الخميس 19 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

عبد الرحيم على يكتب: حسن البنا قراءة من الضفة الأخرى

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عداء أصيل للديمقراطية والتعددية وانتصار واضح للفكر الشمولى

منهج تلفيقى يتلاعب بالألفاظ ويقدم أمثلة لا علاقة له بالعلم والمنطق 

الخلافة الإسلامية هى النظام المنشود الذى يراود البنا على طول الخط فيدعو إلى حل كل الأحزاب وانضواء الجميع تحت راية الإخوان!

النموذج النازى هو المثل الأعلى عند مؤسس الإخوان: «من كان يصدق أن يصل هتلر إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية؟»

خطابه عن الأقليات غير المسلمة فى إطار الدولة المصرية يبث رسائل مقلقة عندما يؤكد: الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة فى ديارهم سادة فى أوطانهم وعليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول فى دعوتهم
 

نتناول فى هذه الدراسة بالنقد والتحليل والتقييم أهم الأطر والاجتهادات الفكرية للإمام حسن البنا باعتبار تأثيره الشديد على مسار جماعة الإخوان الفكرى. ومسيرة من يتحكمون فى مصيرها الآن من رموز الحرس القديم، ولقد آثرنا الاعتماد فى تلك القراءة على مجموعة رسائل الإمام طبعة "دار التوزيع والنشر الإسلامية"، باحثين عن الموقف الذى يتجسد فى كتاباته من ثلاث قضايا جوهرية: «الأحزاب - المرأة- الأقليات»

ولعل فى القراءة التى نقدمها خلال الصفحات التالية ما يساعد فى الكشف الموضوعى عن رؤية زعيم الإخوان ومنهجه فى التعامل مع قضايا بالغة الأهمية، ذلك أن التفاعل معها لم يتوقف بعد مرور ما يزيد على نصف قرن على رحيل الرجل.
 


أولا: الموقف من الأحزاب
موقف جماعة الإخوان المسلمين من مبدأ النظام الحزبي، كما يتجسد فى «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا»، مليء بالمفارقات والتناقضات، ويكشف عن عداء أصيل وعميق للديمقراطية والتعددية، والانتصار الواضح للفكر الشمولى والحكم الاستبدادى الفردى غير الشعبى.
الإخوان المسلمون جماعة دينية تعمل فى السياسة، أو هى جماعة سياسية ترفع شعارات دينية. الانشغال بالسياسة من منظور فكرى محدد، يعنى أن هؤلاء المنشغلين المشتغلين يمثلون حزبًا من الناحية الموضوعية، فكيف لمن يرفضون الحزبية ويعادون الأحزاب أن يتحزبوا؟!. لا شك أن هذه المفارقة قد مثلت همًا عند حسن البنا، وها هو يقدم علاجًا تلفيقيًا بعيدًا عن المنطق والقدرة على الإقناع: إن الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، وقد يكون الرجل سياسيًا بكل ما فى الكلمة من معانٍ وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه، وقد يكون حزبيًا ولا يدرى من أمر السياسة شيئًا، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيًا حزبيًا أو حزبيًا سياسيًا على حد سواء (ص١٥٨).. أليس الأمر أقرب إلى التحايل الشكلى والتلاعب الفج بالألفاظ؟!. بالمنطق نفسه الذى يستخدمه البنا، يحق لنا أن نتساءل: أهو سياسى أم حزبي؟!. إذا كان سياسيًا مبرأ من داء الحزبية الكريه، فبماذا يصف الإخوان من أتباعه؟!. لا بد أنهم سياسيون مثله بالضرورة. حسن البنا زعيم سياسي، والإخوان سياسيون يوافقون زعيمهم فيما يدعو إليه ويبشر به، والمحصلة النهائية المنطقية أن «الزعيم» و«الأتباع» ليسوا إلا حزبًا يقدم رؤية سياسية، فلا يمكن أن يكونوا سياسيين على الإطلاق، بلا هدف يجمعهم ويدفعهم إلى السلطة.
 


