قال البابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية عن المشكلات والأزمات ’’ عودت نفسي في تعاملي مع المشاكل، أن اتركها خارجًا، لا أُدخِلها إلى أعماقي، ولا اسمح لها أن تمارس ضغوطا على نفسيتي، أو على أعصابي‘‘.
رغم ابتسامته المعهودة عبر سنوات الحياة لا تدع مجالًا للناظرين أن يشك للحظة واحدة بأن ذاك الشخص عاني مرارة الأزمات طيلة السنين ليس لما يحمل كاهله من مسؤوليات رعاية ملايين ولكنها كتبت عليه قبل ان يسجل شهادة قيدة مواطنًا علي قيّد الحياة، زادت مع مرور السنوات وبلغت ذروتها لتحمل المسؤوليات؛ نحن أمام شخصية استثنائية فريدة التكوين والطابع إنه بابا وبطريرك الكرازة المرقسية الأنبا شنودة الثالث.
في قرية سلام التابعة الأن إدريًا لمركز منقباد وتخضع كنسيًا لإيبارشية منفلوط بمحافظة أسيوط ولد نظير جيد رافائيل، عن اسرة ميسورة الحال، ولكن كتب الأقدار أن يفقد والدته بعد 48 ساعة فقط من ولادته بحمي النفاس،لم تبصرها عينه ولم يحظي بقطرة حنان الأمومة او يذوق لبن الأم كسائر الأطفال؛ ولكن الله كان رحيمًا إذ يصادف وجود سيدة جيرانهم وضعت طفلها قبل أيام حتي يتقاسم نظير مع عواطف ابنة جارتهم المصرية المسلمة طعامه الرباني.
ووسط خضم الأحداث اغفل والدة تسجيله في المواليد فكان لفترة يتيمًا وغير موجودا علي الاوراق، يبدو أن انعكاسات فترات عصيبة عاشها في حياته منذ ولادته ونعومة أظافرة جاءت جليه فى قصائدة حينما كتب البابا شنودة فيما بعد من واقع الذكريات الأليمة
"أحقاً كان لي أم فماتت.. أم أني خُلِقت بغيـر أمـــي
رماني الله في الدنيا غريباً.. أحلق في فضاء مُدلَهِمِّ
وأسال يا زماني أين أحظــــى.. بأخت أو بخــالٍ أو بعمِ
وأسأل عن صديق لا أجده.. كأني لست في أهلي وقومي
وهل أقضي زماني ثم أمضي.. وهذا القلب في عدم ويُتم".
عقبات الدراسة ..
نظرًا لاغفال تسجيل اسمة في كشوف المواليد كان عقبة في التحاق صفوف التعليم فكان اللجوء للصحة واجبًا للتسنين، فكان لدية متسعً للاطلاع والقراءة لدخولة بين التلاميذ متأخرًا عن اقرانه، وانتقل ما بين دمنهور والإسكندرية وأسيوط وبنها، حتي أتم دراسته الثانوية بمدرسة الإيمان الثانوية بجزيرة بدران بشبرا مصر، وذلك لارتباطة بشقيقه الأكبر والذي كان يصطحبه حينما ذهب وفق طبيعة عملة.
مع حقب الحياة موجات التغيير من اليتم إلي التعلم مرورًا بالخدمة والتجنيد والتفوق والتقديرات إلي تارة السياسة والكتابة ومنها إلي الدير والرهنبة لكل حزمة معطيات وتزخر بالتفاصيل تناولتها البوابة في هذا الملف الخاص عن رجل وصف بأنة حبيب الملايين لما طغت شعبيته الجارفة بين ارجاء المسكونة كلها.
بعد مسيرة رهبانية تجاوزت سبعة عشر عامًا ورتبة الأسقفية ومسؤولية التعليم في الكنيسة نحو تسع اعوام استطاع ان يحصد جمع غفير من الشباب والفتيات وبخاصة المراحل الجامعية واحتواء الكثيرين وجميعها كانت مؤشرات لقياس الإدارة بفن الاحتواء والاحتضان، وبعدها نحو 41 عامًا في سدة البابوية كانت مليئة بالاحداث والتفاصيل بين الفرح والحزن والضيق والرحب.
ولكن لانه رجلًا فريدًا تتجمع الأقدار لتضعه في ميزان القياس ليكون كل مرة او غالبية الأحيان في كفة الرابحين وتزداد جماهيريته ومحبية ليس على صعيد الكنيسة وحدها بينما تجاوز الأسوار ليكون ساكن قلوب المصريين في أرضها السمراء وحتي خارج القطر والحدود.
