الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

مصريات

معابد مصر| "أبو سمبل".. معجزة قدس الأقداس

من عمليات إنقاذ معبد
من عمليات إنقاذ معبد أبو سمبل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

"إن التراث العالمي هو فكرة بسيطة، ولكنها فكرة ثورية مفادها أن العالم يضم تراثاً ثقافياً وطبيعياً ذا قيمة عالمية ينبغي للبشرية حمايته بالكامل بوصفه إرثها الذي لا يتجزأ".. هكذا تصف منظمة الأمم المتحدة وذراعها الثقافي "يونسكو" مهمة إنقاذ عدد من الآثار المصرية التي كاد أن يطولها الغرق إبان أعمال السد العالي. مشيرة إلى أن "إنقاذ معابد مصر، ونزع أحجار معبد أبو سمبل، حجراً بعد حجر، في بداية ستينات القرن الماضي، كانا أول مبادرة للاعتراف بصحة هذه الفكرة".
وأطلقت اليونسكو حملة إنقاذ دولية لحماية الآثار في النوبة من الغرق في مياه بحيرة ناصر. وكان إنشاء السد العالي في أسوان قد أثار اهتماماً غير مسبوق بحماية التراث الثقافي. ففي ذلك الحين، اعتقد كثير من الناس بوجوب الاختيار بين الثقافة والتنمية، بين المحاصيل المزدهرة وآثار التاريخ المجيد. ولكن اليونسكو بينت أن في مقدورنا الحصول على الميزتين معاً.
وأطلق اسم "أبو سمبل" على الموقع الأثري الرحالة السويسري يوهان لودفيج بوركهارت، المعروف باسم "إبراهيم بوركهارت"، الذي اكتشف الموقع عام 1813، حين صحبه إلى هذه المنطقة طفل يدعى "أبو سمبل". كما ترجع شهرة معبد أبو سمبل الكبير إلى ارتباطه بظاهرة تعامد الشمس على وجه تمثال الفرعون رمسيس الثاني مرتين في السنة، توافق الأولى 22 أكتوبر/ تشرين الأول، والثانية 22 فبراير/ شباط من كل عام.
قام ببناء المعبد الملك رمسيس الثاني (1303 ق.م - 1213 ق.م)، أشهر ملوك مصر من عصر الدولة الحديثة، والذي يُعتقد بأنه جلس على العرش في أواخر سنوات مراهقته، وحكم مصر في الفترة من 1279 ق.م ولمدة 67 عاما. ويضم المعبد اثنين من أهم المعابد الصخرية في أقصى جنوب مصر، وهما "أبو سمبل الكبير" الذي كان مكرساً لعبادة "رع حور آختي" و"آمون رع" و"بتاح" والملك نفسه، وذكر أن المعبد بالكامل منحوت في الصخر، ويمثل إحدى معجزات الهندسة المعمارية في العالم القديم. كما استغرق نحت المعبد 20 عاماً، وتم تنفيذ محور المعبد بحيث يسمح باختراق أشعة الشمس إلى قدس الأقداس مرتين كل عام.
ويمتاز المعبد بتصميم معماري فريد، حيث نقرت واجهته في الصخر وزينت بأربعة تماثيل ضخمة للملك رمسيس الثاني، يصل طول الواحد منها إلى حوالي 20 مترا، ويلي الواجهة ممر يؤدي إلى داخل المعبد الذي نقر في الصخر بعمق 48 مترا، وزينت جدرانه مناظر تسجل انتصارات الملك وفتوحاته، ومنها معركة "قادش"، التي انتصر فيها على الحيثيين، بالإضافة إلى المناظر الدينية التي تصور الملك في علاقاته مع المعبودات المصرية القديمة.
أما معبد "أبو سمبل الصغير" فيقع على بعد 100 متر من المعبد الأول والذي كرس للمعبودة "حتحور" والملكة "نفرتاري" الزوجة الرئيسية للملك، فقد أهداه الملك رمسيس الثاني لزوجته ومحبوبته، وتزين واجهته 6 تماثيل ضخمة متساوية الحجم تمثل الملك والملكة في إظهار واضح للمكانة العالية التي تمتعت بها الملكة لدى زوجها. ويمتد المعبد إلى داخل الهضبة بعمق 24 متر، وتزين جدرانه الداخلية مجموعة من المناظر الرائعة، التي صورت الملكة تتعبد للآلهة المختلفة إما مع الملك أو منفردة.
ويظهر الإبداع المعماري للمعبد مع تتابع تعامد أشعة الشمس على أقصى مكان داخل المعبد، وهو ما يطلق عليه "قدس الأقداس"، حيث يجلس الملك رمسيس الثاني، وبجواره تماثيل للمعبودات "آمون رع" و"رع حور آختي" و"بتاح" معبود العالم الآخر، تشرق أشعة الشمس على هذه التماثيل ما عدا تمثال "بتاح" لكونه معبود العالم الآخر والذي يجب أن يتصف بالظلام.

