الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

إبراهيم نوار يكتب: سطوة مقلقة.. أمريكا تعيد العالم إلى عصر الحروب التجارية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الولايات المتحدة تفعل كل ما يخالف النظام الليبرالى العالمى المتعدد الأطراف باسم الليبرالية! 

العقوبات تتناقض مع حرية التجارة.. والإعانات الحكومية تقتل المنافسة.. ولا عدالة مع تقديم أموال دافعى الضرائب لأصحاب الشركات

إنهاء انقسام الاقتصاد العالمي، وإطلاق حرية التجارة، ونشأة سلاسل الإمدادات العالمية، وقيام نظام للتخصص وتقسيم العمل على أساس الكفاءة والقدرة المنافسة، هى أهم ثمار نهاية الحرب الباردة، حيث نشأ عالم جديد يتسع للجميع، بدون قيود ولا حدود. وبدأ العالم فعلًا يستعد لجنى ثمار السلام، والتركيز على التنمية. واقترب شعار "وداعا لسباق التسلح" من أن يصبح حقيقة، مع توقيع معاهدات الحد من التسلح بين القوتين الأعظم. 
لكن هذا العالم الجديد المفتوح للجميع لم يستمر طويلا، لسبب واحد فقط، هو أن الولايات المتحدة استمرت ترى العالم من نافذة الحرب الباردة، وتسعى لإعادة تقسيمه، لمنع قوى جديدة استفادت من حقائق ما بعد الحرب الباردة؛ فبدأت تنفض عن نفسها تراب تلك الحرب، تتطهر من دنسها، وتصعد. فى البداية جاء حلم توحيد قارة أوروبا بعد سقوط حائط برلين، على أمل أن يصبح الاتحاد الأوروبى قوة عالمية جديدة، بعد أن كانت الحروب قد قسمت القارة ومزقتها. وبعدها جاء صعود التنين الصينى. لكن ثمار السلام، ما لبثت أن سقطت وهى فى طريقها للنضوج، وعادت رياح الحرب الباردة تهب على العالم، بينما كان محور القوة ينتقل من الغرب إلى الشرق. ولما رأت القيادة الأمريكية أن حرية التجارة لا تعمل فى مصلحتها، أقامت نظاما يعرقلها من خلال العقوبات من طرف واحد. ولما رأت أن شركاتها غير قادرة على المنافسة قررت تقديم الدعم لها من أموال دافعى الضرائب، وهو ما يتناقض تناقضا صارخا مع مبادئ الدولة الليبرالية التى تؤمن بحرية السوق، وتعرف يقينا أن الليبرالية السياسية تبدأ بحرية السوق، واحترام مبدأ "دعه يعمل.. دعه يمر"! الحرب الباردة الجديدة التى تقودها الولايات المتحدة هى حرب ضد العالم كله، وليست مجرد حرب ضد الصين وروسيا. العقوبات ضد روسيا تسببت فى إشعال أزمات الأمن الغذائى والطاقة والتمويل فى العالم. والعقوبات ضد الصين سوف تتسبب فى أزمة ركود تضخمى عالمى حادة، لأنها تستهدف "مصنع العالم" وأهم حلقات سلاسل الإمدادات العالمية. أمريكا، بدلا من أن تحاول هى أن تجتهد وتتفوق عليها من خلال المنافسة فى سوق مفتوحة، تريد منع الصين من التقدم. 
 


أمريكا تقوى بالتعاون 
السلوك السياسى للولايات المتحدة فى الوقت الحاضر، مثله كمثل سلوك "الفتوة" الذى يتنقل من مكان إلى آخر، يسعى ليفرض الأتاوات كيفما يشاء، ويهدد العاصي، أو يسلط أذنابه على الممتنع، ويستعرض قوته وأسلحته أمام الجميع، لخلق اليقين بأنه لا مكان لهم إلا تحت ظله، ولا حياة لهم إلا فى طاعة قوته. وقد تصاعدت فى الأسابيع الاخيرة لهجة سياسة التهديد والوعيد ضد الصين، وسط إجراءات محمومة لإطالة أمد حرب أوكرانيا، لغرض استنزاف روسيا وإسقاطها للمرة الثانية فى الثلاثين سنة الأخيرة. فى المرة الأولى سقطت روسيا من مكانة الدولة الامبراطورية، وفى المرة الثانية يجرى السعى لإسقاطها من مكانة الدولة الأوروبية القومية الكبيرة. ومع بداية العام الثانى للحرب الأوكرانية، تُظهر الولايات المتحدة إصرارا غريبا على توسيع نطاق المواجهة فى العالم، من شن الحرب على روسيا إلى شن الحرب على الصين. ويبدو أنها وهى تفعل ذلك، تتجاهل حقيقة أن الصين ليست روسيا، كما تتجاهل نصائح مفكرين من الطراز العظيم، منهم هنرى كيسنجر، وزبيجينيو بريزنسكي، قالوا إن مستقبل القوة الأمريكية يعتمد على التعاون الوثيق بينها وبين كل من الدولتين. كيسنجر وبريزنسكى يتفقان على أن الولايات المتحدة يجب أن تتكيف مع سعى روسيا لاستعادة ماضيها الإمبراطوري، لكن مع إعادة صياغة دورها فى نظام دولى جديد. كما إنها يجب أن تتكيف مع صعود الصين سياسيا واقتصاديا وعسكريا. بدون ذلك، كما استنتج كيسنجر فى كتابه "النظام العالمي" (٢٠١٤)، وبريزنسكى فى مقاله الشهير مجلة American Interest عام ٢٠١٦ عن التحول فى النظام العالمي، لن ينعم العالم بالاستقرار، وهو ما يمكن أن يصيب القوة الأمريكية نفسها، ويعمل فى مصلحة القوتين المنافستين، خصوصا الصين. 
 


