في خمسينيات القرن الماضي بدأت هجرة واسعة من الأقباط المسيحيين إلي الخارج، قاصدين أوربا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان؛ ليشكلوا تكتلات كبيرة جداً بالخارج وأطلق عليهم فيما بعد مصطلح “أقباط المهجر”، وقبل اعتلاء البابا شنوده الثالث الكرسي البابوي في مطلع سبعينات القرن الماضي، كانت الخدمة وعدد الكنائس خارج مصر ضئيلة جداً وتحتاج لرعاية واهتمام بالغ، إلي أن جاء معلم الأجيال وصنع طفرة كبيرة سطر بها التاريخ من خلال خدمته الرعوية وإسهاماته بالخارج.
وحرصت جريدة البوابة نيوز على أن تسلط الأضواء على هذا الأمر الهام في حياة قداسته بمناسبة مرور أحد عشر عاماً علي رحيله ، عن طريق إجراء حوار مع أحد أشهر كهنة المهجر بالخارج وهو القمص يوحنا نصيف.
جاء نص الحوار كالآتي:
- كيف كانت علاقتك بالبابا شنوده وكيف بدأت خدمتك الرعوية في المهجر؟
كانت علاقتي الشخصيّة بقداسة البابا شنوده مملوءة دائمًا بالحُبّ والاحترام المتبادَل، مع أبوّة حانية وثقة كبيرة كان يضعها في ضعفي كسكرتير لمجلس كهنة الإسكندريّة. وأعطى قداسة البابا صلاحيّات واسعة لهذا المجلس من جهة الأمور الرعويّة والإداريّة في كلّ أنحاء الإسكندريّة، عندما اطمأنّ لمستوى الأمانة والإتقان الذي نؤدّي به مهامّنا.. فكان يحترم جدًّا كلّ ما أكتبه له من تقارير بخصوص أمور عديدة.
في منتصف عام 2009م، ظهرت بعض الظروف الصحيّة المُقلقة لزوجتي، وكانت هناك مشكلة في تشخيص المرض وبالتالي علاجه، والحقيقة أنّي لم أُرِد أن أُخبِر قداسة البابا بالأمر حتّى لا أزعجه.. وكان ترتيب الله أنّه قد جاءت لي دعوة في تلك السنة للقيام بخدمة نهضة السيّدة العذراء في كنيسة العذراء بشيكاجو، فأذِن لي قداسة البابا شنوده بالذهاب، وتردّدنا على العديد من الأطباء هناك.. وفي أثناء ذلك علِم البابا بموضوع مرض زوجتي من بعض الأشخاص، فمِن محبّته الأبويّة قرّر أن أنتقل للخدمة بأمريكا لمتابعة علاجها، وكان دائم السؤال عليها، حتّى تحسّنت الحالة بعد مدّة طويلة.
- كيف بدأ البابا شنودة في رعاية والاهتمام بأبنائه في الخارج بشكل عام؟
قبل استلام البابا شنوده مسؤوليّته كبطريرك، كان الراحل الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامّة هو المسؤول عن خدمة المهجر، وكان القدّيس البابا كيرلّس السادس أيضًا يتابع تأسيس ونمو الكنائس في كندا وأمريكا وأستراليا.
مع جلوس قداسة البابا شنوده على كرسي مارمرقس، استلم ملف خدمة المهجر وتابعه بنفسه، فكان يهتمّ بكلّ منطقة وبكلّ أسرة قبطيّة في المهجر، ويشجّع على إنشاء الكنائس الجديدة في كلّ أماكن التجمّعات القبطيّة، ويرسل لهم الآباء الكهنة لخدمتهم.
