«هل هلالك شهر مبارك»
كثيرًا ما تتردد تلك الجملة على لسان المصريين «هل هلالك شهر مبارك» حينما تهل روائح الشهر الكريم، ولهذه العبارة علاقة باستطلاع هلال رمضان والذى كان يعلن انطلاق الشهر الكريم، وبدء الصيام، حيث كان يخرج بعض الأشخاص إلى الصحراء حيث الهواء النقى لرؤية هلال القمر؛ ويبدأ الصوم بعد رؤية الهلال والتأكد منه، وبمجرد الإعلان عن رؤية الهلال تبدأ روائح الشهر الكريم.
فى العادة كانت تبدأ طقوس الاستعدادات بالشهر الكريم منذ منتصف شهر شعبان، حيث إن ليلة النصف من شعبان تمثل احتفالا خاصًا، فهى ليلة مباركه تقام فيها الصلوات ويتم الدعاء كما كانت توزع فيها الهدايا من الخليفة.
وكانت بداية شهر شعبان تشهد العديد من الاحتفالات والموالد الشعبية مثل الاحتفال بمولد الإمام الشافعى ، والذى كان يقام فى القرافة الكبيرة الواقعة فى الطريق الصحراوى جنوب العاصمة، بجوار ضريح الإمام، كذلك كان يقام الاحتفال فى المنطقة الجنوبية من المدينة.
وكان مولد الإمام الشافعى يستقطب عددًا كبيرًا من الزوار من مختلف الجهات، فالإمام الشافعى هو مؤسس الطائفة التى كان ينتمى إليها معظم سكان القاهرة وتشبه الاحتفالات هذه احتفالات الموالد الكبيرة الأخرى مثل المولد النبوى الشريف، وكانت تقام حفلات الذكر فى جامع الإمام، وكان يثبت فوق قبة الجامع مركب معدنى يوضع عادة بمناسبة المولد وكان يوضع بها إردب من الطحين ومحمل جمل ماءًا للعصافير.
رؤية الهلال
ويقول أبوالريحان محمد بن أحمد البيروتيّ فى كتاب الآثار العافية عن القرون الخالية: "وفى سنين من الهجرة نجمت ناجمة لأجل أخذهم بالتأويل إلى اليهود والنصارى، فإذا لهم جداول وحسبانات يستخرجون بها شهورهم، ويعرفون منها صيامهم، والمسلمون مضطرّون إلى رؤية الهلال، وتفقد ما اكتساه القمر من النور وجدوهم شاكين فى ذلك مختلفين فيه، مقلدين بعضهم بعضا فى عمل رؤية الهلال بطريق الزيجات، فرجعوا إلى أصحاب علم الهيئة، فألفوا زيجاتهم مفتتحة بمعرفة أوائل ما يراد من شهور العرب بصنوف الحسبانات، فظنوا أنها معمولة لرؤية الأهلة، فأخذوا بعضها، ونسبوه إلى جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وزعموا أنه سرّ من أسرار النبوّة، وتلك الحسبانات مبنية على حركات التدبير الوسطى دون المعدّلة أو معمولة على سنة القمر التى هي: ثلاثمائة وأربعة، وخمسون يوما وخُمس يوم، وسُدس يوم، وأن ستة أشهر من السنة تامة، وستة أشهر ناقصة، وإن كل ناقص منها، فهو تال لتامّ، فلما قصدوا استخراج الصوم والفطر بها، خرجت قبل الواجب بيوم فى أغلب الأحوال، فأوّلوا قوله عليه السلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقالوا: معنى صوموا لرؤيته: أى صوموا اليوم الذى يرى فى عشيته، كما يقال: تهيؤا لاستقباله، فيقدّم التهيؤ على الاستقبال، قال: ورمضان لا ينقص عن ثلاثين يوما أبدا.
أما الآن فقد حل التطور التكنولوجى الكثير من الإشكاليات التى تتعلق برؤية الهلال والتثبت من دقة حسابات الشهر الكريم، وذلك عبر استخدام العلوم الفلكية، كما أنه يتم الاعتماد على بيان دار الإفتاء والذى يصدر فى كل عام قبل بداية الشهر الكريم، حيث يتم الإعلام عن تتمة شهر شعبان وبداية شهر رمضان، حيث يثبت شهر رمضان بأمرين أحدهما: رؤية هلال شهر رمضان فى ليلة الثلاثين من شهر شعبان، والثانى إكمال شعبان ثلاثين يوما، وذلك إذا لم ير الهلال لغيم أو نحوه. وهذا الحكم فى شهر رمضان، وغيره من شهور السنة القمرية.