 

إنقاذ معبد أبو سمبل
بدأت الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة في عام 1959، بعد أن كانت تحت التهديد بسبب ارتفاع منسوب مياه نهر النيل، بعد عملية بناء السد العالي في أسوان، لذلك أسرعت الحكومة المصرية، ممثلة في وزير الثقافة الأسبق الدكتور ثروت عكاشة، في مخاطبة اليونيسكو لاتخاذ خطوات جادة وتوجيه نداء دولي لكل دول العالم للمشاركة في مشروع إنقاذ آثار النوبة.
وفي عام 1964 بدأ فريق عمل متعدد الجنسيات من علماء الآثار والمهندسين ومشغلي المعدات الثقيلة الماهرة في العمل معا لإنقاذ معبدي أبو سمبل (معبد أبو سمبل الكبير والصغير). وفي  عام 1965، اشترك البريطاني راسل إرول ترين في قيادة حملة لإبرام اتفاقية دولية لحماية كل من التراث الثقافي والتراث الطبيعي، وهي الاتفاقية التي أُبرمت تحت عنوان "اتفاقية اليونسكو بشأن التراث العالمي". والتي ظهرت فيها أهمية التراث باعتباره حصناً ضد التطرف، وقوةً دافعة لتعزيز "الإحساس بالقرابة فيما بين الأفراد باعتبارهم جزءاً من مجتمع عالمي واحد".


وتعترف اليونسكو بالمواقع الثقافية والطبيعية ذات القيمة العالمية البارزة، وتقوم بحمايتها لمنفعة الجميع. ويشكل صون التراث المشترك، بوصفه أساساً لتيسير الحوار والفهم المتبادل، مسؤولية مشتركة تقتضي تعاوناً بين جميع الدول الأطراف، إلى جانب المجتمع المدني والمجتمعات المحلية والقطاع الخاص. اليوم، تضم هذه الاتفاقية جميع دول العالم تقريباً وتشمل أكثر من 1000 موقع. ويتيح الجمع بين كل هذه المعلومات رسم خريطة جديدة للعالم من أجل السلام والحوار. 
قبل البدء في عملية نقل المعبدين وبالتحديد في عام 1956 تم إنشاء مركز تسجيل الآثار المصرية لتسجل وتوثيق المعابد، حيث لعب دورا هاما في عملية الإنقاذ باعتباره الجهة العلمية المنوطة بتوثيق وتسجيل الآثار المصرية، حيث قام المركز بتوثيق وتسجيل المعبدين بالكامل قبل وأثناء وبعد عملية الإنقاذ عن طريق الرفع المعماري، والتصوير الفوتوغرافي، والرسم الخطي (الفاكسميلي)، لجميع المناظر والنقوش الموجودة على جدران المعبدين من الخارج والداخل، وهي محفوظة الآن في أرشيف المركز.
وقد استغرق العمل لنقل المعبدين قرابة ست سنوات، حيث تم البدء في تقطيع المعبدين بعناية فائقة إلى كتل كبيرة، تصل الواحدة منها إلى 30 طن، بمتوسط 20 طناً، وتم نفلها وأعيد تركيبها مرة أخرى في موقع جديد على ارتفاع 65 متراً، وعلى بعد 200 متر عن سطح مياه بحيرة ناصر، في واحدة من أعظم تحديات الهندسة الأثرية في التاريخ ليتم بعد ذلك الحفاظ على هذه المعابد لتبقي حية حتى يومنا الحاضر شاهدة على عظمة البناء في مصر في الماضي والحاضر.