فى الوقت الذى فرضت الحياة إيقاعها السريع على كل تفصيلة من تفاصيل أيامنا، وانتشرت نوعيات جديدة من الأغانى تناسب هذه السرعة، تمامًا كوجبات التيك اواى شهية المذاق فى حينها وكثيفة الاضرار على المدى البعيد، وفى الوقت الذى رضخت حناجر أصحاب هذه الاصوات لأجهزة حديثة تمنحها بعض الحضور، واستسلمت اذان الشباب لهذه الاصوات، هناك صوت دائمًا يأتى من بعيد ليعيد للقلب شجونه وللمشاعر قيمتها وللاحساس كرامته.
هذا الصوت الذى رحل عن الحياة منذ ما يقرب من نصف قرن، وجاءت أجيال عديدة بعده، الا انه يبقى بمثابة الارث العاطفى الذى يرثه الشاب عن والده، ووالده عن جده، وحينما يترك لابنه اختياراته فى الاستماع لمن يحب، تمر الايام فيجد ابنه وهو يبحث عن ذلك الصوت، فى تلك اللحظة يتيقن الاب ان ابنه فى حالة حب، فهو بدأ ينصت لاحدى أغانى أم كلثوم.
أيها الشاب المستسلم لأغانى المهرجانات وبعض النوعيات الموسيقية التى تلائم عصرك، تذكر جيدًا انك ستكون على موعد مع صوت "الست" ان آجلًا أو عاجلًا، وغالبًا ما ستنتبه إليه لحظة وقوعك فى الحب، وقتها وبدون وعى ستجد نفسك تبحث عن احدى أغنياتها حتى تحتمى خلفها من هذه العشوائية المفرطة، وتنتظر منها وصفًا بليغًا لحالتك العاطفية، وتبعث من خلالها برسالة الى من تحب، ليبقى سحر صوتها عابرًا لكل العصور.
الباحث فى سيرة كوكب الشرق يجدها فتاة بسيطة خرجت من قرية طماى الزهايرة بمحافظة الدقهلية لتغزو قلوب الملايين فى مصر والعالم العربى بل والعالم أجمع، تاريخ طويل من النجاح المستمر، ورحلة صعود عجيبة تصدرت خلالها المشهد الغنائى طيلة حياتها، واستمرت فى الصدارة رغم الرحيل، وتحولت بمرور الوقت لرمز من رموز الفن المصرى عبر تاريخه لتصبح "صوت بلدنا" الذى يشدو فى كل المنازل العربية، وعلى نغماته يهيم العشاق فى كل الانحاء.
لم تكن أم كلثوم تلك المطربة التى تشعل نيران الحب فى القلوب فقط، بل كانت أيضًا صوت بلدنا فى وقت الشدائد، تشد الهمم وتسعى لتوحيد الصفوف، وحينما تم منع إذاعة أغنياتها عقب قيام ثورة يوليو ذهب إليها وفد من مجلس قيادة الثورة يبلغها بأنه خطأ غير مقصود لتعود وتشدو بأجمل الاغانى دعما للثورة والرئيس جمال عبدالناصر، ويزداد بريقها الوطنى عبر رحلاتها وحفلاتها الغنائية المتعددة دعما للجيش لتضرب مثلا للمبدع المهموم بقضايا وطنه.
التاريخ من المؤكد لم يغفل دورها المؤثر فى الذوق المجتمعى الذى وصل إلى أقصى درجات السمو بفضل الكلمة المنتقاة واللحن الشجى والصوت القوى العذب، حيث استنارت القلوب ولمعت العيون وذاقت العقول طعم الإبداع.
التاريخ أيضا لن يغفل فى المستقبل البعيد ان يذكر هذه المعادلة الرياضية المستحيلة التطبيق على أرض الواقع، والمتمثلة فى استمرار النجاح رغم المتغيرات المتلاحقة السريعة التى تحدث فى كل حقبة زمنية، ورغم ظهور عشرات الأصوات والمواهب الأخرى، لكن ان تبقى أم كلثوم دائما فى المقدمة فهذا هو الإعجاز بعينه.
على المقاهى صوتها يشدو، وفى جهاز كاسيت الميكروباص صوتها يعلو، ومن داخل التاكسى صوتها يسابق الطريق، ومن بلكونة هذا الرجل العجوز صوتها يعيد اليه الحياة من جديد، ومن داخل حجرة هذا الشاب يأتى صوتها ليذوق معه طعم الحب لاول مرة، فى كل وقت صوتها يحوم حولنا ويسرى فى دمائنا وعقولنا وقلوبنا، ولسان حالنا يشدو معه ويقول له بصوت كوكب الشرق "إعلا ودوى يا صوت بلدنا".
آراء حرة
عزت البنا يكتب: أم كلثوم.. يا صوت بلدنا
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق