تنشر البوابة نيوز بمناسبة موسم الصوم الكبير نص رثاء كتبه البابا شنودة الثالث في البابا كيرلس السادس الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا الشهر عام 1971، والى نص الرثاء:
البابا كيرلس السادس فى هذا الصوم الأربعينى كان الحديث طويلا على غير العادة، وهذا بعض منه، فقد أدرك القمص مينا المتوحد فى ذلك الوقت أن التعليم الشائع عن الصوم انحصر فى الانقطاع عن الأطعمة الحيوانية، والانقطاع عن الطعام حتى الساعة الثالثة بعد الظهر أو حتى غروب الشمس، وهو ما كان يمارسه هو بالفعل.
وبذلك يكون هذا التعليم قد اكتفى بالسلوك الظاهر والنشاط الخارجى، أما ما يجب أن يحدث فى القلب، فلم نسمع عنه شيئا، صحيح أن ثمة توجيهات بالتوبة عن الكلام البطال والحلفان والشتائم وصون اللسان، والصوم عن الشرور، وصحيح أيضا أن التوبة عن هذه الأعمال نافعة حقا بكل تأكيد، إلا أن مجرد الكف عن هذه الأعمال ليس مطلوبا فى حد ذاته؛ لأنها - كما كان يقول الراهب المتوحد القمص مينا - مجرد مظاهر خارجية لمرض كامن فى النفس، وهو اغتراب النفس عن الرب يسوع المسيح، وعدم الالتصاق به، فالسلوك الخارجى ليس إلا علامة على ما يحدث فى الداخل، ومظهرا لما هو متأصل فى النفس.
قال لى بعد قداس يوم الأربعاء من الأسبوع الثانى من الصوم الكبير: «الكلام اللى هقوله لك حطه فى قلبك وعيش بيه، الإنسان الأول آدم لما تغرب عن الفردوس، وعن الله نفسه، حبس نفسه فى نفسه: يعنى عاش جوه عقله وقلبه، واتحول حبه الله إلى حبه لنفسه فقط، عشان كده إحنا بنبتدى من أول السلم، يعنى من أول السقوط الصوم هو صوم عن الإفراط فى محبة النفس، أو حسب كلام رب اجملد ربنا يسوع المسيح، هو جحد الذات».
ها أقول لك: «البداية سهلة وصعبة فى نفس الوقت، فهى سهلة؛ لأنها واضحة فى عقل الإنسان وفكره، وصعبة لأنها عمل دائم للقلب والإرادة، يعنى لازم تترك النية، والإرادة الخاصة بيك عشان تلتصق بالرب يسوع المسيح وحده، يبقى الانقطاع عن الإرادة الذاتية والنية الذاتية بيتحقق بطلب اسم الرب، يسوع المسيح زى ما فى الإبصاليات الخاصة باسم رب اجملد. وأنا لما قلت لك احفظ، الابصاليات، موش عشان تبقى عريف مرتل، ولكن عشان تتعلم إزاى تترك إرادتك الخاصة وتطلب إرادة الرب يسوع المسيح، يعنى الممارسة هتكون صعبة عليك فى الأول، ويمكن تكون غريبة على طبعك».
مثلا: «اخدم إخواتك قبل ما تخدم نفسك، طيب هتقول: وإيه فايدة الانقطاع عن الأكل؟، هقولك: الانقطاع عن الأكل معناه أنك تترك الطعام؛ لأن الإنسان عنده إرادة، والإرادة بتطلب الأكل، عشان كده لما تبعد عن الأكل بإرادتك تعرف إزاى، تبعد عن فكرك وعن ميولك وعن الأمور الخفية اللى خزنتها فى قلبك. أصل القلب، خزانة كبيرة فيها كل شهوات الإنسان ورغباته، ولما تصوم لازم تعتكف؛ لأن الاعتكاف هو انقطاع عن عشرة الناس والاعتكاف معناه إنك تصلى وتدرس الكتب المقدسة، وحتى حضور صلوات الكنيسة هو نوع من الاعتكاف عن العالم، المسيح الهنا الصالح يدى لك قوة روحية عشان أنت هتبتدى تبعد عن العالم، بقلبك وهتمشى ورا وراء سيدك الرب يسوع».