يريد البنا أن يستثمر الساحة السياسية ولا يتورط فيها، والمشكلة الحقيقية أنه يتزعم حزبًا ويريد أن يسمو به على الآخرين، فهو الحزب الفريد «الواحد» وقد تحقق فيه الكمال، وامتلك اليقين المطلق والحقيقة التى لا تحتمل الخلاف. لا معنى - فى ظله- لوجود أحزاب أخرى «فارغة»، وهو ما يتجلى بشكل صريح مباشر فى قول حسن البنا: لا خلاف بين الأحزاب المصرية إلا فى مظاهر شكلية وشؤون شخصية لا يهتم لها الإخوان المسلمون؛ ولهذا فهم ينظرون إلى هذه الأحزاب جميعًا نظرة واحدة، ويرفعون دعوتهم – وهى ميراث رسول الله ﷺ – فوق هذا المستوى الحزبى كله (ص٢١٥).. هكذا، دعوة الإخوان «فوق» الجميع، والأحزاب المصرية جميعًا أقرب إلى حزب واحد «باطل» فى مواجهة حزب «الحق» الذى يقوده البنا ولا يحمل اسم الحزب!. واللافت للنظر أن الأستاذ البنا يأخذ على الأحزاب انشغالها بالمظاهر الشكلية والشؤون الشخصية، ولا يكلف نفسه عناء تحديد هذه الشكليات التى يدينها، ولا يكلف نفسه مشقة التمييز بين الأحزاب التى تتفاوت فى وطنيتها وتتباين فى شعبيتها، كما أنه لا ينتبه إلى حقيقة أن الإخوان أنفسهم غارقون فى المظاهر الشكلية، وأن الخلافات الشخصية ظاهرة فى علاقات أعضائها بعضهم البعض!.
الهدف الحقيقى للبنا أن يكون «الكل فى واحد»، والتطور المنطقى يفضى إلى أن يكون الإخوان هم الكل، وأن يكون المرشد الزعيم هو القائد الوحيد والزعيم الذى لا ينازعه أحد فى الزعامة.
يتوجه حسن البنا بنداء إلى الملك فاروق والزعيم مصطفى النحاس، وإلى ملوك وأمراء وحكام بلدان العالم الإسلامي، وعدد عظيم من كبار البارزين فى هذه البلدان، ويطالب فى ندائه بـ: القضاء على الحزبية وتوجيه قوى الأمة السياسية فى جهة واحدة وصف واحد (ص٢٩٠).
 


من الذى يوجه؟ ومن الذى يقود؟.
ومن الذى يضمن ألا ينحرف التوجيه وتختلف القيادة؟!.
الضمان الوحيد يتمثل فى النظام الديمقراطى الذى يسمح بالتعددية، ويتيح تداول السلطة، ويجعل الأمر كله للشعب.. يرفض البنا هذا كله، لكنه لا يجد الشجاعة للإعلان الصريح عن عدائه للديمقراطية والحكم الدستورى، بل إنه – شكليا – يذهب إلى النقيض تماما، فيقول: يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستورى هو أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظامًا آخر.
بقى بعد ذلك أمران: أولهما النصوص التى تصاغ فى قالبها هذه المبادئ، وثانيهما طريقة التطبيق التى تفسر بها عمليًا هذه النصوص (ص١٣٨). 
وهكذا يأخذ البنا بشماله ما يعطيه بيمينه، ويقدم من التحفظات ما يسلب من النظام الديمقراطى جوهره، فهو يتوقف عند نظام الانتخاب وتنافس الأحزاب قائلا: وحسبنا أن نشير هنا إلى قانون الانتخاب، وهو وسيلة اختيار النواب الذين يمثلون الأمة ويقومون بتنفيذ دستورها وحمايته، وما جره هذا القانون على الأمة من خصومات وحزازات، وما أنتجه من أضرار يشهد بها الواقع الملموس. ولا بد أن تكون فينا الشجاعة الكافية لمواجهة الأخطاء والعمل على تعديلها(ص١٣٩).
يريد البنا نظامًا دستوريًا يخلو من المنافسة والتعددية، ذلك أن الخصومات و"الحزازات" لا تروق له، والبديل الخطير الذى يطرحه هو الاحتفاظ بالمسمى الدستورى مع تكريس نظام بديل مضاد، يخلو من الأحزاب والاجتهادات المختلفة!. لا بأس من وجود نظام نيابي، والبأس كل البأس فى وجود الأحزاب. الأحزاب لا يمثلون أنفسهم بطبيعة الحال، ولا شك أنهم يحملون أفكارًا مختلفة، والمتقاربون فى أفكارهم يمثلون تيارًا حزبيًا. أفراد مختلفون بلا انتماءات حزبية، ونظام نيابى يخلو من الأحزاب السياسية. كيف تستقيم تلك المعادلة الواهية الهشة؟!
لا شيء يستعصى على المنهج التلفيقى الذى يتلاعب بالألفاظ، ويقدم من الشواهد والأدلة والبراهين ما لا علاقة له بالعلم والمنطق. يقول حسن البنا فى محاولة غرائبية للبرهنة على وجهة نظره المتطرفة فى العداء للحزبية والديمقراطية:
يعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها فى حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر.
 


