الإثنين 04 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

من شارل ديجول إلى أم كلثوم: «مع صوتك، تزداد اهتزازات قلبى وقلوب كل الفرنسيين»

«لوموند» تكتب عن أم كلثوم كوكب الشرق للتليفزيون الفرنسى: جمال الغناء العربى ينبع من أصالته فى التعبير.. وسرّى الوحيد فى النجاح هو حبى لفنّى

أم كلثوم على مسرح
أم كلثوم على مسرح أوليمبيا بباريس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

«لوموند» تكتب عن أم كلثوم 

كوكب الشرق للتليفزيون الفرنسى: جمال الغناء العربى ينبع من أصالته فى التعبير.. وسرّى الوحيد فى النجاح هو حبى لفنّى

 

مدير المسرح فوجئ بمئات من يهود شمال إفريقيا يتواجدون مع المتفرجين من دول المغرب العربى.. تاريخهم مشترك: كلهم ​​نشأوا فى عصر «الست» ولا يمكنهم تجاهل قدومها رغم التوترات المرتبطة بحرب الأيام الستة

قال لها مدير أوليمبيا: «سيدتى، إنها أمسية فنية وليست مناسية وطنية».. لكن ردها جعله يتقهقر.. قالت بحسم: «الأمر طبيعى ولن ألوم مقدم البرنامج.. جئت لأنصر وطنى فى كل مكان»

يرتفع الستار على الموسيقيين.. تجلس أمامهم أنيقة بشكل رائع فى فستانها الطويل الأخضر والمنديل فى يدها اليمنى.. تتلألأ مجوهراتها فى دائرة الضوء.. تظل جالسة أثناء المقدمة الموسيقية ثم تنهض وسط تصفيق الجمهور

 

 

فى يوليو 2016، تعود بنا صحيفة "لوموند" الفرنسية العريقة إلى أجواء الحفل التاريخى لأم كلثوم فى باريس، وذلك فى إطار  6 حلقات للصحيفة تحت عنوان "حفلات أسطورية"، وكانت كوكب الشرق العربية الوحيدة ضمن هذه السلسلة.. لنقرأ بعضاً مما كتبه فيليب بروسارد فى "لوموند" يوم 29 يوليو 2016:

 

  فى عام 1967، ظهرت أم كلثوم، المعشوقة من الرباط إلى دمشق، على خشبة المسرح فى الأولمبيا. بعد أشهر قليلة من حرب الأيام الستة، تقدم أيقونة الشرق حفلها فى قلب باريس.

لم يكن مسرح أولمبيا ليستمر حتى وقت متأخر إلا هذه المرة. اقتربت الساعة فى هذه الليلة فى خريف 1967  من الثانية صباحاً، لكن الجمهور لا يهتم. خارج المسرح فى نوفمبر، يمكن أن تغفو باريس ويغلق المترو بواباته، وفى الداخل، كل شىء فى حالة حركة دائمة.. من الأوركسترا إلى المتفرجين، المستعدين للبقاء طوال الليل، بل طوال حياتهم، للاستماع إلى أم كلثوم. بالفعل الساعة 2:30 صباحًا، ولا تزال "سيدة" القاهرة تغنى، وتغنى، وتغنى، مؤجلة الموعد النهائى لإسدال الستارة بعد أغنية تستمر خمس وستين دقيقة.

  كان هذا الحفل، الوحيد خارج العالم العربى، يستحق مكانته فى التاريخ. هذه الرغبة، كما نعلم اليوم، قد تحققت. إذا كان أحد العروض فى الخارج هو علامة على مسيرة المغنية المصرية، فهذا هو العرض الذى مثل علامة فارقة. 

تعالوا نتتبع خطى برونو كوكواتريكس، الذى كان فى ذلك الوقت مدير مسرح أولمبيا. عندما ذهب إلى القاهرة، فى عام 1966 أو أوائل عام 1967، كان قبل كل شىء يستعد  لعرض دولى يتم تنظيمه فى مسرحه. ثم انتهز مضيفه المصرى، وزير الثقافة، الفرصة للإشادة بمزايا المجد الوطنى لأم كلثوم. كان هذا الاسم يعنى شيئًا غامضًا للزائر الفرنسى، فهو بطىء فى اتخاذ مقياس الشخصية.. "اعتقدت أنها كانت راقصة شرقية"، كما اعترف برونو كوكواتريكس لاحقًا.

