قيل فيه: "قائد محترم، صاحب رؤيا، وكان يدعو إلى التسامح والحوار بين الأديان"، "يمتلك قلبًا متسعًا يحتمل الجميع، احتمل به أحباؤه وأعداؤه"، "قامة مصرية وطنية عظيمة حملت هموم المصريين والعرب جميعًا، وعاش بإيمانه العميق مدافعًا عن الوحدة الوطنية وعن القضايا العربية، وعن روح التسامح والمحبة والحوار بين أتباع الديانات السماوية"؛ إنه "البابا شنودة الثالث" الذي سطر بحياته الذاخرة صفحات من تاريخ مصر، إنه القلب الذي أحب مصر، هو من احتوى كل إنسان بكلماته الذهب حتى اختير أحسن واعظ في العالم من مؤسسة BROWNING الأمريكية سنة ١٩٧٨م، ثم مُنح "جائزة التسامح والسلام" من منظمة UNESCO سنة ٢٠٠٠م، إلى جانب منحه درجة الدكتوراة الفخرية من عشر جامعات من جامعات العالم.
حياة حافلة
وُلد الطفل "نظير جيد روفائيل جاد" في الثالث من أغسطس ١٩٢٣م، بقرية "سلام" بمحافظة أسيوط. درس سنواته التعليمية الأولى بالمرحلتين التحضيرية والابتدائية في دمنهور والإسكندرية وأسيوط وبنها، حيث كان في رعاية شقيقه الأكبر روفائيل الذي كان يتنقل من مدينة إلى أخرى بحسب متطلبات عمله. أمضى "نظير جيد" المرحلة الثانوية بالقاهرة حيث التحق بمدرسة الإيمان الثانوية بجزيرة بدران بشبرا، وأتم دراسة الثانوية بالقسم الأدبي بمدرسة راغب مرجان بالفجالة. سنة ١٩٤٧م حصل على ليسانس الآداب قسم التاريخ في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا)، وفي السنة نفسها تخرج في كلية الضباط الاحتياط وكان أول خريجيها. التحق "نظير جيد" بالكلية الإكليريكية سنة ١٩٤٦م، وتخرج فيها سنة ١٩٤٩م، وكان أول دفعته، وفي السنة التالية بدأ التدريس بها. عمل بمجال التدريس زمنًا إلى أن تفرغ للخدمة والتدريس بالإكليريكية.
خدم "نظير جيد" بكنيسة "أنبا أنطونيوس" بشبرا مصر في ١٩٤٦م، وفي تلك الآونة بدأ في نشر عدد من المقالات بمجلة "الحقّ" من أكتوبر ١٩٤٧م إلى نوڤمبر ١٩٤٨م، إلى جانب نشر عدد من القصائد الروحية والمقالات بمجلة مدارس الأحد، ثم تولى رئاسة تحرير المجلة من أكتوبر ١٩٤٩م حتى تركه العالم ورهبنته في يوليو ١٩٥٤م.
تميز "نظير جيد" بولعه الشديد بالقراءة في فروع العلم والآداب كافة، لكن أحبها إلى قلبه كان الشعر حتى إنه أتم القراءة للشعراء في العصور المختلفة!! ثم بدأ في قرض الشعر في سن مبكرة جدًّا - ١٤ سنة، وأخذ يصقل موهبته بدراسة أوزان الشعر وتفاعيله وبحوره سنة ١٩٣٩م. وسرعان ما أفاضت قريحته بإنتاج عدد كبير من القصائد الروحية، إلى جانب مئات من أبيات الشعر.
ومن أشهر قصائده "غريب" (١٩٤٦م)، التي قدمت صورة عن مشاعر روحية جياشة في قلبه تدعوه إلى ترك العالم والاختلاء برب الكون، فقال فيها:
تَرَكْتُ مَفَاتِنَ الدُّنْيَا
وَلَمْ أَحْفَلْ بِنَادِيهَا
وَرُحْتُ أَجُرُّ تَرْحَالِي
بَعِيدًا عَنْ مَلَاهِيهَا
خَلِيَّ الْقَلْبِ لَا أَهْفُو
لِشِيءٍ مِنْ أَمَانِيهَا
نَزِيهَ السَّمْعِ لَا أُصْغِي
إِلَى ضَوْضَاءِ أَهْلِيهَا
أَطُوفُ هَٰهُنَا وَحْدِي
سَعِيدًا فِي بَوَادِيهَا
بِقِيثَارِي وِمِزْمَارِي
وَأَلْحَانِ أَغَانِيهَا
وَسَاعِاتٍ مُقَدَّسَةٍ
خَلَوْتُ بِخَالِقِي فِيهَا
أَسِيرُ كَأَنَّنِي شَبَحٌ
يَمُوجُ لِمُقْلَةِ الرَّائِي
غَرِيبًا عِشْتُ فِي الدُّنْيَا
نَزِيلًا مِثْلَ آبَائِي
تَرَهب "نظير جيد" بدير السيدة العذراء بوادي النطرون "السريان"، باسم الراهب "أنطونيوس السريانيّ" في ١٨/٧/١٩٥٤م. وفي حياته الرهبانية الأولى اهتم بمكتبة الدير واعتنى بها، وعمل على فهرسة كتبها وتقسيمها وتبويبها، ولم يفارقه شغفه بالقراءة فأخذ يدرُس عديدًا من كتب المكتبة ومخطوطاتها، وأعد بعضها للطبع والنشر. رغِب الراهب "أنطونيوس السرياني" في الاختلاء بالله؛ فبدأ حياة الوَحدة في فبراير ١٩٥٦م، وأقام بمغارة تبعد عن الدير قرابة ٥‚٣ كيلومترات. وفي سنة ١٩٦٠م انتقل إلى مغارة أخرى تطل على منطقة "البحر الفارغ" وتبعد عن الدير ١٢ كيلومترًا تقريبًا.