ويعتقدون كذلك أن النظام النيابي، بل حتى البرلماني، فى غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة فى مصر. وإلا لما قامت الحكومات الائتلافية فى البلاد الديمقراطية، فالحجة القائلة بأن النظام البرلمانى لا يتصور إلا بوجود الأحزاب حجة واهية، وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد وذلك فى الإمكان (ص١٤٦).
هل يجهل البنا أم يتجاهل أن معنى "الحكومة الائتلافية" يشير إلى الاختلاف الضمنى والتوافق المؤقت، وأن هذه الحكومة لا تكون إلا بين أحزاب مختلفة؟!
هل يجهل البنا أم يتجاهل أن وجود الأحزاب ليس حجة واهية أو عملًا شكليًا يمكن تجاوزه؟!
إنه يدعى – فى بساطة مريبة – وجود كثير من البلاد الدستورية البرلمانية بلا أحزاب، متناسيًا أن البلاد التى يقصدها – ولا يجرؤ على تحديدها – ليست ديمقراطية.
النظام الشمولى هو ما يراوده حسن البنا، ولا يمل من الدعوة إليه دون أن يصرح بعدائه للديمقراطية فى وضوح سافر ويعود مؤسس الإخوان إلى الفكرة نفسها فى موضع آخر:
يقول علماء الفقه الدستورى إن النظام النيابى يقوم على مسؤولية الحاكم، وسلطة الأمة، واحترام إرادتها، وإنه لا مانع فيه يمنع من وحدة الأمة واجتماع كلمتها، وليست الفرقة والخلاف شرطا فيه، وإن كان بعضهم يقول إن من دعائم النظام النيابى البرلماني: الحزبية. ولكن هذا إذا كان عرفًا فليس أصلًا فى قيام هذا النظام، لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية(ص٢٢١،٢٢٢،٢٢٣).
ما الذى يمكن التعليق به على مقولة إن الحزبية "عرف" يمكن تجاوزه؟!
من العبث أن نتساءل عن علماء الفقه الدستورى الذين يعتمد البنا على آرائهم، ومن المهم أن ننبه إلى وجود فارق كبير بين فساد الحياة السياسية وأحزابها فى مرحلة معينة، وبين إدانة ونقض الفكرة الحزبية نفسها. الفساد يحتاج إلى الإصلاح، ولا يمكن أن يكون النفى الكامل هو البديل لوجود الخلل!
يعود البنا ليتمسح فى النظم الديمقراطية الغربية، ويقدم قراءة غريبة وتأويلًا عجيبًا للظاهرة الحزبية فى هذه النظم. التأويل مفرط فى سذاجته، بقدر ما هو بعيد عن الصدق والصواب، وربما يراهن البنا على أن أحدًا من مستمعيه لن يعلق، وأن أحدًا من قرائه لن يفكر فى تقييم ما يقوله: 
الحكم النيابى فى أعرق "مواطنه" لم يقم على هذه الحزبية المسرفة. فليس فى إنجلترا إلا حزبان هما اللذان يتداولان الأمر فى هذا البلد، وتكاد تكون حزبيتهما داخلية بحتة، وتجمعهما دائمًا المسائل القومية المهمة، فلا تجد لهذه الحزبية أثرًا البتة. كما أن أمريكا ليس فيها إلا حزبان كذلك لا نسمع عنهما شيئًا إلا فى مواسم الانتخابات. أما فى ماعدا هذا، فلا حزبية ولا أحزاب. والبلاد التى تطورت فى الحزبية وأسرفت فى تكوين الأحزاب ذاقت وبال أمرها فى الحرب وفى السلم على السواء، وفرنسا أوضح مثال لذلك (ص٣٢٥).
أهو يرفض مبدأ الحزبية أم يدين "الإسراف" الحزبي؟!. لو أنه أجاد قراءة الواقع السياسى المصرى لأدرك أن "الإسراف" الحزبى لا يحول دون التركيز فى أحزاب قليلة فاعلة، وأن كثيرًا من الواجهات الحزبية التى لا تمثل شيئًا جادًا، لا تمثل خطورة مهلكة.
 


