بدأت علاقتى بالمتنيح البابا شنودة الثالث منذ الطفولية المبكرة كما ذكرت فى مقالاتى السابقة عنه، بينما بدأت علاقته هو بى منذ قدّمنى إليه المتنيح الأنبا أرسانيوس فى سنة ١٩٨١م (وإن كان قد تابع بعضًا من كتاباتى كما أخبرنى هو لاحقًا، وقد نشر لى أكثر من مقال فى مجلة الكرازة، كما قدم لى كتابًا عن الرهبنة الحبشية فى بداية التسعينات).
بعد عدّة سنوات كنّا نتقابل معه خلالها فى زياراته السنوية للدير فى أسبوع الآلام، طلب منى الذهاب مع ثلاثة رهبان آخرين لتعمير دير الأنبا أنطونيوس بكاليفورنيا، وكان هؤلاء الثلاثة هم: الراهب شنوده الأنطونى (حاليًا نيافة الأنبا يسطس أطال الله حياته)، والراهب كاراس الأنبا بيشوى (المتنيح الأنبا كاراس والذى أصبح أول أسقف للدير هناك)، والراهب بافلوس الأنبا بيشوي، ولكن الأنبا أرسانيوس اعتذر له عن ذهابى معهم، ومن ثَمَّ ذهب مكانى المتنيح القمص بنيامين البرموسى والذى خدم هناك كأمين للدير لسنوات، وعاد البابا شنودة عقب نياحة الأنبا كاراس ليعرض عليّ من جديد - من خلال نيافة الأنبا أبوللو أسقف سيناء الجنوبية- الذهاب إلى هناك، ووافقت حينها، غير أنه حدث قبيل سفرى إلى هناك أن طلبنى نيافة الأنبا أرسانيوس من جديد لأخدم معه بالمنيا، حيث كان قد تقدم فى السن وطلب أن يعاونه اثنان من الأساقفة فى الإيبارشية.
واقترح البابا شنوده حينذاك أن أخدم معه لفترة فى السكرتارية، وقت أن كان هناك كل من الأنبا يؤانس الأسقف العام (أسقف أسيوط حاليًا) والقمص إرميا آفا مينا (الأنبا إرميا الأسقف العام حاليًا)، وخدمت هناك بالفعل لمدة تقرب من السنة، حيث أتاحت لى هذه الفترة الاقتراب منه بشكل أكبر، وكنت أقيم فى قلاية إلى جوار سكنه بالدور الأول العلوي، وكانت لى معه خلال تلك الفترة لقاءات مطولة، وخلال تلك السنة أيضًا تنيح عدد من الآباء المطارنة والأساقفة، منهم المتنيح الأنبا مينا مطران جرجا، والمتنيح الأنبا صموئيل أسقف شبين القناطر، كما كانت "ميت غمر" قد انفصلت كإيبارشية بعد نياحة الأنبا فيلبس مطران الدقهلية وميت دمسيس، ولم يكن قد سيم لها أسقف بعد. وعرض عليّ قداسته وقتها الذهاب إلى جرجا فالتمست من قداسته أن يجعلنى فى مكان قريب منه، ومن ثَمَّ اقترح عليّ ميت غمر فأبديت موافقتي.
ولكن توالت الأحداث بعد ذلك حيث أرسلنى لتأسيس كنيسة فى منطقة "سان رامون" بسان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، وكلفنى وقتها بالمرور على دير الأنبا أنطونيوس بكاليفورنيا، ولما عدت من أمريكا خيّرنى بين الخدمة هناك والخدمة فى مصر، وكان المتنيح الأنبا أرسانيوس قد عاد ليكرِّر طلبه بإلحاح، وأتذكر أننى قلت له -وكنّا فى مقر تحرير مجلة الكرازة- إننى أوثر الطاعة على الاختيار، وسُرَّ بالرد، وبعد عدة أشهر طلب منى الاتجاه إلى المنيا وألحّ فى ذلك. ولم أكن متشجعًا للذهاب إلى هناك حيث لم أكن قد ذهبت إليها من قبل ولا اعرف عنها شيئًا، بل كانت هناك العديد من المخاوف، ولكننى أطعتُ وذهبتُ إلى المنيا.