في عام 1977 قام قداسة البابا شنوده بزيارته الأولى إلى أمريكا، والتي استغرقت حوالي شهر ونصف، وفيها زار جميع الكنائس والتجمّعات القبطيّة، وعاين على أرض الواقع ظروف الخدمة، وصلّى العديد من القدّاسات، وقام بتعميد الكثير من الأطفال، ووضع حجر الأساس لدير قبطي بكاليفورنيا.. وبعد ذلك قام بزيارة أخرى طويلة استغرقت عدّة شهور في أواخر عام 1989م، افتقد فيها الكنائس في أمريكا وكندا واستراليا، وفيها تابع وشجّع نمو الكنيسة بكلّ تلك الأماكن المترامية الأطراف، وبعد ذلك قام بعشرات الزيارات.. حتّى كانت آخِر زيارة قبل نياحته بأقلّ من شهرين.
من 7 كنائس في المهجر إلي ما يقرب من 250 كنيسة، فقط في الولايات المتحدة، في عهد البابا شنوده... كيف وصلت الكنيسة القبطية إلي هذا النمو بالولايات المتحدة؟
الحقيقة أنّ نمو عدد الكنائس في الولايات المتّحدة الأمريكيّة لم يكُن عشوائيًّا، بل كان يتمّ بتخطيط مدروس مع متابعة جيّدة من قداسة البابا شنوده.
فعندما يتواجد تجمّع لعدد من الأُسَر القبطيّة في مكان، كان البابا ينتدب لهم كاهنًا ليصلّي معهم مرّتين سنويًّا؛ في مناسبات أعياد الميلاد والغطاس، وأسبوع البصخة وعيد القيامة، وعندما يزيد عدد الأسَر عن 15 أسرة، يبدأ في ترتيب كاهن دائم لخدمتهم.
كانت بدايات الكنائس بالصلاة في أماكن مؤجّرة، ومع مرور الوقت بدأ شراء كنائس وتجديدها، أو بناء كنائس جديدة على الطراز القبطي.. وكان قداسة البابا يشجِّع كلّ هذا بأسلوب غاية في المرونة والاتزان...
ومع قدوم القرن الحادي والعشرين، بدأ قداسة البابا شنودة في سيامة كهنة من الجيل الجديد المتحدّث بالإنجليزيّة، كرُعاة للكنائس.. وكان هذا علامة صحّيّة لنمو الكنيسة وتواصُل الأجيال.. وحاليًا في عهد قداسة البابا تواضروس، زاد عدد الآباء الكهنة من الجيل الجديد، فمثلاً في منطقتنا هم يُمثّلون أكثر من عشرين بالمائة من عدد الآباء الكهنة الموجودين.
- كيف كانت علاقة البابا شنوده بالقمص بيشوي كامل؟
كانت علاقة محبّة كبيرة متبادلة، منذ الخمسينيّات من القرن العشرين، وكان قداسة البابا شنوده مُعجبًا جدًّا بخدمة القدّيس القمّص بيشوي كامل، ويستأمنه على مسؤوليّات كثيرة في خدمة الكنيسة بالإسكندريّة وبالمهجر أيضًا، وقد قال عنه بعد نياحته في مارس 1979م، الكثير من الكلام الطيّب، مثل::
كانت سيامة أبينا بيشوي كامل، طفرة في الخدمة الرعويّة الكهنوتيّة في الإسكندريّة.. لم يكُن مجرّد أب كاهن نشيط، وإنّما صار بالأكثر نموذجًا في الخدمة الكهنوتيّة.. هناك أشخاص يعيشون على الأرض، ويقضون حياتهم وكأنّهم لم يعيشوا. وهناك أشخاص يعيشون فترة فيحوِّلون مجرى الأمور، ويكون لهم تأثير في كلّ أحد، وقد كان القمّص بيشوي واحدًا من هؤلاء. كان من الأرواح الكبيرة، من الطاقات الضخمة التي استخدمها الله في بناء ملكوته. لم يكُن فردًا، إنّما كان مدرسة. كانت له حياة، كرائحة طيب، أو كرائحة بخور، أو كأنغام مزمور.. كان قلبه يشتعل بالملكوت، ارتفع فوق مستوى الذّات، إلى مستوى الملكوت. كان رجلاً كنسيًّا بكلّ معنى الكلمة، كان يعيش في الكنيسة، والكنيسة كانت تعيش فيه؛ تعيش في قلبه وفي ذاكرته، في عظاته، في صلواته، في كلامه.. الكنيسة كانت تجري في دمه..