ليس صحيحًا أيضا ما يقوله البنا عن الخريطة الحزبية فى المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وهو يتعمد الخلط بين الأحزاب "الفاعلة" والأحزاب "القائمة"، ولا شك أن مقولته عن "مواسم الانتخابات" فى أمريكا لا تنبع من متابعة واعية، فالشأن الحزبى هناك أكثر أهمية وخطورة، لكن ثقافته السياسية لا تسعفه، ورغبته فى الانتصار لرأيه المغلوط تدفعه إلى التبسيط الذى لا يبالى بالحقائق.
وليس صحيحًا أن فرنسا قد هزمت فى الحرب العالمية الثانية لإسرافها الحزبي، بل على العكس من ذلك فقد كانت المقاومة الوطنية الفرنسية – التى حققت الاستقلال والنصر لفرنسا - وليدة مناخ "الإسراف" الذى يدينه البنا. ولو أن الأمر كما يقول فلماذا لم يحقق نفى الحزبية، والحكم الديكتاتورى الشمولى المتسلط، الانتصار المنشود لدول المحور التى لا تعرف الأحزاب ولا تعترف بها؟ لماذا هزمت ألمانيا النازية التى تخلو من مرض الإسراف الحزبي؟. وهل يحق لمعارضى البنا أن يتوقفوا أمام نموذجى ألمانيا وإيطاليا لإدانة فكرته التى تطالب بالصف الواحد؟!.
يتجلى إعجاب حسن البنا بالنظم الشمولية المعادية للديمقراطية فى قوله: من كان يصدق أن ذلك العامل الألمانى "هتلر" يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية؟ (ص٥٤). كيف نفسر الإعجاب بنازية هتلر؟ وغياب النقد لنظامه المرعب الذى أشعل العالم بأكمله ودمر جزءً ليس باليسير من تاريخ الإنسانية؟!.
فى موضع آخر يقول البنا، فى إضافة جديدة تعبر عن إعجابه بهتلر والنازية: ولئن كان التاريخ الألمانى يفرض نفسه حاميًا لكل من يجرى فى عروقه دم الألمان، فإن العقيدة الإسلامية توجب على كل مسلم قوى أن يعتبر نفسه حاميًا لكل من تردد نفسه تعليم القرآن(ص١٧٨).
النموذج النازى هو المثل الأعلى للشيخ البنا على المستوى الدولى.. أى معنى إذن فى الحديث عن الحكم الدستوري؟.
هل يجد البنا أم يهزل عندما يتحدث عن هتلر و"نجاح الغاية"؟، ولماذا يبذل الرجل جهدًا خارقًا لإخفاء حقيقة أفكاره والتصريح بما لا يؤمن به؟!. إنها البراعة والسياسة كما يتصورها، فالبنا لم يكن يوما صادقًا أو مخلصًا فى إيمانه الشكلى الهش بالحكم الدستورى. المشوه، لا هو ولا أتباعه كما سيأتى تفصيله لاحقا.
الخلافة الإسلامية هى النظام المنشود الذى يراود البنا على طول الخط، وهو القائل فى وضوح: الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير فى أمرها والاهتمام بشأنها (ص١٤٤). 
ويعود البنا ليؤكد، فى محاولة للانتقال من "النظري" إلى "العملى": والإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها فى رأس مناهجهم (ص١٤٤).
الخلافة التى يريدها لا تتسع بطبيعة الحال للأحزاب والحق فى الاختلاف، ذلك أن الخليفة هو الحاكم الذى يجسد تعاليم الإسلام ويعبر عن مبادئه، فكيف يمكن الاختلاف معه دون التورط فى خلاف مع الدين؟!. الإخوان بدورهم لا يقرون الاختلاف معهم، فبرنامجهم هو الإسلام، ومعارضتهم بالتبعية ليست إلا معارضة للدين. يقول البنا:
