الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

خالد عزب يكتب: حكاية الزرافة كانت سببًا فى إزالة الجفوة السياسية بين القاهرة وباريس ولندن

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مرسيليا نظمت احتفالات لتعرض «الحيوان العجيب» على المجتمع الراقى وتوافد علماء الأكاديمية ليل نهار لمشاهدتها وتسجيل سلوكها

الزرافة صاحبة الشكل اللطيف المحبب إلى النفوس.. كانت يومًا ما سببًا فى  إزالة الجفوة السياسية بين مصر وفرنسا وبريطانيا. بدأت أحداث قصتنا بعد سقوط حكم نابليون بونابرت لفرنسا وعودة الملكية الفرنسية، حيث شغل منصب القنصل  العام لفرنسا بالقاهرة دبلوماسى  يتمتع بشخصية طريفة هو برناردينو دروفيتي. وكان من كبار هواة الآثار المصرية. وكانت مقتنياته فى هذا المجال هى النواة الأولى لمتاحف اللوفر وتورينو وبرلين. وذات يوم من سنة ١٨٢٥ سمع دورفيتى نبأ أثار أمانيه وأحلامه فقد عرف أن أحد حكام السودان أهدى محمد على باشا زرافتين صغيرتين. 
 


وكان جو العلاقات بين مصر وفرنسا آنذاك ملبدًا بالغيوم، حيث شاركت قوات مصرية تركيا فى سحق ثورة اليونانيين بجزيرة شيو عام ١٨٢٢. وكان الشباب فى  فرنسا يتوقون حماسًا لإستقلال اليونان الذى تغنى به فيكتور هوجو فى شعره وديلاكروا فى  لوحاته.
ولما كان دور الدبلوماسى  فى  المقام الأول هو بالطبع تهدئة الخلافات بين البلدين، فقد تذكر دروفيتى أن من تقاليد ملوك مصر إهداء هذا الحيوان العجيب الذى  هو الزرافة للملوك الذين يريدون تشريفهم. ومن ثم طلب الملك شارل العاشر هذه الهدية الغريبة كوسيلة لتلطيف العلاقات، فلم تكن فرنسا شاهدت زرافة من قبل.
وقبل محمد على عن طيب خاطر أن يقدم هذه الهدية. لكن الخبر تسرب إلى قنصل بريطانيا العظمى. فتقدم على الفور بطلب مماثل لتحقيق نفس الغرض. فقد كانت العلاقات بين مصر وبريطانيا العظمى سيئة للغاية. 
ولما كان محمد على  يدرك أهمية الاقتراحين فقد قرر، وكأنه سليمان الحكيم، أن يهدى  كلًا من البلدين إحدى الزرافتين على أن يختار كل من القنصلين زرافته بالقرعة. وبعد ذلك بأيام قليلة كتب دروفيتى إلى وزير خارجية فرنسا ليزف إليه النصر الذى  أحرزه فقال:
"يسعدنى أن أنهى إلى سعادتكم أن الحظ قد واتانا، فالزرافة التى  جاءت من نصيبنا قوية البنيان شديدة الحيوية، أما تلك التى  آلت الى ملك إنجلترا، فيبدو عليها السقم وعلامات الموت".
وهذا ما حدث بالفعل، فقد ماتت زرافة الإنجليز بعد بضعة شهور. وبذلك إنتصرت فرنسا على إنجلترا نصرًا مؤكدًا حتى ولو لم يكن كافيًا كإنتقام من هزيمة واترلو.
ولم يبق إذن إلا شحن الزرافة الى فرنسا، فأعد دروفيتى الرحلة إعدادًا دقيقًا، ووجد بميناء الإسكندرية سفينة شراعية من سردينيا وتعهد قبطانها بأن يعامل الزرافة كما لو كانت إبنته، ونظرًا لأن مخزن السفينة لم يكن من الارتفاع بحيث يكفى لإيواء الزرافة. فقد فتحت ببساطة ثغرة فى  سطح السفينة. وبذلك إستقرت الزرافة فى القاع وخرجت رأسها من الثغرة بعد تبطينها بالقش لوقاية الزرافة من هزات الموج. كما أقيمت فوق رأسها مظلة لحمايتها من المطر.
ولكن كيف يمكن إطعام هذا الحيوان الذى  يتناول ٢٥ لترًا من اللبن يوميا؟ من هنا قرر دروفيتى شحن ثلاث بقرات حلوب. وأضاف إلى الشحن ظبيتين وسائسًا لحلب البقر وثلاثة حراس سودانيين لكى  تشعر الزرافة بأنها لم تفارق موطنها وأهلها. واستكمالًا لتلك التدابير وللإحتياط من الشر فكان أن علق فى عنق الزرافة حجاب يتضمن آيات من القرآن الكريم لحمايتها من كل سوء. ولم يفت دروفيتى أن يكتب إلى زميله بوتو وكيل الخارجية بمارسيليا مجموعة النصائح التى  ينبغى  إتخاذها لتوفير السكن والغذاء للزرافة عند وصولها الى مرسيليا.
 


