فى ندوة مفتوحة أُقيمت تحت عنوان «مصر القديمة.. نموذج للحوار»، استضاف صالون «البوابة نيوز»، الدكتور ممدوح الدماطى، أستاذ الآثار بجامعة عين شمس، ووزير الآثار الأسبق، فى الفترة من يونيو 2014 حتى مارس 2016.
وتحدث الدماطى عن أحدث الكشوف الأثرية للبعثة التى يرأسها من جامعة عين شمس، والتى عثرت مؤخرا على تمثال على هيئة أبوالهول من الحجر الجيرى يمثل أحد الأباطرة الرومان، ثم تشعب الحديث بعدها إلى عمليات الحفر، والمتاحف المصرية، وبالطبع ملف الآثار المستردة. وتقلد الدماطى العديد من الوظائف غير الأكاديمية، منها مدير عام المتحف المصرى بالقاهرة، ومشرف لجنة المعارض الخارجية بالمجلس الأعلى للآثار من 2001 حتى 2004، كما عمل كمستشار ثقافى ومدير مكتب البعثة التعليمية بسفارة جمهورية مصر العربية ببرلين، والمشرف على البعثة التعليمية فى هولندا وبولندا وفنلندا والسويد والنرويج من 2011 حتى 2014.
ويقام صالون «البوابة نيوز» تحت رعاية الكاتب الصحفى الكبير عبدالرحيم على، رئيس مجلسى إدارة وتحرير المؤسسة، وإشراف الكاتبة الصحفية داليا عبدالرحيم رئيس التحرير، ويحضره لفيف من الزملاء الصحفيين، وتبث الندوات والأمسيات عبر خاصية البث المباشر على صفحات المؤسسة الرسمية على موقع فيس بوك.
خلال حديثه، أشار الدماطى إلى أهمية الاهتمام بتدريب الأثريين وتطوير قدراتهم، وجعلهم مواكبين للأساليب والتقنيات الحديثة، التى تجعل عمليات التنقيب والحفر أكثر سهولة ودقة، يقول: «فى بداية حياتى العملية تعبت كثيرا فى العمل بالحفائر، ونظرت إلى أهمية تأهيل الأثرى الذى يجيد عملية التنقيب، ومن هنا طورنا قسم الآثار بكلية الآداب جامعة عين شمس، ليتحول بالفعل إلى كلية الآثار بالجامعة».
وأضاف، أنه عندما توليت مسئولية وزارة الآثار، أوليت اهتماما كبيرا لمسألة البرامج البينية بين الخبراء المعنيين بالعمل فى الحقل الأثرى، ومن هنا أصبح لزاما علينا إنشاء قسم بينى بالتعاون بين كلية الآثار وقسم العمارة بكلية الهندسة.
متحف التحرير يستعيد رونقه
عند التطرق فى الحديث عن المتحف المصرى الموجود بالتحرير، والذى تولى الدماطى رئاسته فى بداية الحقبة الأولى من الألفية الثالثة، أكد وزير الآثار الأسبق، أن اتجاه الدولة المصرية ليس غلق أو إهمال متحف التحرير كما يشيع البعض، بل إنه سوف يستمر فى عمله ضمن خطة متكاملة لعرض جوانب الحضارة المصرية القديمة، وليس معنى افتتاح المتحف الكبير بالقرب من الأهرامات، أو نقل المومياوات الملكية إلى متحف الحضارة المصرية بالفسطاط، أن ينتهى دور متحف التحرير التاريخى.
ولفت إلى أن المتحف كان أول مبنى يتم إنشاؤه بغرض أن يكون متحفا، على عكس المتاحف الأوروبية، التى كان أغلبها قصورا ملكية أو للنبلاء، وتم تحويلها إلى متاحف.