«الاعتراف بألوهية رب المجد باطل إذا كان بالفم وباللسان وحده، لازم يكون عندك طاعة المحبة؛ لأن المحبة دى هى اللى هتدورك وهتخليك تدور يعنى تنقطع عن نفسك استدارة الإنسان من الاتجاه للنفس والذات إلى الاستدارة إلى الله، اسمع كلامى واحفظه فى قلبك وثبته فى قلبك باسم وقوة الرب يسوع المسيح».
ضعف الإرادة وكيف يعالج؟
بعد قداس يوم الجمعة من نفس الأسبوع قال: الإرادة - يا ابنى - ضعيفة بالطبيعة؛ لأن الإرادة بتتحرك حسب رغبات القلب وحسب محبة الإنسان. إحنا لازم نعرف إن المحبة هى قوة حقيقية تخلق الكثير وتدمر الكثير. بدون المحبة الإنسان، ما يقدرش يشيل صليبه ويتبع الرب يسوع. ضعف الإرادة يساوى بالضبط ضعف محبة، الإنسان ومار اسحق بيقول إن عدم وجود هدف واضح للنفس، يشتت قوة النفس».
وقال البابا شنودة الثالث فى الذكرى الأولى لنياحة البابا كيرلس السادس وننفرد فى «البوابة» بإعادة نشر كلمة رثاء البابا شنودة الثالث عن البابا كيرلس من خلال كتابات البابا شنودة.
البابا كيرلس السادس رجل لا مثيل
إن البابا كيرلس نيح الله نفسه فى فردوس النعيم، أمضى حوالى 40 عاما فى خدمة الكهنوت، وفى خلال تلك الفترة، حرص فى كل يوم أن يقيم القداس الإلهى، لقد كان يحلو له أن يصلى جميع الصلوات ويترنم بألحان التسبحة ويصلى المزامير، ولا يوجد فى تاريخ الكنيسة كله إنسان مثل البابا كيرلس، استطاع أن يقيم مثل كل هذه القداسات، ولقد حاولت أن أحصى عدد القداسات التى أقامها فى حياته، فوجدت أنه قد صلى ما يزيد على 12,000 قداس، باستثناء الخمس سنين الأخيرة التى مرض فيها، وهذا أمر لم يحدث فى تاريخ أى بابا من باباوات الإسكندرية أو العالم أو الرهبان
البابا كيرلس السادس تتلمذ على يد أكبر أستاذ هو ماراسحق السريانى
وقال البابا شنودة الثالث، إنه من محبته للصلاة اختار حياة الوحدة فعاش متوحدا مدة طويلة، وتتلمذ على أكبر أستاذ كتب فى الوحدة فى تاريخ الرهبنة كلها وهو القديس مار اسحق.. لقد قرأت مئات من الكتب النسكية، فلم أجد أعظم من كتابات مار اسحق عن حياة الوحدة والسكون.
وتابع، «لقد كان البابا كيرلس يحب مار اسحق، ويقرأ كلماته ويحفظ الكثير منها، ونسخ بنفسه كتاب مار اسحق على ضوء شمعة فى مغارته وعلى ضوء لمبة غاز. عاش فى وحدة فى مغارة قرب دير البراموس. يسهر الليل فى قراءة أقوال الآباء ويصلى فى الفجر ويقيم القداسات، وعاش فى طاحونة قرب مصر القديمة، ثم فى الكنيسة التى بناها بنفسه فى مصر القديمة. ولم يخرج من بابها إلا للضرورة القصوى. وعندما اعتلى كرسى مارمرقس لم تتركه حياة الوحدة بل كثيرا ما كان يذهب إلى دير مارمينا بصحراء مريوط.. وكان يريد أن يمتلئ من ثمار الوحدة لنفسه».