ثم أقلعت السفينة وفى  ١٣ أكتوبر ١٨٢٥ رست فى  ميناء مرسيليا بسلام إلا ما كان من دوار البحر الذى  أصاب إحدى البقرات. وكان من الطبيعى  أن ينقل كل ركاب السفينة إلى منطقة الحجر الصحى  على حافة الميناء. وإنتهز السيد فيلتوف بارجيمون محافظ المنطقة فترة الحجر ليعد العدة لإقامة الإستقبال اللائق بالهدية السنية. 
وكانت هذه هى المرة الأولى التى يكلف فيها محافظ بمثل هذه المهمة. فأولاها كل اهتمامه بل وحماسه. ولم يكن يليق بتلك المهاجرة المميزة إذن إلا أن تستضاف فى  مبنى المحافظة ذاتها. فأقيم فى  الفناء حديقة مسورة وكوخ مرتفع يناسب الرقبة الطويلة ومزود بأجهزة للتدفئة ويتصل بطابقى  المبنى. وتقرر أن تقضى  الزرافة الشتاء بهذا المكان فما كان لها أن تنقل إلى باريس إلا مع تحسن الطقس. وحرص المحافظ على أن يرفع تقريرا إلى وزير الداخلية يطلعه فيه على كل التدابير التى  اتخذها... دون أن يغفل بطبيعة الحال مسألة تسديد التكاليف التى  لم ينص عليها فى  الميزانية الإدارية.
وفى  ١٤ نوفمبر نقلت من الحجر الصحى  إلى مبنى المحافظة ليلًا خشية التجمهر والتظاهر، وحرص المحافظ طيلة الأشهر السبعة التالية على العمل على راحة ضيفته التى  كان يتغزل بها فى  مراسلاته الرسمية فيصفها بقوله "ربيبتى" أو "غادة السهوب الإستوائية" أما زوجة المحافظ فكانت تقيم الحفلات لتعرض الحيوان العجيب على المجتمع الراقى  بالأقاليم. فى حين أخذ العلماء من أعضاء أكاديمية مرسيليا يتوافدون ليل نهار لمشاهدة الزرافة وتسجيل سلوكها بالتفصيل، وكان صمت الزرافة يدهشهم إلى أن إكتشفوا أن الزرافة صاحبة الرقبة الطويلة ليست لها حبال صوتية. وفى الوقت نفسه قرر المحافظ أن تتاح للزرافة فرصة الخروج للتريض حتى تحتفظ بلياقتها البدنية. وكان ذلك مشهدًا عجيبًا لسكان مرسيليا. ففى  كل يوم كان فرسان الشرطة يخرجون على صهوات خيولهم شاهرين سيوفهم ليفسحوا الطريق أمام الزرافة تتبختر بهدوء فى  شوارع المدينة فتثير لدى السكان أعظم السرور وإن أفزعت الخيل التى  كانت تثور وتحتدم دون أى  إعتبار للعربات التى  تجرها.
ولكن الملك كان يريد "زرافته" على وجه السرعة فما أن طلت بوادر الربيع حتى طرحت من جديد مشكلة النقل. وإستقر الرأى  على أن تسافر الزرافة إلى باريس سيرًا على الأقدام وعلى مراحل صغيرة لأنها كانت قد تعودت على السير. ولما كانت القافلة تتطلب رجلًا مجربا لقيادتها طرح الأمر على أحد كبار علماء فرنسا وهو العالم جوفروا سانت هيليز فقد اشتهر بنظريته عن "توازن الأعضاء" وكان من قدامى علماء الحملة الفرنسية. ولعله كان الفرنسى  الوحيد الذى  وقعت عيناه على الزرافة.
كان جوفروا فى الخمسين من عمره ويعانى  من الروماتيزم وأمور أخرى تقض مضجعه غير أنه إستجاب بحماس لنداء المغامرة تماما كما فعل قبل ذلك بثلاثين عاما تلبية لدعوة بونابرت. ووصل جوفروا من باريس الى مارسيليا ليقود القافلة.
درست رحلة الزرافة فى  شتى مراحلها بعناية دقيقة وتقرر أن تتكون القافلة من الزرافة والبقرات الثلاث وإحدى الظبيتين – فقد ماتت الأخرى بمارسيليا – وزوج من الماعز البرى  والسائس المكلف بحلب البقرات والحراس السودانيين ومترجم وعربة تحمل العلف. 
ولكى  لا تعانى  الزرافة من آثار الربيع فصل لها خصيصا معطف "مشمع مبطن" ذو غطاء للرأس وضرب على جانبيه شعار ملك فرنسا وباشا مصر. وقرر المحافظ أن يصحب القافلة حرس من الفرسان كما أرسل التعليمات اللازمة لعمد البلاد التى  ستمر بها القافلة فى  نطاق محافظته. وكتب لزملائه محافظى  المناطق الأخرى يسدى  النصائح التى إعتمد فيها على تجربته الشخصية.
وفى فجر ٢٠ مايو ١٨٢٧ تحركت القافلة وشقت طريقها بين جموع المتفرجين على طول الطريق الذين أخذوا يتزايدون يوما بعد يوم. ووضع ثلاثون فندقًا ومتجرًا ومحطة بريد شعار الزرافة على لافتاتهم تذكارا لمرورها.
ولما صارت القافلة على بعد خمسين كيلومترًا من باريس، نظمت الرحلات للقائها، وانتقل الناس بالعربات الجماعية والعربات الخاصة والسفن على نهر السين وبذلت جهود كبيرة لإستقبالها. 
وبعد ثمانمائة وثمانين كيلومترًا قطعتها الزرافة سيرًا على الأقدام فى  واحد وأربعين يومًا، وصلت الزرافة إلى باريس حيث وضعت فى  حديقة النباتات الإستوائية. وطلب الملك أن يرى زرافته فى  اليوم التالي.
وكان ثمة موكب بديع على إمتداد نهر السين. فقد اصطفت على الطريق حامية باريس عن بكرة أبيها، وعلى رأسها الجنرالات بقبعاتهم ذات الريش يليهم أساتذة متحف التاريخ الطبيعى  وكبار أساتذة الجامعة بثيابهم الرسمية التى  تعددت ألوانها وإزدانت بأوشحة الفراء البيضاء والنياشين يصاحبهم حُجاب الكليات يحمل كل منهم شارة كليته. 
 