- حَدِّثنا عن دور البابا شنوده في الحوارات المسكونية بين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكنائس الغربية؟
كان قداسة البابا شنوده يهتمّ جدًّا بالتواصُل والعلاقات الطيّبة مع كلّ الكنائس، وفي بداية حبريّته عام 1972م قام بزيارة إلى لبنان وروسيا وبعض دول شرق أوروبّا، وفي عام 1973 زار الفاتيكان والتقى بقداسة البابا بولس السادس، ووقّع معه بيانًا لاهوتيًّا شاملاً.. كما شجّع مؤتمرات الحوار المسكوني على مدى عشرات السنوات، لمزيد من التقارب بين الكنائس.
كانت شخصيّة البابا شنودة قويّة جدًّا، فلم يخشَ من مواجهة أي شخص.. ومع عمق دراسته للإنجيل، كان يستخدم هذا في إيجاد أرضيّة مشتَرَكة للحوار مع جميع الكنائس.
وفي عهده، في نهاية الثمانينيّات، تمّ إنجاز اتّفاقية حول طبيعة المسيح بين الكنائس الأُرثوذكسيّة والكاثوليكيّة، وفي سبتمبر من عام 1990 تمّ أيضًا الاتفاق على رفع الحروم بين العائلتين الأُرثوذكسيّتين، تمهيدًا للوحدة الكاملة، ولكن للأسف تعطّلت الجهود لأسباب سياسيّة بعد سقوط الشيوعيّة.
مع العلاقات الطيّبة بين الكنائس، كان البابا شنودة شجاعًا في الشهادة للحقّ، ويرفض الانحرافات اللاهوتيّة أو السلوكيّة التي تظهر من آن لآخَر في بعض الكنائس الغربيّة.
- هل كان لأقباط المهجر أيّ توجُّهات سياسية؟
أقباط المهجر هم أوّلاً وأخيرًا مصريُّون، ومحبّة وطنهم مصر ساكنة في قلوبهم، حتّى لو كانوا يعيشون خارجها.. وبسبب مناخ الحريّة الموجود في الخارج، فالأقباط يُعبّرون عن آرائهم السياسيّة بصراحة.
لا ينبغي أن ننسى أنّ معظم العائلات المصريّة، قد صار لهم فروع خارج مصر، وبالتالي فالذين في الخارج يتابعون ما يحدث بالداخل، ويتألّمون لأيّ ظروف صعبة قد يمرّ بها أقرباؤهم داخل مصر.. وأحيانًا يثورون ضدّ أحداث فيها عنف أو كراهيّة أو أحكام غير عادلة ضد أهلهم بمصر.
كان البابا شنوده شخصيّة مرهفة الحسّ، ويشعر بآلام أبنائه، بل ويتأثّر جدًّا بها.. لذلك عندما كانوا يعانون من ظلمٍ أو اعتداء، كان يقف مدافعًا عن حقّهم في حياة كريمة، ومواطَنَة غير منقوصة.. ولكنّ انفعاله بالأحداث كان منضبطًا جدًّا، فيقوم بقدر طاقته بالتهدئة، ولكن أيضًا ليس على حساب الحقّ.. كما كان يحاول بأسلوب حكيم أن يوضِّح الأمور لأبنائه الأقباط خارج مصر لكي يهدأوا، فكان صانعًا للسلام، محافظاً على العلاقات الطيّبة والعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد.