فضائل البابا كيرلس السادس
وقال: «كان البابا كيرلس رجلا تتمثل فيه فضائل عديدة، فقد كان إنسانا بسيطا هادئا وديعا، وكان حكيما عميقا فى التفكير، وكان يتميز أيضا بالبكاء فى صلاته وفى قداساته بل أننى أذكر أنه عندما وقعت القرعة الهيكلية على قداسته ليكون بطريركا جاء لزيارة وادى النطرون، وعندما أتى إلى دير السريان طلب منى إلقاء كلمة تحية للأب المختار للبابوية، فتكلمت قليلا وإذ به يمسك منديله ويمسح عينيه من الدموع، وتأثرت كثيرا ببكائه أمام جميع الناس».
وتابع: «كان طيب القلب، وإذا غضب وتضايق وظن الناس أنه فى ثورة كبيرة، تجده للوقت يبتسم.. أقل كلمة ترضيه وترجع الابتسامة إلى وجهه، وكثيرون لم يأتوا إليه لكى يعطيهم آراء عميقة أو صلاة طويلة، وإنما يكفيهم أن يقول لهم كلمة "إن شاء الله ربنا يحلها" وهذا يقنعهم أكثر من آلاف الآراء المقنعة».
وأوضح: «لذلك عندما تنيح البابا، تعطلت الشوارع المحيطة بالبطريركية من كثرة الناس الذين أتوا لإلقاء النظرة الأخيرة عليه. عشرات الألوف سدوا كل الطرق، حتى أن رجال البوليس وبذلوا مجهودا كبيرا يشكرون عليه من السادسة صباحا حتى الحادية عشر مساء والوفود لا تنقطع.. الكل يريد أن يأخذ بركة البابا الراحل».
البابا كيرلس السادس والقضاء على الحاشية
وأشار إلى أنه كان أول بابا فى جيلنا الحاضر فتح بابه لكل إنسان، كل فرد كان يستطيع أن يجلس معه ويكلمه بلا مانع ولا عائق، وهكذا استطاع بشعبيته وبمقابلته لكل واحد أن يقضى على فكرة حاشية البطريرك، لأن كل إنسان يستطيع أن يعطيه المعلومات اللازمة فى أذنه مباشرة، فيعرف حقائق الأمور بطريق مباشر وليس عن طريق آخر. لذلك كان يعرف تفاصيل التفاصيل فى كنيستنا المقدسة.
وأردف: «لقد تميز بذاكرة قوية يندر أن يتمتع بها غيره، ذاكرة تستطيع أن تلم بأشياء يعسر على عقل بشرى عادى أن يلم بها، فكان يعرف كل الخدام ومشاكلهم فى دقة عجيبة، ويذكر كل الذين يقابلونه بأسمائهم ويسلم على الشخص فيسأله عن حاله بطريقة وثيقة، ويشعره بأبوته واهتمامه بشخصه وبأن له مركزا خاصا فى عقل الرجل وقلبه، كان عجيبا فى هذه الذاكرة، واهتمامه بكل واحد جعله لا يعطى راحة لجسده وفكره، ولذلك ما أن مرت عليه 8 سنوات فى البطريركية إلا وتكاثرت عليه الأمراض، ولم يعد هذا الجسد قويا كما كان فى أول عهده، فالنير الشديد الذى تحمله البابا كيرلس كان عظيما وسط تجارب متنوعة وضيقات كثيرة».
واختتم: «أمراض كان يحتملها فى صمت عجيب دون أن يشكو لأحد. كان المرض يهزه هزات قد تقلق راحة الأطباء المعالجين لقداسته، ومع ذلك لم يتكلم، وإذا سأله أحد عن صحته قال وهو يبتسم الحمد لله كويس، كان يؤمن بأن الله يستطيع أن يتدخل أكثر من الأطباء ويشفى أكثر من الدواء، وفى فترات مرضه كان يحرص أن يسمع القداس الإلهى، لذلك أمر أن توضع سماعة فى حجرته الخاصة تنقل إليه صلوات الكنيسة يوميا».