عن ابن عباس: جاء أعرابى إلى النبى فقال:« رأيت الهلال فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن فى الناس فليصوموه غدا». و«عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله أنى رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه».
تضاء المساجد وتزين الشوارع
ويبدأ بعدها الاستعدادات لشهر رمضان الكريم حيث تتزين الشوارع وتضاء المساجد والكل يتعبد ويقول الشريف الجوّانى فى كتاب النقط: «كان القضاة بمصر إذا بقى لشهر رمضان ثلاثة أيام، طافوا يومًا على المشاهد، والمساجد بالقاهرة ومصر، فيبدأون بجامع المقس، ثم بجوامع القاهرة، ثم بالمشاهد، ثم بالقرافة، ثم بجامع مصر، ثم بمشهد الرأس لنظر حصر ذلك، وقناديله، وعمارته، وإزالة شعثه، وكان أكثر الناس ممن يلوذ بباب الحكم، والشهود، والطفيليون يتعينون لذلك اليوم، والطواف مع القاضى لحضور السماط».
بعد الإعلان والتأكد من رؤية الهلال، ينطلق المحتسب وشيوخ التجار ومنهم "الخبازون والطحانون والجزارون وبائعو اللحم والزياتون" وباقى أعضاء الطوائف وفرق المزيكا والفقراء يرأسهم الجنود فى موكب من القلعة إلى محكمة القاضى وينتظرون عودة أحد الأشخاص الذى ذهب للرؤية أو شهادة مسلم آخر رأى القمر هلالا.
ويحتشد الناس فى الشوارع التى يمرون بها وجرت العادة أن تنضم إلى الموكب طائفة من الجياد المغطاة أسرجتها بشكل مزركش ؛ بيد أن العرض العسكرى للطبقة الفقيرة فقد حل محل الأبهة الدينية المدنية التى تشهدها هذه الليلة، وأصبح يقتصر موكب ليلة الرؤية على مشاة النظام.
وكان يتقدّم حاملو المشاعل كل مجموعة من الجنود كما يسيرون خلفهم لإنارة الطريق لهم عند عودتهم ويتبعهم الشيخ وبعض أعضاء التجارات الأخرى مع العديد من الفقراء وهم يهتفون عند مرورهم: بركة، بركة بارك الله عليك يا رسول، السلام عليه».
وبعد بضع دقائق تمر فرقتان أو ثلاث من الفرق العسكرية ويختم المحتسب ومساعدوه الموكب، وبعد أن يصل الخبر اليقين بأنه تمت رؤية القمر إلى محكمة القاضى ينقسم الجنود والمحتشدون فرقاً عديدة ويعود فريق منهم إلى القلعة بينما تطوف الفرق الأخرى فى أحياء مختلفة فى المدينة تهتف: «يا أتباع أفضل خلق الله ! صوموا صوموا، وإذا لم يروا القمر فى تلك الليلة، يصرخ المنادي: «بكرة شعبان، ما فيش صيام، ما فيش صيام».
ويمضى المصريون وقتًا فى تلك الليلة يأكلون ويشربون ويدخنون وترتسم البهجة على وجوههم استعدادًا لبدء صوم الشهر الكريم، كما تتلألأ الجوامع بالأنوار كما فى الليالى المتعاقبة وتعلّق المصابيح عند مداخلها وفـوق المآذن.
موكب الخليفة
وكان فى أوّل يوم من شهر رمضان، يرسل الخليفة لجميع الأمراء، وغيرهم من أرباب الرتب والخدم لكل واحد طبق، ولكل واحد من أولاده، ونسائه طبق فيه حلوى، وبوسطه صرّة من ذهب، فيعم ذلك سائر أهل الدولة، ويقال لذلك غرّة رمضان.
