مكتبة النقابة المصرية تضم كنوزًا تروى مسيرة حافلة للصحافة فى مصر عبر تاريخها الذى شارك فيه صحفيون من جنسيات متعددة ومصريون من اتجاهات فكرية مختلفة عبروا عن هموم مصر وأحلامها
لم تكن نشأة الصحافة فى مصر نشأة تقليدية بل جاءت مع نمو طبقة جديدة فى مصر لم تعهدها قبل القرن ١٩ م، فالبرغم من أن بعض الباحثين يرى أن الصحافة نشأت مع الحملة الفرنسية على مصر ١٧٨٩: ١٨٠١ م، إلا أن الحقيقة أن صحافة نابليون بونابرت فى مصر كانت بالفرنسية وموجهة لضباطه وجنوده، فلم يدركها المصريون ولم تحدث لديهم أى أثر، وكان على مصر أن تنتظر صعود محمد على للحكم ليصدر صحيفة محدودة التوزيع هى "جورنال خديو"، والملاحظ أن اسم جورنال الذى أطلق على الصحيفة هو ذات المصطلح الدال على الوسيط الإعلامى المطبوع باللغة الفرنسية، وهنا نقرأ تغلغل الثقافة واللغة الفرنسية فى مصر مبكرًا، ليصبح إلى اليوم مصطلحًا دالًا على الصحيفة فى العامية المصرية، ونرى الوقائع المصرية التى تعد أول صحيفة فى مصر تصدر فى عام ١٨٢٨ لترسخ يومًا بعد يوم ثقافة الاطلاع على أخبار الدولة وأوامرها ثم تنشر مقالات صحفية وتنشر الشعر لتتحول قراءة الصحف إلى عادة يومية فى حياة المصريين، ثم يستخدم محمد على الصحف كأداة للدعاية له فأصدر من الإسكندرية صحيفة "لومونتسور إجيبسان" سنة١٨٣٣ م، ليقرأها الفرنسيون العاملون فى دولته والأجانب والمصريون العائدون من فرنسا، هذا يعنى أن الثقافة الفرنسية بات لها حضور فعلى فى مصر، تحدثت الصحيفة بلسان محمد على ومصالحه، صدرت هذه الصحيفة لمدة ٨ شهور وتوقفت فى عام ١٨٣٤ م، ولا يوجد من هذه الصحيفة سوى عددين ملحقين بتقرير رفعه جون بارونج إلى المستر بالمرستون وزير خارجية بريطانيا وطبع هذا التقرير فى لندن سنة ١٨٤٠ م، وهذان العددان هما العدد الرابع الصادر فى ١٤ سبتمبر ١٨٣٣ والعدد الرابع عشر الصادر فى ١٣ نوفمبر ١٨٣٣ م.. هذه الصحيفة تطرح على الفور أزمة أرشيف الصحافة المصرية، خاصةً أن مصر فقدت الكثير فى عام ٢٠١١ مع حريق مقر المجلس الأعلى للصحافة فى أحداث ٢٥ يناير والذى كانت مكتبته تضم نوادر من الصحف والمجلات المصرية.
تنوعت، منذ عصرالخديو اسماعيل، لغات الصحف الصادرة فى مصر خاصةً فى مدينتى القاهرة والأسكندرية فصدرت صحف بالإيطالية خاصةً فى الإسكندرية التى كانت الإيطالية أكثر اللغات انتشارًا فى الأسكندرية فى القرن ١٩ م، وتحدث بالايطالية سكان المدينة من المصريين، وحتى الأجانب من الفرنسيين والإنجليز اضطروا إلى التحدث بالإيطالية كى يجدوا فرص عمل مع سيطرة الإيطاليين على السفن المبحره من الأسكندرية والراسية على مينائها، لكننا لم نعثر على نماذج من هذه الصحف، وإنما نرى أثر الإيطاليين فى تسرب عدد من الكلمات الإيطالية فى العامية المصرية، وتظهر لنا صحف يونانية فى مصر وتنتشر لتقرأها جالية يونانية كانت منتشرة حتى فى القرى المصرية واشتهرت بالعمل فى تجارة التجزئة، لتفتح بعد ذلك دور للسينما حتى فى القرى ومنها قرية مطوبس فى محافظة كفر الشيخ.