الآن تتحرك الدبلوماسية الأمريكية السياسية والاقتصادية والعسكرية فى اتجاه إقامة تحالف عالمى ضد الصين، تتكون نواته من حلف شمال الأطلسي، وتحالف "أوكوس" الذى يضم معها كلا من بريطانيا وأستراليا، ومجموعة "كواد" التى تضم معها الهند وأستراليا واليابان (حوار أمنى رباعي)، إضافة إلى تايوان التى تريدها الولايات المتحدة أن تلعب دور أوكرانيا على المسرح العسكرى الإقليمى فى منطقة جنوب شرق آسيا، من أجل استفزاز الصين إلى درجة الصدام العسكرى. كما يضم التحالف بشكل غير مباشر الفلبين، التى عقدت معها الولايات المتحدة أخيرا صفقة عسكرية، خلال زيارة قام بها وزير الدفاع لويد أوستن، تسمح لها باستخدام أربعة قواعد عسكرية، وتسيير دوريات بحرية مشتركة فى بحر الصين الجنوبي، تضم قوات من الأسطول السابع الأمريكى مع قطع بحرية فلبينية، وهو ما حذرت منه بكين بشدة. وقد حاولت أمريكا مد هذا التحالف إلى مجموعة العشرين للدول الغنية، لكنها فشلت مرتين حتى الآن، الأولى فى مؤتمر وزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية للمجموعة، والثانية فى مؤتمر وزراء الخارجية. فى المرتين فشلت واشنطن فى استصدار بيان يتضمن اتهامات لكل من روسيا والصين ويدينهما. 
توافق بين الديمقراطيين والجمهوريين
ولا شك فى أن السياسة الأمريكية الحالية ضد كل من روسيا والصين ليست وليدة تطورات أخيرة مفاجئة، فقد اعتبرت استراتيجية الأمن القومى للولايات المتحدة، التى أصدرها الرئيس السابق دونالد طرامب عام ٢٠١٧، والاستراتيجية التى أصدرها الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن عام ٢٠٢١، أن كلا من روسيا والصين تتصدران معسكر خصوم أمريكا الذى يضم إيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وغيرها من الدول المارقة. كما اتفقت القيادتين على إنه وإن كان التهديد المباشر يأتى من ناحية روسيا، فإن التهديد الأخطر وعلى المدى الأطول يأتى من الصين. ورغم الاتفاق على الإطار النظرى لاستراتيجية الأمن القومى بين الجمهوريين والديمقراطيين، إلا أن هناك فروقا بينهما فى الدبلوماسية والخطط السياسية التكتيكية التى تتبعها إدارة بايدن حاليا مقارنة بدبلوماسية دونالد طرامب، التى كانت تسعى لاحتواء التهديد الروسي، من خلال إقامة علاقات قوية مع بوتين، وذلك لغرض تركيز المجهود الرئيسى على مواجهة الصين. أما نقطة الالتقاء الرئيسية بين استراتيجية كل من الديمقراطيين والجمهوريين، فتتمثل فى تقليل انكشاف الولايات المتحدة على صراعات الشرق الأوسط والخليج، ومحاولة الدفع فى اتجاه نظام للدفاع الاقليمى بقيادة إسرائيل. ولقد اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على فرض عقوبات اقتصادية ضد الصين وتشديدها عالميا، بما يعزلها، ويسبب لها أضرارا هيكلية تؤدى إلى ذبول قوتها، وانكماش دورها العالمي، من السعى إلى مكانة إمبراطورية، من خلال أدوات مثل مبادرة الحزام والطريق، إلى مجرد دولة قومية فى منطقة جنوب شرق آسيا. المعضلة التى تواجهها الاستراتيجية الأمريكية هى أن ذبول دور ما يمكن تسميته "المصنع الصيني" فى الاقتصاد العالمى يمثل تهديدا جوهريا للولايات المتحدة نفسها، ويعنى ذبول الاقتصاد العالمى نفسه. 
هل ينتقل مركز القوة فى العالم سلميا؟ 