صلاة الخليفة فى رمضان
كان الخليفة الفاطمى يصلى أيام الجمعة الثلاث فى رمضان، الثانية والثالثة والرابعة على الترتيب، يصلى الجمعة الثانية فى جامع "الحاكم الأمر الله"، الثالثة فى الجامع الأزهر، أما الرابعة التى تعرف بالجمعة اليتيمة كان يؤديها فى جامع "عمرو بن العاص"، وكان يصرف من خزانة التوابل ماء الورد والعود لبخور موكبه، وعقب صلاة الجمعة الأخيرة يذاع بلاغ رسمى كان يعرف "بسجل البشارة"، وآخر ليلة من الشهر الكريم كان القراء والمنشدون يحيونها فى "القصر الشرقى الكبير" ويستمع لهم الخليفة من خلف ستار، وفى نهاية السهرة ينثر على الحاضرين دنانير الذهب.
سحور الخليفة
قال ابن المأمون: «وقد ذكر أسمطة رمضان، وجلوس الخليفة بعد ذلك فى الروشن إلى وقت السحور، والمقرئون تحته يتلون عشرا، ويطرّبون بحيث يشاهدهم الخليفة، ثم حضر بعدهم المؤذنون، وأخذوا فى التكبير، وذكر فضائل السحور، وختموا بالدعاء، وقدّمت المخادّ للوعاظ، فذكروا فضائل الشهر، ومدح الخليفة والصوفيات، وقام كل من الجماعة للرقص، ولم يزالوا إلى أن انقضى من الليل أكثر من نصفه».
وكان عادة ما كان يقدم أطيب الأطعمة للخليفة وكانت مليئة بالقطايف والكنافة واللبن الرطب والعصائر ويقول ابن المأمون :" وقام الخليفة، وجلس بالباذهنج، وبين يديه السحورات المطيبات من لبئين رطب ومخض، وعدّة أنواع عصارات وافطلوات وسويق ناعم، وجريش جميع ذلك بقلوبات وموز، ثم يكون بين يديه صينية ذهب مملوءة سفوفا، وحضر الجلساء، وأخذ كل منهم فى تقبيل الأرض، والسؤال بما ينعم عليه منه، فتناوله المستخدمون، والأستاذون وفرّقوه، فأخذه القوم فى أكمامهم، ثم سلم الجميع وانصرفوا.»
وعن ليلة السحور الأخيرة فى شهر رمضان قال ابن المأمون: «ولما كان التاسع والعشرون من شهر رمضان، خرج الأمر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئين، والمؤذنين فى كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختم الشهر، وحضر الأجل الوزير المأمون فى آخر النهار إلى القصر للفطور مع الخليفة، والحضور على الأسمطة على العادة، وحضر إخوته، وعمومته، وجميع الجلساء، وحضر المقرئون، والمؤذنون، وسلموا على عادتهم وجلسوا تحت الروشن، وحمل من عند معظم الجهات، والسيدات والمميزات من أهل القصور ثلاجي، وموكبيات مملوءة ملفوفة فى عراضى ديبقيّ، وجعلها أمام المذكورين، لتشملها بركة ختم القرآن الكريم، واستفتح المقرئون من الحمد إلى خاتمة القرآن تلاوة وتطريبا، ثم وقف بعد ذلك من خطب، فأسمع ودعا، فأبلغ ورفع الفرّاشون ما أعدّوه برسم الجهات، ثم كبر المؤذنون، وهللوا وأخذوا فى الصوفيات إلى أن نثر عليهم من الروشن دنانير، ودراهم ورباعيات، وقدّمت جفان القطائف على الرسم مع البسندود، والحلواء فجروا على عادتهم، وملأوا أكمامهم، ثم خرج أستاذ من باب الدار الجديدة، بخلع خلعها على الخطيب، وغيره ودراهم تفرّق على الطائفتين من المقرئين والمؤذنين.
سماط الخليفة
ويقول المقريزى فى كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» عن سماط شهر رمضان بقاعة الخليفة، قال ابن الطوير: فإذا كان اليوم الرابع من شهر رمضان، رتب عمل السماط كل ليلة بالقاعة بالقصر إلى السادس والعشرين منه.
ويستدعى له: قاضى القضاة ليالى الجمع توقيرا له، فأما الأمراء، ففى كل ليلة منهم قوم بالنوبة، ولا يحرمونهم الإفطار مع أولادهم، وأهاليهم، ويكون حضورهم بمسطور يخرج إلى صاحب الباب، فيعرف صاحب كل نوبة ليلته، فلا يتأخر ويحضر الوزير، فيجلس صدره، فإن تأخر كان ولده أو أخوه، وإن لم يحضر أحد من قبله كان صاحب الباب، ويهتم فيه اهتماما عظيما تاما بحيث لا يفوته شيء من أصناف المأكولات الفائقة، والأغذية الرائقة، وهو مبسوط فى طول القاعة، مادّ من الرواق إلى ثلثى القاعة المذكورة.