وأضاف الدماطى، أنه يجب الإشارة كذلك إلى أن أول من تولوا مسئولية المتحف والآثار المصرية، سواء ميريت باشا، ماسبيرو، الذين كان توليهم هذا الأمر خطأ كبيرا، لأن الأجانب كانوا ينظرون للمصريين على أنهم لا يعرفون شيئا عن الحضارة، ولا يجب أن يعملوا فى هيئة الآثار؛ بل كانوا يرفضون فى البداية إلحاق أى مصرى للعمل بمصلحة الآثار، وظل الوضع هكذا لعقود طويلة، إلى أن تمكن أول مصرى من الالتحاق بالعمل بالمصلحة مترجما ثم تمت ترقيته.
وأشار الدماطى، إلى أن متحف التحرير فى موقعه الحالى أقيمت له مسابقة عالمية لتصميمه، وكان أول مبنى يتم تشييده بالخرسانة فى مصر، وحينما افتتح المتحف المصرى القديم، بدأ بحوالى ٣٢ ألف قطعة أثرية، ثم توافدت عليه آثار صان الحجر وكنوز توت عنخ آمون وغيرها.
ولفت إلى أن حجم المتحف فى بدايته كان أربعة أضعاف المساحة الموجودة حاليا، وكانت حدوده تمتد إلى ضفاف النيل القريب. لكن عبر القرن العشرين تم استقطاع العديد من المساحات الخاصة بالمتحف لصالح مشروعات مختلفة، مثل عملية إنشاء جزء من كوبرى أكتوبر، وقطعة الأرض المطلة على النيل التى بني عليها مبنى مجلس قيادة الثورة، الذى صار فيما بعد مبنى المجالس القومية المتخصصة ومبنى الحزب الوطنى القديم الذى تم إغلاقه عام ٢٠١١، أيضا، وقبل كل هذا، تم اقتطاع جزء من مساحة المتحف ليصير شارع رمسيس ذى اتجاهين.
وأشار وزير الآثار الأسبق إلى أن تكدس القطع الأثرية بالمتحف المصرى بالتحرير هو ما أوحى للمسئولين بفكرة إنشاء المتاحف الإقليمية بعيدا عن القاهرة، يقول: «كانت هناك رغبة فى التوسع لإنشاء متاحف مصرية أخرى تستوعب الآثار والاكتشافات الأثرية الجديدة التى تظهر يوما بعد الآخر، فتم إنشاء متحف النوبة فى أسوان، ومتحف الحضارة المصرية، وكانا تابعين لصندوق إنقاذ آثار النوبة».
ولفت إلى الجهد الكبير الذى بذله وزير الثقافة الأسبق، الفنان فاروق حسنى، صاحب فكرتى المتحف القومى للحضارة المصرية بالفسطاط، ومشروع المتحف المصرى الكبير.
الآثار المسروقة والمستردة
عند التطرق إلى الجهود المصرية لاستعادة الآثار المسروقة أو المنهوبة على مدار العقود الماضية، أكد الدماطى أن هناك نوعا كبيرا من الخلط يحدث لغير المتخصصين عند تناول هذا الموضوع؛ وهو أنه يجب التفرقة بين الآثار المسروقة أو المهربة، وبين قطع أثرية موجودة فى دول أخرى بالفعل، لكنها تملك حق الاحتفاظ بها.
أوضح أستاذ الآثار بجامعة عين شمس، أن الآثار المصرية كانت تخرج من البلاد بشكل رسمى وقانونى قبل العام ١٩٨٣، حيث كانت الدولة المصرية تسمح ببيع الآثار، وعلى مدار عقود، كان من الطبيعى أن تجد محلات لبيع الآثار المصرية فى القاهرة والجيزة، وهناك صورة شهيرة لرجل عجوز يجلس بجوار مومياء مصرية وقطع أخرى يعرضها للبيع.
وقال إنه لهذا نجد أن هناك قطع نفيسة خرجت من الحدود المصرية بشكل شرعى قبل إقرار قوانين حماية الآثار مثل سقف معبد دندرة، والذى خرج أمام السلطات ولا يمكن استرجاعه مرة أخرى، لكن اتفاقية اليونسكو الخاصة بحماية الآثار صارت ملزمة لجميع دول العالم بأن أى أثر خرج بعد عام ١٩٧٠ يمكن لنا استرداده إذا ما تم إثبات سرقته أو خروجه من البلاد بطريقة غير شرعية.