باكورة الأزمات.. بعد التجليس بشهور
لم يمضي طويلًا علي كرسي مرقس الرسول في موقع المسؤولية والقيادة حتي تشهد منطقة الخانكة أزمة طائفية بامتياز تستهدف نسيج الوطن الواحد حادث كنيسة الخانكة نوفمبر 1972 الذى كان فقرة اولية في مسلسل ممنهج يوقد نيران الفتن، حيث قام متشددون بإضرام النيران في مبنى جمعية الكتاب المقدس والتي داخلها كنيسة يصلي فيها المسيحيون.
وما كان من الأنبا شنودة بابا الكرازة المرقسية آنذاك الإ ان يرسل في الأحد التالي للحادث، عددا كبيرًا من القسوس والأساقفة لاقامة الصلوات فوق ركام المبني المتحطم، وكان الرد من الجماعات المتشددة تنظيم مسيرات وتوالت الهجمات علي الأقباط؛ وجددوا حرق المبني حتي يصبح اطلال.
وكان للبابا وقتها تصريح نصه:"قررت ألا تراني الشمس آكلا أو شاربا حتى تحل المشكلة"؛ ومن هنا بدأت نقاط الإختلاف مع الرئيس السادات الذى بدوره أتهم البابا بإنه يريد يثير الأوضاع بالغة الخطورة ولا سبيل لمعالجتها.
ووفق ما ورد بمذكرات محمد حسنين هيكل المعروف بـ"الأستاذ"، قال السادات له «شنودة يريد أن يلوى ذراعي ، ولن أسمح له أن يفعل ذلك» ومن هنا بدأت الهوة بين الرئيس والبابا.
المهجر يرد والأزمة تحتّد
لم تبرد نيران الخانكة فكان ردها لهيب التظاهر في أمريكا ضد السادات عام 1975، مع تزايد وتيرة الأعمال المتشددة تجاه الأقباط في تلك الحقبة من قبل الجماعات المسماة بالإسلامية داخل الشارع المصري وفتح مساحات من قبل القيادة السياسية وقتها التي قامت برعايتها بهدف محاربة التيارات اليسارية والشيوعية.
تعالت وتيرة الطائفية داخل المجتمع وامتدت حتي داخل اسوار الجامعات وحظر احتفالات العذراء المعتادة في المحرق وغيرها،فما كان من المهاجرون المصريين المسيحيين الإ ان استقبلوا السادات في زيارة امريكا بتظاهرات وحمل لافتات تستنكر ما يحدث للمصريين المسيحيين، ووصفت الصحف الامريكية وقتها رئيس مصر بطريقة لاتليق، مما دعا السادات للاتصال بالأنبا شنودة لوقف تلك المظاهرات ظن منه أن البطريرك يتحداه علنية.
لقاء القناطر ومجلة الهيئة ..
يبدو أن البطريرك والسادات كان علي وعد بلقاءا الاحتدام، اجتمع الرئيس مع البابا شنودة في عام 1976 في القناطر الخيرية ، وكان الرئيس ثائرا غضبا لما نشر علي صفحات مجلات الهيئة القبطية الصادرة من الخارج، وقال الرئيس وقتها للبطريرك :”شوف ولادك بيعملوا إيه في امريكا ‘‘، فكان الرد:" ذلك كله من قصاصات أوراق جرايدنا ونحن هنا في مصر قد أعطيناهم المادة لكى يكتبوها وينشروها".
77 عام الأشتباك بين البطريرك والرئيس
بدأ البابا شنودة شهر يناير عام 77 بتنظيم مؤتمر العام في يناير بمؤتمر يطالب بإلغاء مشروع الردة ويطلب تحقيق الحماية لحرية العقيدة الدينية وممارسة الشعائر وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وتمثيل المسيحيين في الهيئات النيابية والتحذير من الاتجاهات المتطرفة، وحينها دعا البطريرك عموم المسيحيين للصوم الانقطاعي ثلاثة ايام حتي تنظر الدولة لطلبات الكنيسة.
لم ينتهي العام بدون مشاكسة، في اتفاقية كامب ديفيد 1977
سجل البابا شنودة رفضه القاطع لاتفاقية السلام مع اسرائيل ، وأكد ذلك بأن قرر عدم الذهاب مع الرئيس السادات .. وقوله الشهر لن ندخل القدس الإ مع اخواتنا المسلمين، وخلق حالة احتقان شديدة وتوالت بعدها قرارات تنذر بالصدام المنتظر.