وفى  سان كلو وأمام الحديقة التى  شهدت بونابرت وهو يتلقى زمام السلطة قبل ذلك بثمانية وعشرين عاما – وإن كان يحسن الصمت عن تلك الـذكريات بعد عودة الملكية- اصطف علية القوم كلٌ حسب رتبته من حول الزرافة التى  احتلت مكان الشرف وبعد بضعة دقائق وأمام حرس الشرف الذى  رفع السلاح بالتحية، وصل الملك وكان يتبعه ولى  عهده وزوجته. وكان الملك كعادته ودودًا رقيقا واتجه إلى قائد الزرافة العالم جوفروا فهنأه واستفسر منه عن الزرافة. وإتجه إليها بعد ذلك وقدم إليها أوراق الورد.
وبعد هذا الاستقبال الملكى عادت الزرافة إلى حديقة النباتات وقطعت طريقها بين صفين من المتفرجين لم يستطع الجنود المسلحون أن يسيطروا عليهم إلا بصعوبة.
وأوحت هذه الوافدة الغريبة بعدد لا يحصى من المقتنيات التى  شكلت على هيئتها وانتشرت بفضل التجار الجوالين فى  كل أقاليم فرنسا. ذلك أن الحرفيين رسموا صورتها بسماتها على الأطباق والسلاطين والمنسوجات وعلب التبغ والمدافئ والتقاويم ومختلف المطبوعات. وانتشرت بين النساء موضة تسريحة الزرافة. 
وأسكنت الزرافة فى  البيت الزجاجى الكبير بحديقة النباتات ثم احتلت فى أكتوبر ١٨٢٧"الشقة" التى خصصت لها فى  قاعة القبة – وكانت تتكون من غرفة مبطنة  بالقش هيئت لها الحرارة اللازمة عن طريق جهاز للتدفئة تساعده فى ذلك الأبقار وحيوانات أخرى بغية الإحتفاظ شتاء بالخمس عشر درجة اللازمة لصحة الضيفة الإفريقية. كذلك هيئت غرفة علوية لحارسها المصرى  حتى ينام قريبًا من رأسها.
وفى  الفترة من يوليو إلى ديسمبر ١٨٢٧ زار أكثر من ستمائة ألف باريسى  حديقة النباتات لمشاهدة الزرافة.
وفى  حوالى  عام ١٨٣٥ رئى تزويجها لكن الذكر الذى  خطبت له لم يغادر إيطاليا قط. وأمضت زرافتنا شيخوختها فى  هدوء. وامتد بها العمر إلى أن توفيت فى  عام ١٩٤٥ وحنطت. وظل جسدها يزين متحف التاريخ الطبيعى  الى أن نقلت لمتحف لاروشيل. 
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:

https://www.ledialogue.fr/