وحكى وزير الآثار الأسبق، كيف كان يتحدث مع نظرائه والمسئولين الأجانب حول مفهوم «غسيل الآثار»، وهو محاولة إعطاء صبغة شرعية للآثار المسروقة بنفس طرق عصابات غسيل الأموال.
يقول: «من أجل تزييف شرعية القطعة الأثرية والسماح ببيعها بشكل علنى فى المزادات، أو عرضها فى أحد المتاحف العالمية، يتم نقل الأثر لتشتيت القدرة على تعقبه فى عدة محطات تكون فى بلدان مختلفة وبعض هذه البلدان للأسف دول صديقة لمصر حيث يزور أناسا محترفين فى تاريخ تحركات القطعة الأثرية، وإنها أوراق تفيد بخروجها من مصر قبل عام ١٩٧٠، حتى لا يمكن للحكومة المصرية المطالبة باستردادها».
وأكد الدماطى، أن هناك أنواعا مختلفة من الآثار المصرية فى الخارج، منهم نوعان شرعيان بالكامل، منها التى خرجت عن طريق نظام «القسمة» بين المكتشف والحكومة المصرية، ففى عام ١٨٧٤ صدرت لائحة سمحت بنظام قسمة الآثار التى يتم اكتشافها، إلى قسمين متساويين، أى ٥٠٪ للبعثة المكتشفة و٥٠٪ للدولة المصرية.
وأوضح، أنه فى عام ١٨٨٠ صدر مرسوم جديد بحظر تصدير الآثار نظرا لتزايد أعداد الأجانب الذين يغادرون مصر محملين بقطع أثرية، لكن بعد خروج العديد من القطع عن طريق الغش خلال القسمة.
وأشار وزير الآثار السابق، إلى أن هناك آثارا موجودة فى دول صديقة خرجت بقرارات تملك قوة القانون، وهى التى يتم إهداؤها من رأس الدولة، منها ما أهداها محمد على باشا -مؤسس الدولة الحديثة- لدول صديقة، كمسلة الكونكورد الشهيرة التى تزين العاصمة الفرنسية باريس، لافتا إلى أن أكبر نسبة إهداءات لآثار مصرية من قيادة الدولة تمت فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حيث وصلت الإهداءات إلى إهداء معابد كاملة لدول أجنبية شاركت فى الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة من الغرق بسبب تخزين المياه فى بحيرة ناصر خلال إنشاء السد العالى؛ منها معبد «دندور» الذى تم إهداؤه إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٦٣، ومعبد «طافا» الذى تم إهداؤه لهولندا، ومعبد «الليسيه» الذى تم إهداره إلى إيطاليا، ومعبد «دابود» الذى تم إهداؤه إلى إسبانيا، وجزء من معبد «كلابشا» قد تم إهداؤه لألمانيا.
وأكد الدماطى، أن الآثار التى خرجت من مصر بشكل شرعى أصبحت مملوكة للدولة التى اشترتها، وكذلك الآثار التى تم إهداؤها بقرارات رسمية، بالإضافة إلى لآثار التى كانت تخرج عن طريقة النسبة التى تحصل عليها بعثات الآثار التى كانت تعمل فى مصر قبل قانون ١٩٨٣.
وأشار إلى أهمية الحملات المجتمعية لاستعادة الآثار المصرية مثل حجر رشيد من بريطانيا ورأس الملكة نفرتيتى من ألمانيا، مؤكدا أنه كان واحدا من الموقعين على عريضة المطالبة بعودة حجر رشيد بصفته مصريا وأستاذا للآثار المصرية.