أصدرت أجهزة الأمن قرارا للبابا بوقف إلقاء درسه الأسبوعي، ورفض البابا ثم قرر تصعيد الأمر بأن أصدر قرارا بعدم الاحتفال بالعيد فى الكنيسة وعدم استقبال المسئولين الرسميين الذين يوفدون من قبل الدولة عادة للتهنئة
بل وصل الأمر إلى ذروته عندما كتب فى رسالته التى طافت بكل الكنائس قبيل الاحتفال بالعيد أن هذه القرارات جاءت”احتجاجا على اضطهاد الأقباط فى مصر” ورفض إذاعة الاحتفال بالأعياد فى أجهزة الإعلام كما جرت العادة وقتها. وكانت هذه المرة الوحيدة التى يقر فيه البابا علانية بوجود اضطهاد للأقباط فى مصر ولم يفعلها بعد ذلك مطلقا، ولاحت الأفق ازمة القطيعة بين البطريرك والرئيس.
وكانت دعوة البابا لزيارة امريكا بنزين علي نيران الخلاف، فى أعقاب زيارة السادات لأمريكا بنحو شهر، وجهت دعوة للبابا شنودة لاول مرة لزيارة امريكا 14 إبريل 1977، واستقبله شعب الكنيسة هناك بترحاب شديد، والتقي خلال الزيارة جيمى كارتر الرئيس الأمريكى الجديد آنذاك، وكانت المرة الأولى فى تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية التى يلتقى بطريرك رئيسا أمريكيا وبخاصة في ضوء حراك غير طبيعيا على الصعيدين الاقليمي والدولي فطلب البابا حضور السفير أشرف غربال سفير مصر فى واشنطن مرافق للزيارة ليكون شاهدا.
مذبحة الزاوية 1981
وفي يونيه 1981حدثت احداث مذبحة الزاوية الحمراء التى راح ضحيتها اكثر من 81 قتيلا ، وفشلت الحكومة في وأد الفتنة واستمرارها الي الان وقال السادات في خطابا:”أن سبب حوادث الزاوية الحمراء ماء غسيل وسخ ألقاة مسيحى قبطى على عائلة مسلمة وشجار تم بين أسرتين نتيجة لذلك وعدد القتلى من الأقباط قى حادثة الزاوية الحمراء هم تسعة أفراد فقط” على خلاف الحقيقة بان هناك وهي محاولة السطو على أرض خصصت لبناء كنيسة وجرت الاشتباكات على اثرها واستمرت نحو ثلاثة ايام مسلسل من التسيب والأنتفلات.
سلاح السلطة والمجاهرة بالصدام
يبدو ان بلغ السيلُ الزُّبَى في قلب الرئيس وجاء علي لسانه قرار تحديد إقامة البطريرك في ديره بالأنبا بيشوى، وذلك خلال مؤتمر صحفي عالمي عقده الرئيس السادات فى قريته ميت ابو الكوم فى 9 سبتمبر 1981 علق السادات على مشاكل الاقباط والصدامات مع البابا قائلا :
“بالنسبة للبطريرك فإن مهمة البابا أولاً أنه قس، ثم المهمة الثانية مسئوليته في رعاية الكنيسة. وإني أتوجه لشعبي المسيحي، وأود هنا أن أقول إنهم انتخبوه بناء على قوانين الكنيسة على أنه بابا، والدولة فوراً أصدرت ما تسميه بالقرار الجمهوري لتعزيز هذا الانتخاب، وهو أمر حيوي بالنسبة لأي بابا ليعمل.
وان ما حدث هو لا يمكن لأحد أن يكون له أي دخل بالقوانين، ولكن ما ألغيته بالفعل هي النقطة الثانية، والتي لدي السلطة أن ألغيها، وهي إعلانه أمام الدولة وأمام العالم بأسره على أنه رئيس الكنيسة. ولهذا فإنني اكتفي فقط داخل حدود مسئولياتي، ولكن لو طلبت أن أعدل عن فكرتي، فإني أقول إنه يتعين على الرجل أن يبقى في ديره كما كان الحال في الماضي.
وجاء قرار التحفظ وتشكيل لجنة لإدارة الكنيسة، ايضا وسط تصفيق من مجلس الشعب آنذاك؛ ولحق بهذا القرار حملة مكبرة للاعتقالات طالت اساقفة وكهنة واراخنة وعلمانيين وغيرهم، وظلوا علي هذا الحال لفترة، وخلال احتفالات 6 أكتوبر ذات العام، قامت الجماعة الإسلامية التي أطلق سراحهم السادات باغتياله.
وإن الفراغ الذي أحدثه عزل البابا داخل الكنيسة كان تملؤه العظات والتسجيلات الصوتية للبابا المتنيح، والتي عكف الأقباط على تداولها طيلة مدة عزله ما زاد شعبيته داخل الرواق الكنسى.