لكن الملفت للنظر أن هذه الصحافة كانت أكثر انتشارًا وتوزيعًا فى مصر من الصحف الإنجليزية، ومع الاحتلال البريطانى لمصر عام ١٨٨٢ م نرى النخب المصرية تقرر اللغة الفرنسية لغة للمكاتبات فى دوائر الدولة المصرية وحتى الجمعيات مثل الجمعية الجغرافية المصرية والمجمع العلمى المصرى فقد كانت تلقى به المحاضرات باللغة الفرنسية وصدرت مجلاته باللغة الفرنسية، وهنا تحضر اللغة الفرنسية كثانى اللغات تداولًا فى مصر، فالنخب المصرية التى تعلمت فى فرنسا جعلت من الفرنسية لغة الحديث اليومى فى المنزل، ومن هنا أخذت الصحف الفرنسية المصرية فى الانتشار والذيوع، صارت هذه الصحف مفضلة لدى المصريين الناطقين بالفرنسية والذين ازدادت أعداهم بسبب إزدياد أعداد المدارس التى تعلم بالفرنسية فى مصر، وكذلك المبتعثين للتعلم فى جامعات فرنسا خاصةً السوربون حتى أنه صار من حلم عدد من الشباب المتعلم الالتحاق بباريس عاصمة النور والثقافة فى مخيلتهم، من هنا نستطيع أن نفهم كيف أن صحيفة مثل "لوبروجريه اجيبسيان" التى أسسها مسيو جاكان فى الإسكندرية وصدر عددها الأول فى ٤ يولية ١٨٦٨ م تعبر عن أراء النخب المصرية فى الخديو اسماعيل، فقد كانت النخب العائدة من أوروبا سواء من ايطاليا أو فرنسا أو بريطانيا ترى ضرورة فصل مصر عن الدولة العثمانية باعلان استقلالها فى الوقت الذى كان فيه الخديو اسماعيل يكرر زيارته لاسطنبول ورشاويه لحاشية السلطان للحصول على مكاسب، كما كانت صوت النخب المصرية فى نقد تصرفات الخديو المالية، وتعددت الصحف الفرنسية الصادرة من الإسكندرية وكان منها صحيفة "لامبارسيال ديجيبت" التى صدرت فى ١٠ مارس ١٨٦٩ م وهذا يدل على زيادة الطلب على هذه الصحف، ومن القاهرة صدرت صحيفة "لاريفورم" وذلك سنة ١٨٧٦ م وذكرت فى أول أعداها أنها صحيفة قضائية، أدبية، تجارية، قدمت هذه الصحيفة خدمة غير مسبوقه لقرائها من المصريين إذ فى العدد ١٥٨ لسنتها الرابعة ١٨٧٩ ذكرت أن قراءها الذين سيسافرون لقضاء عطلتهم فى أوربا سترسل أعداها لهم هناك على العناوين التى يخطرون بها، وكانت هذه الصحيفة عاكسة لشكاوى المصريين.
كان من المعتاد فى المجلات الثقافية المصرية أن يكون غلافها الأخر باللغة الفرنسية مع ملخص لموضوعاتها بالفرنسية لغة الثقافة فى مصر لسنوات طويلة، ومن ذلك مجلة الموسيقى التى كانت تصدر عن المعهد الملكى للموسيقى.. هذا ما يقودنا إلى ثروة من المعارف يحملها تاريخ الصحافة المصرية التى عرفت تنوعًا غير مسبوق هدفت منه الارتقاء بالعلوم والمعارف والوعى فى مصر، فصدرت مجلة يعسوب الطب فى سنة ١٨٦٣ م أصدرها محمد على البقلى باللغة العربية لنشر الوعى بالطب الحديث وأهميتة فى إنقاذ حياة المصريين، كما كان للفكاهة دورها فصدرت صحف مثل "أبونظارة زرقاء" إلى أن أغلقها الخديو اسماعيل فأعاد يعقوب صنوع إصدارها من باريس، كما صدرت صحيفة "منبر الشرق" فى جنيف والقاهرة.
هذا كله جعلنى أعيد اكتشاف أرشيفات الصحافة المصرية لأصل عبر نقابة الصحفيين المصريين إلى أرشيف يضم كنوزًا فى مكتبة النقابة المصرية، هذا الأرشيف نوادره تضم صحفًا ومجلات لا توجد فى مكان أخر فى مصر منها مجلة الكشكول وصحيفة البرهان التى غطت بصورة غير مسبوقة تفاصيل الثورة العرابية فى مصر وغيرها، إن ما تحمله الصحافة المصرية عند البحث فى أرشيفها يكشف عن جوانب مجهولة لدى شخصيات عامة أثرت فى مصر والمنطقة العربية كسفر أحمد الزيات مؤسس مجلة الرسالة أشهر مجلة أدبية مصرية فى القرن العشرين أربع سنوات للعمل فى العراق وتكريم الملك فيصل ملك العراق له عند مغادرته العراق، وكذلك علاقة الدكتور طه حسين بالصحافة المصرية التى تراوحت به بين المقال الثابت فى صحيفة السياسية إلى المعارك الأدبية والفكرية فى الصحافة المصرية التى أيقظت وعى المصريين بالنقد الأدبى ودوره فى النظر للنصوص الأدبية حتى أنه تنبأ مبكرًا بنجيب محفوظ ودوره فى بناء مسيرة الرواية العربية.. إنها مسيرة حافلة للصحافة فى مصر التى قدمت أيضا عبر تاريخها صورة للتعدد والتنوع فقد عمل فى الصحافة المصرية عبر تاريخها صحفيون من جنسيات متعددة ومصريون من اتجاهات فكرية مختلفة عبروا عن هموم مصر وأحلامها.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:
https://www.ledialogue.fr/