وهذا الإسلام الذى يؤمن الإخوان المسلمون به يجعل الحكومة ركنا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد(ص١٣٦).
سياسة الإخوان هى الإسلام، والاختلاف المسموح به لا ينبغى له أن يتجاوز التفاصيل الصغيرة، أما الإطار العام فلا يحتمل الجدل. الدولة الدينية هى الهدف الأسمى، ومن المنطقى والبدهى أن يقود الإخوان هذه الدولة لأنهم حماة الدين دون غيرهم، ومن الحتمى أن تُدفن الظاهرة الحزبية لأنها أداة تنافر وشقاق: 
إن مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها، وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم (ص١٤٧).
الحزبية نتاج الحضارة الغربية، والمسلمون فى غنى عن تقليد الظاهرة الوافدة والتشبث بها، ففى تراثهم ما يغنيهم، وفى دستورهم الإلهى الشامل ما يكفى لسعادتهم فى ظل الخلافة:
وإن أكبر ما يخشاه الإخوان المسلمون أن تندفع الشعوب الشرقية الإسلامية فى تيار التقليد، فترقع نهضتها بتلك النظم البالية التى انقضت على نفسها وأثبتت التجربة فسادها وعدم صلاحيتها. إن لكل أمة من أمم الإسلام دستورًا عامًا فيجب أن نستمد مواد دستورنا العام من أحكام القرآن الكريم (ص٤٨).
الضرورة السياسية قد تدفع الشيخ حسن البنا إلى إخفاء أوراقه الحقيقية وكتمان أفكاره أو محاولة تجميلها، وعندما تتغير الظروف الموضوعية، وتلوح فرصة التصريح، يسارع البنا بالكشف عن نواياه:
أعتقد أيها السادة أن الحزبية السياسية إن جازت فى بعض الظروف أو فى بعض البلدان، فهى لا تجوز فى كلها، وهى لا تجوز فى مصر أبدًا، وبخاصة فى هذا الوقت الذى نستفتح فيه عهدا جديدًا، ونريد أن تبنى أمتنا بناء قويًا يستلزم تعاون الجهد وتوافر القوى والانتفاع بكل المواهب، والاستقرار الكامل والتفرغ التام لنواحى الإصلاح (ص١٦٦).
ويقول أيضًا:وإذا جاز لبعض الأمم التى استكملت استقلالها وفرغت من تكوين نفسها أن تختلف وتتحزَّب فى فرعيات الأمور، فإن ذلك لا يجوز فى الأمم الناشئة أبدًا(ص١٦٧).
ويصل إلى غايته بقوله:أيها الإخوان لقد آن الأوان لأن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية فى مصر، وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامى صالح (ص١٦٨).
الحزبية لا تجوز فى مصر أبدًا، ولا تجوز فى الأمم الناشئة بشكل عام، ولا بديل عن "القضاء على نظام الحزبية فى مصر"، والنظام البديل هو الحكم الشمولى تحت مظلة الدين، والإخوان وحدهم هم القادرون على قيادة مثل هذا النظام، فهم حماة الدين وحراسه والمؤمنون الحقيقيون به!
الحزبية عند حسن البنا تهمة شائنة ورذيلة ينبغى التبرؤ منها، وهى أداة للتناحر والتقسيم والكيد والانتصار للمناهج الوضعية وخدمة الأهواء وتحقيق مصالح الأعداء، أو كما كتب:
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء وشكلتها الغايات والأغراض وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالا يفرقهم فى الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لا لدعاتها ولا للناس(ص٢١).