هذه المرأة ليست نجمة ملهى. إنها قوية الشخصية ولكن متواضعة ومتحكمة فى حياتها الخاصة ومتدينة للغاية. على خشبة المسرح، ترتدى دائمًا فستانًا طويلًا. غالبًا ما ترتدى نظارات ملونة لحماية عينيها.. فى مصر وفى جميع الدول العربية، هى أيقونة مطلقة تُذاع حفلاتها مرة واحدة فى الشهر، يوم الخميس، عبر الراديو. من الرباط إلى دمشق، فى المقاهى والأسواق والقرى النائية، تتوقف الحياة إلا عن سماع  "الست".

قد يتهمها منتقدوها النادرون بـ"تخدير العرب"، فهى لا مثيل لها فى الغناء لله وللحب.. الأغنياء والفقراء يعبدونها. النساء يشيدن بذوقها، والرجال بقوميتها. تزينها الصحافة بعدد لا يحصى من الألقاب: "السيدة"، ولكن أيضًا "الصوت الساحر"، "نجمة الشرق"، "الهرم الرابع".

تضيف خلفيتها لمسة اجتماعية إلى هذه اللوحة الاستشراقية: وُلدت المعبودة فقيرة فى قرية فى دلتا النيل، وهى ابنة فلاحة وإمام محلى.  علمتها والدتها استقلالية العقل، وعلمها والدها العقيدة الإسلامية. فى بدايتها على خشبة المسرح، تنكرت فى هيئة صبى من أجل تهدئة مخاوف الأب. ثم تتبعت طريقها ووجهها مكشوف، وسجلت عشرات الأقراص، وصورت أفلاما ناجحة، وعملت مع أعظم الشعراء، متعاطفة مع الرئيس جمال عبد الناصر، وهو أيقونة أخرى فى الشارع العربى. 

أغلى فنان على أولمبيا

يريد برونو كوكواتريكس أن تكون فرنسا أول دولة غربية ترحب بها. لذلك ذهب إلى فيلتها فى حى الزمالك الأنيق ليتفق معها على إقامة حفلين موسيقيين فى 13 و15 نوفمبر 1967. رافقه الشاب المصرى الذى يتقن الفرنسية محمد سلماوى وأصبح فيما بعد كاتباً وصحفياً ذائع الصيت، ويقول "فى الواقع، قمت بترجمة كلمات أم كلثوم بشكل أساسي".. من جانبها، "كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة بما يكفى لفهم ما قاله السيد كوكواتريكس".

منذ البداية، لاحظ بشكل خاص عرضها كمفاوض: إنها تطالب بأن تكون أغلى فنانة فى تاريخ أولمبيا، بأجر أفضل من بياف نفسها. سيكون 20 مليون سنتيم (أو فرنك قديم، أو حوالى 250000 يورو)، وليس أقل من ذلك، ولا يشمل الإقامة فى فندق 5 نجوم. وبهذا المعدل، ستتمتع باريس بامتياز كونها المحطة الأوروبية الوحيدة فى جولة دولية ستأخذها إلى السودان والمغرب وتونس.

فى 11 نوفمبر، قبل يومين من موعد أول حفل له، ظهرت النجمة على شاشة التلفزيون الفرنسى. وبالتالى فهى تطمئن معجبيها حول قدومها، وهو ما لم يصدقه الكثيرون. 

فى يونيو 1967، زادت الأحداث الدولية من تعقيد مهمة طاقم أولمبيا. تضفى حرب الأيام الستة، التى اتسمت بهزيمة مصر أمام إسرائيل، على العروض المقرر عقدها فى نوفمبر بعدًا سياسيًا يصعب إدارته. وخرجت أم كلثوم، مثل مواطنيها، من تحت تأثير هذا الحدث الذى جعل صديقها ناصر يقدم استقالته ثم يوافق على العودة إلى السلطة. مع اقتراب الحفلات الباريسية، كانت تتفاعل بإيماءة ذات مغزى رمزى قوي: التبرع إلى الدولة، بحصيلة حفلها.. وهنا أدرك كوكواتريكس السر وراء إصرارها على رفع أجرها. فى ذلك الوقت، لم تكن مجرد مغنية لكنها سياسية تعيش فترة نضالها، حتى أنها تمتلك جواز سفر دبلوماسيًا.