وكان الفرّاشون يعملون لخدمة الحاضرين، وحواشى الأستاذين يحضرون الماء المبخر فى كيزان الخزف برسم الحاضرين، ويكون انفصالهم العشاء الآخرة، فيعمهم ذلك، ويصل منه شيء إلى أهل القاهرة من بعض الناس لبعض، ويأخذ الرجل الواحد ما يكفى جماعة، فإذا حضر الوزير أخرج إليه مما هو بحضرة الخليفة، وكانت يده فيه تشريفا له، وتطييبا لنفسه، وربما حمل لسحوره من خاص ما يعين لسحور الخليفة نصيب وافر، ثم يتفرّق الناس إلى أماكنهم بعد العشاء الآخرة بساعة أو ساعتين، قال: ومبلغا ينفق فى شهر رمضان لسماطه مدّة سبعة وعشرين يوما ثلاثة آلاف دينار.
إبطال المسكرات
كما كان يبطل كل المسكرات فى شهر رمضان وتغلق الحانات، وقال ابن المأمون: «وكانت العادة جارية من الأيام الأفضلية فى آخر جمادى الآخرة من كل سنة: أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر، وتختم ويحذر من بيع الخمر، فرأى الوزير المأمون لما ولى الوزارة بعد الأفضل بن أمير الجيوش، أن يكون ذلك فى سائر أعمال الدولة، فكتب به إلى جميع ولاة الأعمال، وأن ينادى بأنه من تعرّض لبيع شيء من المسكرات، أو لشرائها سرّا، أو جهرا فقد عرّض نفسه لتلافها وبرئت الذمّة من هلاكها».
ليالى رمضان «الخيم الرمضانية»
أما ليالى الشهر الكريم فكانت تمتاز بالكثير من الطقوس فبعد الإفطار يذهب الجميع إلى الصلاة فى المساجد، وتمتاز المحروسة بطبائعها الخاصة وهى ظهور الخيام الرمضانية، والتى عُرفت فى العصر الفاطمي، فى القرن العاشر، وكان يطلق عليها اسم "بيت الشعر" وكانت تضم مسابقات وحلقات ذكر وتواشيح دينية، بالإضافة إلى تقديم الأكلات الشعبية المصرية المرتبطة بالشهر الكريم، وهذا التقليد ما زال يمارس حتى وقتنا الحالي، حيث تقام العديد من الخيم الرمضانية والاحتفالات الغنائية والإنشاد الدينى بشارع المعز وفى المنطقة الشمالية، فتعد الخيم الرمضانية فى مصر لا مثيل لها فى كافة البلدان، إذ تتمتع بطابع روحانى خاص فكان المصلّون بعد الانتهاء من صلوات التراويح يقضون الليل فى تلك الخيام حتى حلول موعد السحور ثم صلاة الفجر فى مسجد الحسين، وهو تقليد ما زال يمارس حتى وقتنا الحالي.
وفى الفترات الأخيرة تم ظهور نوع من الخيام الرمضانية الترفيهية، بهدف الترويح عن المصريين بتقديم الفولكلور المصرى المحبب للمصريين، فى إطار روحانى محبب للمصريين يخلو من الإسفاف أو الخروج عن المألوف تقديراً لحرمة الشهر الكريم، كما كانت تنتشر الخيام الرمضانية فى مناطق أخرى من الجمهورية، وإن كان قد غلب عليها طابع الإنشاد الدينى والمواويل مع فقرات للإنشاد الصوفى والتنورة وغيرهما مثل الاحتفالات التى تقدمها الهيئة العامة لقصور الثقافة.
وغالباً ما تستخدم الخيامية فى تزيين تلك الخيام الرمضانية والتى أن طرز الخيام بالشكل الذى نراه عليها من ألوان مبهجة يسيطر عليها اللون الأحمر مع الأبيض فى تعشيقات بديعة إنما هى من قريحة الفنان المصرى المبدع، والتى اشتهر بها الحرفيون العاملون فى منطقة الخيّامية القريبة من حى الغورية بالقاهرة.