بما أن حلف الأطلنطى يغذى فعليا حربا بالوكالة فى أوكرانيا ضد روسيا، فإننا نشهد بأعيننا نتيجة الاستفزازات التى تمارسها السياسة الأمريكية. وقد تحولت دبلوماسية العقوبات الاقتصادية من مجرد التسبب فى الألم الاقتصادى والاجتماعى إلى إشعال الاستفزاز السياسى والاقتصادى والعسكرى إلى درجة الحرب المسلحة. ويشهد العالم الآن تصعيدا فى الاستفزاز الأمريكى للصين، ومع أن ردود الفعل الصينية ما تزال حتى الآن محسوبة، وأقل من مستوى الاستفزازات ضدها، فإنها يمكن أن تخرج عن حدود الحسابات وضبط النفس، إلى فعل جزئى محدود يكون الغرض منه تلقين الولايات المتحدة درسا مؤلما، بالقرب من الحدود الصينية، بحيث يعلم الطرف الآخر أو من يعملون معه بالوكالة، أن الاستفزاز لا يمر بلا ثمن، وأن الثمن سيكون مؤلما. إن دبلوماسية العقوبات الاقتصادية والاستفزازات السياسة والعسكرية، التى تمثل العمود الفقرى للسياسة الأمريكية الحالية تجاه الصين، تمثل فى حقيقة الأمر خيار الإدارة الأمريكية لحل المعضلة الناتجة عما يمكننا أن نصفه بأنه "عدم التوافق بين الهيمنة الأمريكية، وبين تطور القدرات الفعلية السياسية والاقتصادية والعسكرية للصين". الولايات المتحدة تسعى للإستمرار فى الهيمنة على العالم، تأسيسا على انتصارها فى الحرب العالمية الثانية، وفى الحرب الباردة الأولى. لكن هذه الهيمنة، تصطدم الآن مع حقيقة تغير توزيع القوة فى العالم، وقد يؤدى هذا لا محالة إلى حرب مدمرة، تكون الولايات المتحدة نفسها من ضحاياها. 
الحل الموضوعى لتلك المعضلة يتمثل فى ضرورة التكيف مع التغير فى توزيع القوة على المستوى العالمي، والتعاون مع كل من الصين وروسيا، وليس إخضاعهما للعقوبات، ولا محاولة ضرب كل منهما بالأخرى. ومع أن هنرى كيسنجر قال ذلك مرات ومرات، خصوصا فيما يتعلق بالصين، كما قال به أيضا بريزنسكي، فإن أجهزة صنع الرأى العام، ومؤسسات الفكر الرسمية فى الغرب عموما، تتجاهل مناقشة حقائق الواقع كما هي، وتعمل على تصدير خطاب عدائى أحمق، يخلق حالة من الإبتزاز السياسى ضد أصحاب وجهة النظر المعارضة للحرب، والداعين إلى التعاون والسلام. ومع ذلك فإننا نلاحظ أن بعض الدول الأوروبية، بما فى ذلك ألمانيا وفرنسا، ما تزال تبدى تحفظات على الاندفاع الأمريكى فى الحرب الاقتصادية على الصين.
إن هذا الإصرار على تجاهل التغير فى خريطة توزيع القوة، وإنكار حقيقة أن محور القوة قد انتقل شرقا بالفعل، وهى الحقيقة التى تؤكدها كتابات بيتر دايكن منذ أوائل القرن الحالى على الأقل فى كتابه عن التحول العالمى Global Shift، هذا الإنكار يعنى أن العالم يمضى معصوب العينين إلى مصير محتوم، وهو الحرب. ويعلمنا التاريخ أن العثمانيين قهروا الإمبراطورية البيزنطية بالقوة، لأن الأخيرة لم تعترف بحقيقة تغير العالم، وأن الإمبراطورية العثمانية شربت من الكأس نفسه فى الحرب العالمية الأولى، وإلى ذلك اضطرت بريطانيا فى حرب السويس. وعلى الرغم من أن تغيير النظام العالمى بالقوة ليس حتميا، وهو ما حدث مع انتقال محور القوة من أوروبا عبر الأطلنطى إلى الولايات المتحدة، فإن استمرار التناقض بين نظام قديم تأسس على شرعية انتصار الولايات المتحدة عام ١٩٤٥، وبين حقائق توزيع القوة حاليا بلا حل، قد يدفع العالم إلى حافة الحرب. ولا أظن أن الولايات المتحدة مستعدة لنتائجها.
 لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:
https://www.ledialogue.fr/