العودة وأزمات جديدة
عقب تولى حسني مبارك مقاليد الرئاسة في 14 أكتوبر 1981 خلفًا للسادات، قام بإجراء عدد من الزيارات الخارجية، قام البابا شنودة بإيفاد بعض الأساقفة لأبناء الكنيسة من المتواجدين بالمهجر لتهدئة الأجواء وضرورة الترحيب بالرئيس حفاظًا على صورة مصر، وكان هناك عدة محاولات لإلغاء تحديد إقامة البابا شنودة الثالث، إلى أن قام مبارك في 3 يناير 1985 بإصدار قرار جمهوري نصه أنه "بعد الاطلاع على الدستور، وعلى قرار رئيس الجمهورية رقم 2782 لسنة 1971 بتعيين بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وعلى قرار رئيس الجمهورية رقم 491 لسنة 1981 بإلغاء قرار رئيس الجمهورية السابق ذكره.. يعاد تعيين الأنبا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية".
ولم يخلو ما تبقي من عمر دون مرور الأزمات التي ادارها بالحنكة والحكمة والدعاء والصلاة والقول والاحتجاج بصور مختلفة، ولعل منها حادث الكشح الشهير عام 99 والذى طالها مما اسفر عن مقتل نحو 21 شخصا وإصابة 33 آخرين، والتي تجددت عام 2000 قبل أن تسيطر قوات الأمن على الموقف.
فتنة المسرحية 2006
روج البعض ان هناك عرضا مسرحيا داخل كنيسة بالإسكندرية يسيئ للمصريين المسلمين مما ادي لاندلاع ازمة كبري سقط خلالها قتلي وجرحي.
مطرانية نجع حمادي 2010
أدى اعتداء على مطرانية نجع حمادي، بمحافظة قنا جنوبي مصر، إلى مقتل ستة أقباط وحارس أمن مسلم وسقوط عدد من الجرحى، بعد أن فتح مجهولون النار عليهم أثناء خروجهم من قداس بالمطرانية.
مطروح والعمرانية ازمتي 2010
انتقل الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين إلى محافظة مرسى مطروح، شمال غربي مصر، والتي شهدت اشتباكات وصفت بالطائفية أصيب خلالها 30 شخصا، بينهم 7 من رجال الأمن؛ وايضا الخلاف حول بناء كنائس جديدة يعد سببا رئيسيا للاحتقان الطائفي في مصر. وتسبب رفض بناء كنيسة في منطقة العمرانية، بمحافظة الجيزة، إلى اندلاع اشتباكات بين مسلمين ومسيحيين مما أوقع جرحى. وألقت السلطات القبض على عشرات الأشخاص.
2011 شاهد احداث القديسين وأطفيح وأمبابة
كان تفجير كنيسة القديسين في محافظة الأسكندرية، شمالي مصر، في يناير/ كانون الثاني 2011، أحد الأحداث الشهيرة قبيل ثورة 25 يناير. وتسبب الهجوم في مقتل 23 شخصا وجرح 79 آخرين، فيما استمر وكانت اول شرارة بعد الثورة في مارس بمدينة أطفيح على ما اشيع بأن هناك علاقة بين رجل مسيحي وامرأة مسلمة وأدى الأمر إلى اندلاع اشتباكات، أصيب فيها عدد من الأشخاص.
وفي امبابة اندلعت أعمال عنف طائفي بمنطقة إمبابة، التابعة لمحافظة القاهرة، أودت بحياة 13 شخصًا، واندلعت الاشتباكات بعد حصار عشرات المتشددين لكنيسة هناك مطالبين باستعادة فتاة زعموا أنها كانت مسيحية وأسلمت وأنها مسجونة في الكنيسة.
الهتاف والرحيل وبكاء البطريرك
هنا بكي البابا شنودة، جراء "أحداث ماسبيرو"، والتي راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى، ووقعت الأحداث بعد تظاهرة للأقباط، احتجاجا على هدم مبنى اعتبره الأقباط كنيسة في محافظة أسوان، جنوبي مصر. واتجه المحتجون إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون المصري "ماسبيرو" لتندلع اشتباكات تدخلت فيها قوات الجيش والشرطة.
اول تظاهرات تحيط الكاتدرائية
وتخلل عام 2011 تظاهرات من قبل التيارات المتشددة بمحيط الكاتدرائية لتحمل شعارات وهتافات تصل لدرجة السباب للبطريرك والأقباط عموما بزعم طلبهم الافراج عن المحتجزات من معتقني الإسلام من القبطيات علي خلاف الواقع، وسط هتافات مسيئة ومشينة.
وفي كل الازمات كان البطريرك يتخذ خطوات الحكمة لتكون ميثاق التعامل وفق معطيات الحالة وظل كما هو بابا العرب المُحب للجميع حتي رحل 2012 في وداعًا عظيم.