وقد عضدنى مثلث الرحمات البابا شنودة بكل السبل، ولم تمضِ خمسة شهور حتى اتصل بى ذات ليلة وأبلغنى أنه قرر سيامتى أسقفًا عامًا، وأسرع نيافة الأنبا أرسانيوس ليؤكد عليه تمسكه بى لمواصلة الخدمة معه بعد الأسقفية، وقد أحاط بى الشعب فى المنيا بحب وحفاوة لن أنساها طوال حياتي، واحتفوا بى بشكل يفوق الوصف، وسأظل مديونًا لهم حتى آخر حياتى لتمسكهم بى بمشاعر غالية يصعب عليّ الآن وصفها.
وفى عشية السيامة أشار إليّ وهو على كرسيه ولما ذهبت إليه سألنى عن الاسم الذى أرغب فيه، واقترحت عدة أسماء مثل: مينا (كرغبة المتنيح الأنبا أرسانيوس) أو كيرلس (وكانت رغبتي) أو مكاريوس، فاختار الأخير نظرا لتكرار الإسمين الآخرين، وعلمت أنه كان قد فكر فى ذلك بالفعل وهو يغادر المقر البابوى إلى الكاتدرائية.
كان البابا يتابعنى بشكل مستمر، ولم يبخل عليّ بالكثير جدًا من الخبرات الشخصية خلال زياراتى المتكررة له سواء بالقاهرة أو الإسكندرية أو الدير، وخلال الفترة ما بين السيامة الأسقفية واستلام خدمتى بالمنيا كأسقف، مساعد سمح لى بأن أصحبه فى سفرياته خارج القاهرة، كما صحبته فى رحلة واحدة خارج مصر، وذلك فى فترة مرضه الأخيرة.
ومن المواقف التى أتذكرها جيدًا أننى عندما زرته بمقره بنيويورك حيث كان قد خضع لعملية جراحية فى عينيه، وبعد أن جلسنا معه لمدة طويلة ومعنا بعض الآباء الكهنة، خرج ليودعنا حتى الشارع وحتى السيارة -رغم انه فى فترة النقاهة- وظل واقفًا إلى جوار السيارة حتى تحركنا، ولما استعفينا من ذلك وأنكرنا على أنفسنا هذا التعب وهذا التنازل منه، أجاب بأبوة نادرة واتضاع حقيقى قائلًا: "لقد سافرت بالطائرة خمس ساعات لتزورنى فهل أبخل عليك بهذه الخطوات القليلة؟"، وكان معى فى تلك الزيارة القمص مويسيس بغدادى الكاهن بالمقر البابوى بنيوجيرسي.
وأذكر له كذلك أننى سألته ذات يوم عن سر الحياء الذى يتحلى به، فيجيب - بعد أن استعفى قليلًا باتضاع لينفى عنه تلك الصفة- أن للتربية الأسرية دورًا هامًا فى إكساب الشخص صفة الحياء والتهذُّب، وروى وقتها كيف كان الأطفال يتعجبون منه فى القاهرة عندما يرونه وهو يقبل يد جده! ويقول مرة أخرى وكان وقتها معى كل من نيافة الأنبا إرميا ونيافة الأنبا أبوللو، وعندما أخذنا نمدحه: "هذا ما ترونه من الظاهر ولكنكم لو عرفتك خطاياى لغيّرتم رأيكم"، وهو قول مشهور عن الآباء النساك يرددونه كلما امتدحهم آخرون (وهو يعكس اتضاع الشخص).
وأذكر له حنوه الشديد علينا حين كان يجمعنا حوله لنتناول الطعام معه، فينظر إلينا نظرة الأم الحنون قائلًا بابتسامته المعهودة: "كُلوا وقِروا عينًا"... وهو تعبير تردده الأمهات لأطفالهن عندما يبدأون فى تناول طعامهم..
وأذكر أننى خدمت معه بالقاهرة وأنا أسقف عام خلال سنة ٢٠٠٨م، حيث كلفنى برعاية مجموعة من كنائس منطقة القبة، وكتب لى وقتها "إن كل الإمكانيات فى القاهرة تحت تصرفك وأنه مسموح لك دخول جميع الكنائس بالقاهرة والإسكندرية كموفد مني".
إننى أذكره بكل الخير، وإن عشت ما عشت أو نسيت ما نسيت فلن أنسى كل ما فعله لأجلي، والمحبة التى قدمها لي، والأبوة التى شملنى بها، ليس وحدى وإنما جميعنا، وسيظل يمثّل لى الراعى الأمين والمحامى عن الإيمان والغيور على بيعة الله. أصلى أن يحفظ لنا الرب أبانا الطوباوى البابا تواضروس الثانى ليكمل المسيرة فى كنيسة الله المقدسة آمين.