لا خير فى الحزبية ولا جدوى منها، ويأبى الشيخ إلا أن يجعل من مقولته هذه مطلبًا شعبيًا عامًا، ولنتأمل فى قوله:
لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هى سيئة هذا الوطن الكبرى، وهى أساس الفساد الاجتماعى الذى نصطلى بناره الآن(ص٣٢٦).
"السيئة الكبرى" لا تكمن فى الاحتلال الإنجليزى، ولا تتمثل فى إفساد السراى للحياة السياسية، ولا علاقة لها بالخلل الاجتماعى والتفاوت الطبقى الرهيب؛ لكنها فى النظام الحزبي!.
أى إجماع هذا الذى انعقد؟ وكيف توجد الأحزاب المصرية وتستمر فى ظل الإجماع الوهمى الذى يشير إليه الشيخ؟!. على الحزبيين أن يتخلوا عن أحزابهم، والإخوان المسلمون قادرون على استيعاب الجميع: 
ونحن الآن - وقد اشتد ساعد الدعوة وصلب عودها وأصبحت تستطيع أن توجه ولا تُوجه وأن تؤثر ولا تتأثر- نهيب بالكبراء والأعيان والهيئات والأحزاب أن ينضموا إلينا، وأن يسلكوا سبيلنا وأن يعملوا معنا وأن يتركوا هذه المظاهر الفارغة التى لا غناء فيها(ص١٢٥).
حزب واحد يقود، وزعيم واحد بلا منافس، وإصلاح داخلى له الأولوية دون تحديد، والمستقبل بعد ذلك كفيل بالبحث عن نظام سياسى لا يتخلى عن الوحدة التى يفرضها الإسلام؛ الإسلام كما يفهمه البنا.
تحت عنوان "حل الأحزاب المصرية" يقول البنا:
وإذا كان الأمر كذلك، فلا ندرى ما الذى يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم هذه الشيع والطوائف من الناس التى تسمى نفسها الأحزاب السياسية؟. إن الأمر جد خطير، ولقد حاول المصلحون أن يصلوا إلى وحدة ولو مؤقتة لمواجهة هذه الظروف العصيبة التى تجتازها البلاد، فيئسوا وأخفقوا ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول، ولا مناص بعد الآن من أن تُحل هذه الأحزاب جميعًا، وتجمع قوى الأمة فى حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها، ويضع أصول الإصلاح الداخلى العام، ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق فى التنظيم فى ظل الوحدة التى يفرضها الإسلام (ص٣٢٧).
ولقد انتبه المفكر الإسلامى عبد الله النفيسى إلى خطورة الموقف الذى اتخذه حسن البنا من فكرة الحزبية، واعتبره "نقطة ضعف" تعكس غياب النظرية المتكاملة لعلاقاته السياسية داخل مصر فكتب فى دراسته: كانت هناك شبكة من الأحزاب السياسية المتواجدة فى مصر سبقت تشكيل جماعة الإخوان، وكان لهذه الأحزاب أدوار سياسية خطيرة ولتلك الأحزاب مؤسساتها وقواعدها الاجتماعية كالوفد مثلا، الذى وصل للحكم أكثر من مرة. ثم إن دعوة البنا المضادة للأحزاب والحزبية قد وترت علاقاته السياسية مع تلك القوى رغم استعداد الأخيرة لقبول جماعة الإخوان كشريك سياسى فى الساحة. هذا الموقف المضاد للتعددية السياسية والذى تبناه البنا رحمه الله قد وضع الجماعة فى زاوية حادة من حيث علاقاتهم السياسية بالفرقاء السياسيين، وربما قطع الحوار مع كثير من الأحزاب السياسية التى اكتسبت شرعية سياسية واقعية، سواء بصلتها بالهيئة الحاكمة أم بقاعدتها الجماهيرية.
 