ويسيطر على هذه الخيام عناصر الفن الإسلامي، والذى يتميز باستخدام الزخارف النباتية، والأشكال الهندسية أيضا. ومعظمها مصنّع صناعة يدوية، أو باستخدام أدوات الحياكة البدائية، نظراً لسماكة الأقمشة والتى قد لا تستقيم مع الماكينات التقليدية لحياكة الملابس.
المسحراتى
«اصحى يا نايم، اصحى وحد الدايم، وقول نويت بكرة اتحييت، الشهر صايم والفجر قايم».. بهذه الكلمات التى ألفها الشاعر الكبير فؤاد حداد ولحنها وغناها الفنان الكبير سيد مكاوى والتى أصبحت علامة من علامات شهر رمضان الكريم، فلا يوجد رمضان بدون المسحراتى تلك المهنة التى تكاد تندثر بعد دخول التليفزيون المنازل وبقى الجميع ساهرين حتى مطلع الفجر.
فهل كانت كلمات فؤاد حداد لها علاقة بما ورثناه عبر الأجيال المتعاقبة، فنجد إن «إدوارد وليم لاين» فى كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم» قد رصد أقوال المسحراتى والتى كانت تقال فى مطلع القرن التاسع عشر، حيث كان يدور المسحراتى فى كل ليلة فى شهر رمضان ويطلق المدائح أمام منزل كل مسلم قادر على مجازاتهم ويعلنون فى ساعة متأخرة فترة السحور.
وكان لكل حى أو منطقة صغيرة فى القاهرة المسحراتى الخاص الذى يبدأ جولته بعد ساعتين تقريباً من المغيب، - أى بعد صلاة المغيب بفترة وجيزة -فيحمل فى يده اليسرى «بازاً صغيراً أو ما يعرف بطبلة المسحراني» وفى يده اليمنى عصا صغيرة أو سوط يضرب به، ويرافقه فى جولته صبى يحمل قنديلين فى إطار من أعواد النخل، فيتوقفون أمام كل منزل منهم ويضرب المسحراتى بازه عند كل وقفة ثلاث مرات، ثم يطلق المدائح النبوية منادياً بالصلاة على الرسول وبتوحيد الله فيقول: «اصح يا غفلان وحدّ الرحمن»، ثم يضرب الطبلة، ويعيد ضرب الطبلة قائلا: "أسعد لياليك يا فلان، - ويسمى اسم سيد المنزل - . ويكون المسحر استقصى أسماء سكان كل منزل فيحيى كل واحد فيه إلا النساء بالطريقة عينها ويذكر كل أخ له وابن وابنة شابة عزباء قائلاً: «أسعد الليالى لست العرايس فلانة».
ولم يختلف المسحراتى كما وصفه "لاين"، فما زال فى بعض المناطق يأتى المسحراتى وينادى على أصحاب المنازل حتى مع هذا التطور، فلم تعد مهنة المسحراتى مهنة موسمية أى تتزامن مع شهر رمضان، بل من الممكن أن يقوم بها بعض الأشخاص مثل العازفين الشعبيين، ويكون فى الغالب من أهل المنطقة".
ويقول إدوارد وليم لاين:"وإذا توقف المسحر عند أبواب الأغنياء يعيد بعد التوحيد والصلاة على النبى . مديحاً طويلا مكسور الوزن والقافية يدعو فيه الله ليعفو عن خطاياه ويبارك على الرسول ثم يبدأ برواية قصة المعراج وغيرها من قصص المعجزات ضارباً طبلته عند قوله بعض الكلمات أو بالأحرى بعد كل نغمة، وهو يغض الطرف عن المنزل، ويحصل عادة عند منزل الشخص المنتمى إلى الطبقة المتوسطة على قرشين أو ثلاثة أو أربعة قروش فى "العيد، الذى يعقب شهر رمضان ويعطيه بعضهم مبلغاً بسيطاً كل ليلة.
وإن كان قارئى تأثر أشد التأثر بدور المسحر وإبرازه شخصية المسلمين فهو سيندهش أكثر لما سيقرأ لاحقاً. إذ تضع المرأة فى العديد من منازل الطبقة المتوسطة فى القاهرة قطعة معدنية صغيرة أو خمس فضات أو قرشاً أو أكثر قطعة من الورق وترميها من النافذة إلى المسحر بعد أن تكون أضرمت النار الورقة حتى يرى مكان وقوعها . فيتلو المسحر حسب رغبتها أو بملء إرادته سورة الفاتحة ويخبرها قصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها كقصة "الضرتين" وشجارهما.