- - عصابة الأخوان اتّهمت البابا شنوده عبر لجانها الإلكترونية أنّ اهتمامه بالمهجر كان هدفه الضغط علي الحكومة المصريّة في القضايا القبطيّة. فما مدى صِحّة هذا الادّعاء؟
الحقيقة أنّ البابا شنوده كان حريصًا على عدم إحراج الحكومة المصريّة، مهما كان حجم المشاكل، وأنا أشهد بذلك، لأنّي عاصرتُ أحداثًا كثيرة عن قُرب.. بل أنّه كان يُرسِل دائمًا آباء أساقفة لأمريكا، ومعهم دائمًا خطاب للشعب بخطّ يده، قُبيل زيارة الرئيس السادات أو الرئيس مبارك إلى هناك، من أجل تهدئة الأقباط وتهيئة الأجواء للزيارة، حتّى تمرّ بسلام ونجاح.
أتذكّر في عام 2009م، أنّ توتُّرًا كبيرًا حدث بسبب تصرُّفات غير ودّيّة صدرت من محافظ الإسكندريّة في ذلك الوقت ضد الكنيسة، بهدم بعض المباني، وغضب البابا شنوده من ذلك، وعبّر عن استيائه بعدّة وسائل، ولكنّ المحافظ لم يلتفت لكلّ هذا ولم يحرِّك ساكِنًا، وفي النهاية قام مجلس كهنة الإسكندريّة مع المجلس الملّي السكندري بصياغة بيان شديد اللهجة، وإرساله للسيّد المحافظ، وعندما عَلِمَت وسائل الإعلام بالبيان طلبوا صورة منه لنشرها، ولكنّ البابا شنوده بحكمته المعهودة قرّر عدم نشر ذلك البيان قائلاً أنّ هذا سيكون إحراجًا كبيرًا للحكومة في ظلّ زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والتي كانت مقرّرة بعد أسبوعين من ذلك التاريخ، وتمّت في 3 يونيو 2009م.
هكذا كان البابا شنوده يتعامل بحكمة بالغة مع كافّة القضايا الحسّاسة، وكان حريصًا على مناخ السلام في البلاد، مهما كانت صعوبة الظروف والأحداث.
- وأخيراً كلمة توصف بها البابا شنوده ومشاعرك تجاه:
كان قداسة البابا شنودة الثالث يتمتّع بكاريزما ضخمة، وذكاء حادّ، وسرعة بديهة تفوق الوصف، مع قوّة في الشخصيّة، لذلك فقد أثّر تأثيرًا عميقًا في جميع الذين تلامسوا معه وعاشروه، كما ترك بصمات واضحة في حياة الكنيسة القبطيّة، ستظلّ شاهدة لعمل الله في شخصيّته الفذّة.
أوّل مرّة أراه كانت في طفولتي، عندما كان أسقفًا للمعاهد الدينيّة والتربية الكنسيّة، وزار مدينة شبين الكوم عام 1968م، حيث كنت أعيش في ذلك الوقت.. وقد ازدحمت كنيسة مار جرجس بالشعب عن آخرها، حتّى أنّ الكثيرين أثناء العظة كانوا يجلسون على الأرض حوله، وكنتُ منهم.
بعد أن صار بطريركًا، في بداية السبعينيّات من القرن الماضي، كنت أتابع مجلّة الكرازة التي كانت تصدر كلّ يوم جمعة أسبوعيًّا بصفة منتظمة، وأقرأها جيِّدًا وأتعرّف منها على كلّ أخبار الكنيسة.
وفي نهاية السبعينيّات اقتربت منه أكثر، وأحببت أسلوبه في الحديث والشرح والتأمُّل، وأسلوبه العذب في الكتابة أيضًا.. كما حفظت معظم أشعاره الروحيّة وترنّمت بها.
قداسة البابا شنودة هو الذي دعاني للخدمة الكهنوتيّة بالكنيسة المرقسيّة بالإسكندريّة في عام 1996م، إذ وجدتُ نعمة في عينيّه.. واستمرّت علاقة المحبّة الكبيرة بيننا حتّى نياحته في عام 2012م.