رُسم"أنطونيوس السرياني" قَسًّا يوم الأحد ٣١/٨/١٩٥٨م، وفي يونيو ١٩٥٩م، اختاره القديس "البابا كيرلس السادس" سكرتيرًا له، لكن لم تمضِ سوى ثلاثة أشهر وغلبه شوقه إلى حياة الوَحدة فعاد إلى الدير. وفي ٣٠/٩/١٩٦٢م، رُسم أسقفًا عامًا للتعليم والكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية باسم "أنبا شنودة"، ليصبح أول أسقف لهذه المسئولية. ومنذ ذلك الوقت بدأ في تأسيس اجتماعات روحية للوعظ والتعليم. وكانت محاضراته يومين أسبوعيًّا، ثم صارت يومًا واحدًا هو يوم الأربعاء الذي أمسى الاجتماع فيه من أشهر الاجتماعات الدينية بمنطقة الشرق الأوسط. سافر إلى عديد من الإيبارشيات بدعوة من مطارنتها وأساقفتها لإلقاء محاضرات وعظات بها، فألقى محاضرات في عدد كبير من محافظات مصر ومدنها. سنة ١٩٦٣م، أوفدته الكنيسة لحضور العيد الألفي لتأسيس أديرة جبل أثوس باليونان. وسنة ١٩٦٩م اختير أول رئيس لرابطة المعاهد اللاهوتية بالشرق الأوسط.
اختارته العناية الإلٰهية للبطريركية بعد نياحة القديس "البابا كيرلس السادس"، إذ أجريت الانتخابات والقرعة الهيكلية للبابا الجديد في ٣١/١٠/١٩٧١م، وجلس على كرسي مار مرقس الرسول في الرابع عشر من نوڤمبر ليصبح البابا ١١٧ في بطاركة الإسكندرية. كان حقًّا أبًا للجميع وأحب كل إنسان، ففاض قلبه عن تلك المحبة قائلًا: "إن طريقنا في الخدمة يا إخوتي هو الحب، نحب الكل بلا استثناء، بلا تفريق، فالله محبة. نحن نحب الجميع، وننشد الحب في كل زمان، وفي كل مكان، وفي كل قلب. نحن نحب الذي يحبنا، والذي يكرهنا أيضًا. وثقوا أن المحبة لا بد أن تنتصر. فـ«المحبة لا تسقط أبدًا»، كما تميز "البابا شنودة الثالث" بمحبته للجميع، تميز بفضيلة العطاء، عطاء لكل إنسان يلتقيه، كبيرًا أو صغيرًا، غنيًا أو فقيرًا، فحين كان يأتي أي إنسان لأخذ بركة البابا ويسلم عليه لا يمكن أن يغادر ويده فارغة! كان دائم العطاء وبسخاء. وعلى الرغم من مشاغله الكثيرة، فإنه كان حريصًا على رئاسته للجنة البر التي تخدم الفقراء والمحتاجين، فيقدم في كرم وسخاء إلى الأسرة كل ما تحتاجه وتطلبه، بل أكثر مما تطلبه. وفي أثناء مرضه الشديد، كان يرفض تأجيل لقاءات لجنة البر قائلًا: "يعنى إيه أأجلها؟ الفقراء دول في زنقة؛ يبقى أأجلها إزاي؟! عشان أرتاح؟!" وكان كثيرًا ما يردد: "أمامنا طريقان: إما أن نتعب ويستريح الناس، وإما أن نستريح نحن ويتعب الناس". وقد اختار أن يتعب من أجل راحة الناس، وهكذا كانت حياة "البابا شنودة الثالث" حياة "حب" و"عطاء".