ثانيًا: المـــرأة
لا تحظى المرأة باهتمام خاص فى خطاب الشيخ حسن البنا، ولا يولى أهمية لقضاياها، وهو ما يتسق مع النظر إليها فى إطار التبعية للرجل من ناحية، وعلى اعتبار أنها مصدر للفتنة والفساد الأخلاقى من ناحية أخرى.
عندما يتحدث البنا عن "منهاج القرآن الكريم فى الإصلاح الاجتماعي"، يجمع بين الرجل والمرأة فى إطار عام فضفاض:
النهوض بالرجل والمرأة جميعًا، وإعلان التكافل والمساواة بينهما، وتحديد مهمة كل منهما تحديدًا دقيقًا(ص٩٤).
ما الذى تعنيه المساواة بينهما، وكيف تحدد المهام بدقة؟!. هذا ما لا يجيب عنه الشيخ، قانعًا بالشعار العام الذى يحتمل تأويلات شتى.
وفى ندائه للشباب، يستمر البنا فى خطابه العام البعيد عن الوضوح والتحديد والحسم، فهو يقول:
ونريد بعد ذلك البيت المسلم فى تفكيره وعقيدته وفى خلقه وعاطفته وفى عمله وتصرفه ونحن لهذا نعنى بالمرأة عنايتنا بالرجل (ص١٧٧).
ونقول إن الأسرة المسلمة هدف، ولا يمكن تخيل وجود مثل هذه الأسرة بمعزل عن الدور المهم الذى تلعبه المرأة.
الأسرة مجموعة أفراد، فإذا صلح الرجل وصلحت المرأة وهما عماد الأسرة استطاعا أن يكونا بيتًا نموذجيًا وفق القواعد التى وضعها الإسلام (ص٢٣٦).
البيت هو المملكة الحقيقية للمرأة، والدور الأسرى وظيفتها المنشودة، وما خلا ذلك يبدو الأمر محفوفًا بالمخاطر الأخلاقية. المرأة عند البنا جزء من منظمة الفساد التى جلبها الأوربيون إلى بلادنا:
وجلبوا إلى هذه الديار نساءهم الكاسيات العاريات وخمورهم ومسارحهم ومراقصهم وملاهيهم وقصصهم وجرائدهم ورواياتهم وخيالاتهم وعبثهم ومجونهم(ص١٠٤).
المرأة أداة للفتنة، ويلح الشيخ البنا كثيرًا على الإباحية والفساد، حيث الاقتران الدائم بالمرأة وشرورها:
وإن هذه الإباحية المغرية والمتعة الفاتنة واللهو العابث فى الشوارع والمجامع والمصايف والمرابع، يناقض ما أوصى الإسلام باتباعه من عفة وشهامة وإباء وانصراف إلى الجد وابتعاد عن الإسفاف (ص٤٩).
وفى نقده للمدنية الأوربية، يرصد مجموعة من الظواهر السلبية المصاحبة لها، ومن ذلك الإباحية والولع باللذة و: 
تجهيز المرأة بكل صنوف المفاتن والمغريات(ص١٠٣).
الجدير بالاهتمام هنا هو ما يقوله الشيخ حسن البنا فى "نحو النور"، فبعد أن يطالب بعلاج قضية المرأة علاجا يجمع بين الرقى بها والمحافظة عليها، يقدم مجموعة من الاقتراحات التى تنم عن موقف سلبى متعنت، وتكشف عن طبيعة المساواة التى يطالب بها:
مقاومة التبرج والخلاعة وإرشاد السيدات إلى ما يجب أن يكون، والتشديد فى ذلك بخاصة على المدرسات والتلميذات والطبيبات والطالبات ومن فى حكمهن.
إعادة النظر فى مناهج تعليم البنات ووجوب التفريق بينها وبين مناهج تعليم الصبيان فى كثير من مراحل التعليم.
منع الاختلاط بين الطلبة والطالبات، واعتبار خلوة أى رجل بامرأة لا تحل له جريمة يؤخذان لها (ص٢٩١).
ونرى أن الاقتراح الأول أخلاقى متشدد، وصياغته توحى بالمفهوم المتسع للخلاعة، فهى معطوفة على التبرج، وكأن كل متبرجة خليعة!
وخطورة الاقتراح الثانى أنه يضرب فكرة المساواة فى الصميم، فهو يطالب بمناهج خاصة للبنات، وكأن فى العلم ما لا يجوز للمرأة، أن تدرسه وتعرفه!، وهو لا يحدد مراحل التعليم والمناهج التى يقصدها، فيفتح الباب واسعًا أمام العبث العلمى الذى يمارسه غير المتخصصين، وبخاصة أن الاختلاط فى معاهد العلم "خلوة" غير شرعية تستوجب العقاب، و"جريمة" يؤخذ عليها!.
 