لكن القلق يتزايد. أبلغت السفير الفرنسى فى القاهرة جاك رو بتكتم عن مخاوفها.. وفى رسالة سرية، كتب إلى وزارة الخارجية الفرنسية فى 24 أكتوبر 1967: "المغنية المصرية مهتمة بمعرفة ما إذا كانت بحضورها لا يخاطر، فى الظروف الحالية، بإثارة بعض المظاهرات العدائية. تود أن تعرف رأى السلطات الفرنسية فى الأمر".. فى اليوم التالى، أرادت الخارجية أن تكون مطمئنًة، وردت عن طريق التلكس: "ستكون خدمة الشرطة القوية التى سيتم توفيرها مسؤولة عن ردع أى متظاهرين".

فى 10 نوفمبر، عندما هبطت طائرتها فى مطار أورلى، نزلت كزعيمة لوفد أميرى. يتذكر عازف الكمان سعيد هيكل "كنا نحو عشرين موسيقيًا، كلهم ​​رجال. كان هناك أيضًا مصفف شعرها، ومساعدوها، وسكرتيرتها، ومصورها، ومذيع من الإذاعة المصرية".

فى المطار، لا يزال المشجعون من شمال أفريقيا يرحبون بباقات الورود. هادئة ومبتسمة، ترتدى معطفًا أسود ووشاحًا فيروزيًا ونظارة شمسية مع عدسات غامقة. يقترب منها فريق من التلفزيون الفرنسى، يسألها عن سر نجاحها. ويجيىء ردها معبراً عن ثقافة عالية وذكاء بلا حدود: "جمال الغناء العربى هو قبل كل شىء فى أصالته فى التعبير. ليس لدى اسرار. سرّى الوحيد هو أننى أحب فنّى".. ظاهرة غريبة نوعاً ما، كان بث هذا التقرير الموجز كافياً لإزالة التخوفات، وكأن المتفرجين قد انتظروا تأكيد وجودها ليؤمنوا بتحقق المعجزة.. فجأة، تباع جميع تذاكر الحفل.

يستعد الأمراء والأميرات والسفراء للانضمام إلى مجموعة من الأشخاص العاديين ومئات العمال المهاجرين من المغرب والجزائر وتونس والطلاب الذين اشتروا أخيرًا تذاكر الحفل. وفقا لصحيفة "فرانس سوار"، لا يمكن مقارنة شهرة "مطربة العرب الكبرى بشخصية أىٍ من نجومنا". كتبت "لوموند" آنذاك: "صوت فخم، مخملى، فرعونى، إنه صوت أم كلثوم المصرية".

أقامت فى فندق جورج الخامس، وهو قصر يستحق مكانتها.. تقول الأسطورة، التى نقلتها الصحافة المصرية، أنه فى صباح أحد الأيام طلبت أم كلثوم ورقة لتكتب بالفرنسية رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية شارل ديجول: "أنا مقتنعة بمهمتى.  أثناء إقامتى فى فرنسا، أردت أن أحيى عملك من أجل العدالة والسلام.. السيدة أم كلثوم". لا يبدو أن هناك أى أثر لمثل هذه الرسالة فى الأرشيف الدبلوماسى، لكن الحكاية تتمسك جيدًا بالأسطورة التى تستحق المصادقة عليها.

نصل إلى 13 نوفمبر.. تضغط الجماهير أمام أولمبيا تحت مراقبة عالية. برونو كوكواتريكس مدير المسرح، الذى تأكد الآن من نجاح الحفل قبل أن يبدأ، فوجئ برؤية عدة مئات من اليهود من شمال إفريقيا يتواجدون معًا دون مشاكل مع المتفرجين من شمال إفريقيا. يعود التفسير إلى تاريخهم المشترك: كلهم ​​نشأوا وهم يعبدون "الست" ولا يمكنهم تجاهل قدومها رغم أى شىء فى العالم، ورغم التوترات المرتبطة بحرب الأيام الستة. 