حكاية رأس نفرتيتى
وتطرق فى الحديث إلى حكاية خروج رأس نفرتيتى الشهيرة إلى متحف برلين، بعد أن اكتشفها الأثرى الألمانى لودفيج بورشاردت فى تل العمارنة بصعيد مصر عام ١٩١٢، وحكى الدماطى أنه عند عرض رأس نفرتيتى فى برلين للمرة الأولى عام ١٩٢٣، ذكر أحد رفاق مكتشفها أنه رغب منذ البداية فى أن يكون التمثال فى برلين.
ويحكى الدماطى أيضا حكاية الغش التى خرج بها تمثال الرأس، يقول: «تعمد بورشاردت أن يهمش التمثال النفيس فى الأوراق الرسمية، وأن يصف رأس الملكة المنحوت ببراعة شديدة باعتباره مجرد رأس ملكية؛ وكان ذلك على عكس وصفه لها فى أوراقه الخاصة بأنها تحفة فنية بديعة من النحت، ثم ألحق بالأوراق الرسمية للقطعة المكتشفة صورة باهتة مليئة بالأتربة، حتى لا تجذب الرأس انتباه أحد، خاصة مدير مصلحة الآثار المصرية -وكان فرنسيا آنذاك- والذى تم خداعه خلال جلسة القسمة بين المكتشف والحكومة». يواصل الدماطى: «على عكس العادة الشائعة بأن يتم وصف جميع الآثار المكتشفة أمام مندوب الحكومة المصرية، والذى له الحق فى انتقاء أية قطعة واستبقائها داخل البلاد كجزء من نصيب الدولة، قام بورشاردت بتقسيم ما عثر عليه فى مجموعتين، إحداها تضم قطعا شديدة البريق تم الاعتناء بها رغم أنها أقل قيمة، ومجموعة أخرى تبدو باهتة ولا أهمية لها، لكنها تضم عددا من الكنوز من بينها رأس نفرتيتى، وهنا، اعتمد المكتشف الألمانى فى تحايله على أن غريمه الفرنسى الذى يمثل الدولة المصرية يهتم بالمظاهر البراقة».
وتابع: «بالفعل، عند جلسة القسمة أعلن بورشاردت أن رئيس مصلحة الآثار يجب أن يختار إحدى هاتين المجموعتين المتساويتين. وكما توقع، الألمانى، اكتفى ممثل الحكومة بالمجموعة ذات البريق، وترك الأخرى ترحل إلى ألمانيا ومعها رأس نفرتيتى».
وقال الدماطى، إنه عند اكتشاف خدعة رأس نفرتيتى عند عرضها الأول فى متحف برلين ثارت الحكومة المصرية وطالبت بعودتها، وأوقفت عمليات البحث وحفائر البعثات الألمانية فى ١٩٢٣، والمرة الثانية التى تمت المطالبة بها بعد عشر سنوات، تسببت مظاهرات للجمهور الألمانى من أجل الاحتفاظ بالرأس فى برلين فى عدم خروجها.
وأشار إلى أن الأمر تكرر قبيل الحرب العالمية الثانية، وبعد الحرب، اعتزمت الولايات المتحدة إقامة معرض لبعض القطع من ضمنها منحوتة الرأس المحفوظة فى برلين، وكان من المقرر أن تعود بعدها لتستقر فى القاهرة، لكن الجانب الألمانى أبرز الأوراق التى تؤكد ملكيته للتمثال، ما دعى الأمريكيين للاستغناء عن عرضه حتى لا يتسبب فى مشكلات مع مصر أو ألمانيا.
وأوضح وزير الآثار الأسبق، أن هناك مطالبات بعودة رأس نفرتيتى مستمرة منذ عام ٢٠٠٤ وحتى الآن، لكن الجانب الألمانى حاليا طالب بتحكيم دولى، وهو وواثق فى أوراقه وعدم قدرة مصر على إثبات شبهة التدليس التى حدثت وقت القسمة.
وأضاف أن هناك أيضا مطالبات بعودة قطع نادرة مثل حجر رشيد ورأس نفرتيتى فى معرض مؤقت لاستقبال ضيوف افتتاح المتحف الكبير، لكن الجانب الآخر يخشى من ضغوط شعبية تمنع خروجها من مصر.