السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محمود حامد يكتب: فى محراب العشق والخلود

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

وماذا يمكن أن نقول؟ وهل نقدر على الحكى حول ست الكل التى حلقت بنا فى أجواء روحانية يعيشها كلٌ منا وفق هواه وميله وحالته النفسية؟.. العاشق يرى نفسه فى أغانيها.. والصوفى يعيش متعبداً فى محرابها، والسياسى يزهو حتى عنان السماء مع أغانيها الوطنية.. عندما تؤرخ للفن والغناء، تكون «ثومة» فى مقدمة السجلات الفنية.. عندما تكتب عن التاريخ الوطنى للبلاد، نجدها تتصدر الصفوف الأولى بمواقفها الوطنية الرائدة وبأغانيها التى ألهبت الجماهير فرددتها فى كل مكان.. وفى كل لحظة صفاء مع الله تجدها معك فتستمع إليها وأنت فى حالة وجد وتقول من أعماقك: «الله».

هذه الفتاة الريفية البسيطة التى لم تتلق قسطاً من التعليم، علمتنا دروساً كثيرة.. استطاعت أن تنحت لنفسها طريقاً جعلها من كبار المثقفين فى المجتمع العربى، وتجسدت فى شخصها «الثقافة» بكل معانيها.. الثقافة فى فن الحديث وسرعة البديهة وقمة الإدراك والفهم والتعبير عن مكنون الذات وفق طبيعة الحدث.. فى أدائها تستشعر معنى الثقافة التى تربط بين الأداء وبين المعنى الذى تعبر عنه الكلمات المؤداة.

تحدت «ثومة» كل الظروف، وسطعت نجماً يتلألأ فى سماء الوطن، فى مجتمع تحكمه سماته الذكورية العالية، لكنها شقت طريقها وكانت كمن تقول لكل النساء، من حيث لا تدرى، «فلتنهض كلُ منكن ولتأخذ مكانها ومكانتها فى هذا البلد». 

لم يأت تربعها على عرش الغناء صدفة أو ضربة حظ، ولكن عبر مراحل عديدة امتلكت خلالها دفة القيادة فى اختيار الكلمة وفى الاستعانة بكبار الملحنين وفى اهتمامها بمخارج الألفاظ والنطق السليم للكلمات وقد ساعدتها فى ذلك نشأتها الدينية وغناؤها للمدائح النبوية فى مرحلة طفولتها.

مع الخميس الأول من كل شهر، كنا نعيش طقوساً معينة فى محراب أم كلثوم، نتبتل فى حضرتها ونعيش الوجد كله مع صوتها.. كانت البيوت تعلن حالة الطوارىء وتجهز الراديو ببطاريات جديدة، ويلتف أفراد العائلة حول الراديو ولوازم السهرة.. وتسود حالة من الصمت مع بدء سماع المقدمة الموسيقية لكل أغنية من أغانى حفلها.. ومهما اختلف صاحب اللحن، ترى نفسك أمام موسيقى مشبعة بنبرة روحية عميقة، وتسترجع فى ذهنك ألحاناً سابقة لملحنين آخرين، فتتأكد أن الجميع كان يتبارى لتسمو أرواحنا مع شدو أم كلثوم.. كانت تلك المقدمات الموسيقية الطويلة، تأخذك إلى حالة من الوصل، تزداد مع سماع صوتها فتصل إلى مستوى عالٍ من الرقى أو الارتقاء بالنفس والروح.

ما كل هذا الجمال؟.. صوت متمكن قوى يصدح ويحلق بنا فى عالم من الصفاء والنقاء والروحانية والوطنية والوجد والعشق والهيام والفرح والأمل والحزن والتفاؤل.. وكل ما يمكن أن تتخيله من حالات السمو الإنسانى.

عبرت مسيرة أم كلثوم حدود مصر ورسخت نفسها فى جميع أنحاء العالم العربى، فكان ينتظر حفلها الشهرى كل العرب من المحيط إلى الخليج. وعقب العدوان الثلاثى على مصر، علا صوتها «والله زمان ياسلاحى».. واختير ليكون السلام الوطنى لمصر، يردده الشباب فى مدارسهم والجميع فى مناسبات عديدة رياضية أو اجتماعية أو سياسية، إلى أن تغير فى عام 1973، فى إطار تغيرات عديدة فى المجتمع المصرى، لكن أم كلثوم ظلت هرماً يعلو ويعلو كل يوم.. لقد كانت شخصية فاعلة ورائدة فى الحياة السياسية المصرية، وكيف يمكن أن ننسى دورها العظيم فى جمع التبرعات وإقامة الحفلات لصالح المجهود الحربى بعد نكسة 67 فى مصر وخارج مصر، فكانت وحدها مؤسسة قائمة بحد ذاتها، لم تتأخر لحظة عن دعم جيشها ورفع الروح المعنوية لشعبها والتعبير عن حب جارف يملأ روحها لهذا الوطن الذى ذابت فى حبه عشقاً وهياماً.

وإذا كان حسها الوطنى قد برز عالياً فى الفترة الناصرية، إلا أن إيمانها بالعروبة سبق الزمان بزمان.. ويحكى لنا التاريخ أنها، فى ثلاثينيات القرن الماضى، أحيت حفلاً فى حيفا بفلسطين وقدمت حصيلة الحفل بالكامل للصندوق المخصص ضد الاحتلال البريطانى والهجرة الصهيونية. لكن مواقفها لم تقتصر على الجانب الوطنى والقومى.. لقد كان حسها الإنسانى عالياً إذ يحكى لنا التاريخ أيضاً أنها أقامت حفلاً خصصت دخله كاملاً لمن شردهم زلزال أغادير بتركيا فى أوائل عام 1960 وقد جمعت فى ذلك الحفل أكثر من مجرد حصيلة بيع التذاكر، حيث تفتق ذهنها عن قيام عدد من الأطفال بتوزيع زهرة هدية على كل من حضر الحفل على أن يدفع كلٌ منهم ما يجود به مقابل تلك الزهرة، تقديراً لصاحبة الدعوة.

لم تنل أى فنانة فى العالم كله، ما نالته أم كلثوم من حديث كبار الكتاب والأدباء ومتذوقى الموسيقى عنها.. ومن بين كل ما طالعته، توقفت كثيراً أمام قول الأديب العملاق عباس محمود العقاد: إن مزية أم كلثوم بعد كل ما سمعته من أغانيها هى أنها المطربة الموهوبة التى أثبتت أن الغناء هو «فن عقول وقلوب»، وليس بفن حناجر وأفواه فحسب.. فهى تفهم ما تغنيه، وتشعر بما تؤديه وتعطى من عندها نصيباً وافياً إلى جانب نصيب المؤلف والملحن.

ما أروع ما قاله العقاد، وما أروع ما قدمته ثومة وما زال خالداً خلود الزمان.. اشتقنا إلى حفلاتك وقد خلت شوارع القاهرة ومدن مصر وريفها من البشر المتجمعين حول صوتك فى بيوتهم.. لكن هؤلاء خرجوا وكان الحشد يفوق الملايين فى وداعك يوم الرحيل لكنك باقية.. لأنك دائماً «الحب كله».