ثالثًا: الأقليـات 
عنوان لافت للنظر فى "نحو النور": (الإسلام يحمى الأقليات ويصون حقوق الأجانب)، ويؤكد الشيخ البنا أن التمسك بالإسلام لا ينافى وجود أقليات غير مسلمة فى الأمة الإسلامية، ولا ينافى الوحدة بين عناصر الأمة. ويصل إلى القول:
هذا الإسلام الذى بُنى على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا فى تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدنى فقط (ص٢٨٦).
لا يقول البنا شيئًا محددًا عن حقوق الأقليات غير المسلمة فى إطار الدولة المصرية، ويتسم خطابه بتعميم فضفاض بعيد عن التحديد، فالأمر عنده أقرب إلى رسالة يبث من خلالها الطمأنينة ولا يعد بشيء!
بل على العكس فإن البنا يبث برسائل مقلقة لهؤلاء عندما يؤكد على أن:
الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة فى ديارهم، سادة فى أوطانهم، بل ليس ذلك فحسب، بل إن عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول فى دعوتهم والاهتداء بأنوار الإسلام التى اهتدوا بها من قبل (ص١٥٠).
الإطـار الفـكرى العـام 
يقول البنا: وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك، إن الإخوان المسلمين:
١- دعوة سلفية
٢- وطريقة سنية 
٣- وحقيقة صوفية 
٤- وهيئة سياسية 
٥- وجماعة رياضية 
٦- ورابطة علمية ثقافية 
٧- وشركة اقتصادية 
٨- وفكرة اجتماعية(ص١٢٢، ١٢٣) 
هل أنتم طريقة صوفية؟ أم جمعية خيرية؟ أم مؤسسة اجتماعية؟ أم حزب سياسي؟ كونوا واحدًا من هذه الأسماء والمسميات لنعرفكم بأسمائكم وصفتكم.
يكتب أيضًا:
فقولوا لهؤلاء المتسائلين: نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة:
طريقة صوفية نقية 
وجمعية خيرية نافعة 
ومؤسسة اجتماعية قائمة 
وحزب سياسى نظيف (ص٢٥٢).
المقتبسان السابقان يعبران أفضل تعبير عن الإطار الفكرى العام الذى يتبناه الشيخ حسن البنا ويبشر به، وثمة ملاحظات أساسية حول هذا الإطار:
١- الاعتماد على الصياغة اللغوية البليغة، دون اهتمام جدى بالوضوح الفكرى والسياسى والاجتماعى.
٢- عمومية المبادئ والأفكار، والابتعاد عن التحديد الذى يتيح فرصة المناقشة والاختلاف.
٣- الاتكاء العاطفى على الدين و"القرآن"، دون انشغال حقيقى باستنباط واستخلاص رؤية متكاملة تنم عن وجود منهج مختلف يميز الإخوان عن غيرهم من المسلمين.
يريد الإخوان لجماعتهم أن تكون مزيجًا بالغ التعقيد من الصفاء الدينى والمنحى الصوفى والعمل السياسى والنشاط الرياضى والعطاء الثقافى والاقتصادى والاجتماعي، والمحصلة المنطقية أن يقود مثل هذا الخليط الغرائبى إلى غموض ضبابي، يفيد فى استقطاب الأنصار والمؤيدين، بقدر ما يدفع إلى تهيئة مناخ للصدام والصراع.