فى الساعة 9:25 مساءً، يرتفع الستار عن الموسيقيين الذين يرتدون بدلات رسمية سوداء. تجلس أمامهم، أنيقة بشكل رائع فى فستانها الطويل الأخضر، والمنديل فى يدها اليمنى. تتلألأ مجوهراتها فى دائرة الضوء. وفقًا لطقوس ثابتة، تظل جالسة للحظة، أثناء المقدمة الموسيقية، ثم تنهض وسط تصفيق الجمهور.. فى الكلمات الأولى تغنى لحب الوطن، كان الجمهور بالفعل فى حالة نشوة. إنه ناصر التى تتحدث عنه هنا "أنت الخير والنور"، لكن إيماءاتها، وتعبيرات وجهها، وحركة يديها تتجاوز الموقف الإيديولوجى البسيط. تزداد هتافات الجمهور ويعلو صوت الايادى وهى تصفق.. يصر عازف الكمان سعيد على أن "كل هذه الضوضاء لم تزعجنا.. على العكس من ذلك، كان هذا دليلًا على رضاهم ونوعاً من الحماس الوطنى أكثر مجرد شغف فنى. ويؤكد محمد سلماوى: "بالنسبة لكل العرب الذين أصيبوا بالهزيمة أمام إسرائيل، كانت صوت مصر المنتصرة".

"الست" تغنى لمدة خمسين دقيقة ثم تأخذ استراحة، اندفع برونو كوكواتريكس على خشبة المسرح، ويريد رؤيتها بشكل عاجل.. لقد رأى كوكاتريكس أن مقدم الحفل المصرى أبدى ملاحظات وطنية سياسية أكثر من اللازم بالنسبة لطبيعة المسرح. قال لها: "سيدتى، إنها أمسية فنية وليست مناسية وطنية".. لكن ردها جعله يتقهقر ويعود أدراجه.. قالت بحسم: "الأمر طبيعى بهذه الطريقة ولن ألوم مقدم البرنامج.. جئت لأنصر وطنى فى كل مكان". 

خلال يوم الثلاثاء 14 نوفمبر، تعقد مؤتمراً صحفياً بحضور برونو كوكواتريكس استعداداً للحفل الثانى.. فى ذلك المساء، كانت قاعة أولمبيا مزدحمة مرة أخرى، بدون مكان خالٍ. حضرت الفنانة المصرية الشهيرة فاتن حمامة زوجة عمر الشريف السابقة. يفيض الجمهور بحب سيدته لدرجة أن حادثة ما فشلت فى إفساد الحفلة: يصعد متفرج على خشبة المسرح ليلقى بنفسه على قدميها.. تنحنى فى مقعدها لكنها تستقيم على الفور، دون أن تتوقف عن الغناء.

هذه المرأة لديها فن إرباك الرجال. حتى أكبرهم. ووفقًا للصحفية يسابيل بوديس، فقد نشرت الصحافة المصرية فى ذلك الوقت أنه فى صباح يوم 16 نوفمبر، قبل ساعات قليلة من مغادرتها إلى القاهرة، تلقت رسالة من شارل ديجول فى جناحها بفندق جورج الخامس: "مع صوتك، تزداد اهتزازات قلبى وقلوب كل الفرنسيين". لم يرد ذكر هذه البرقية فى الأرشيف الدبلوماسى، وربما كانت موجودة.. هذا لا يهم، فقد سيطرت آخر ملكة لمصر على باريس فى خريف عام 1967.

 

 

على مسرح الأولمبيا  نوفمبر 1967
الجمهور يتوافد على الحفل
المطربة المصرية أم كلثوم خلال حفل استقبال في السفارة المصرية، باريس، فرنسا - نوفمبر 1967
بين حفلتى الأولمبيا ، تمكنت أم كلثوم من التجول في باريس