عندما تضبط نفسك عاشقاً سوف تسمع الست، فإذا أردت أن تسرى في جسدك قشعريرة محبة الوطن ستلجأ إلى الست، وإذا ذهبت روحك لتتشبع بالأجواء الروحانية الدينية لن تجد أفضل ولا أقرب إلى قلبك منها وهى تهمس إلى روحك [القلب يعشق كل جميل].. هى غنوة الصباح وحديث المساء والسهرة إذا ما [أقبل الليل].
الملهمة لعقلى بلا منازع، الفلاحة القادمة من قلب ريف مصر ببساطته ونقائه، صاحبة العصمة التى اخترقت القصور الملكية والرئاسية العابرة للأنظمة السياسية، صوت الناس فى الحلم والأمل فى الانتصار والانكسار، المطربة (ويقول علماء اللغة أن ال تفيد الاستغراق) فبين يديها يتوقف الطرب، ليس هناك مطربة سواها، ولا طرب إلا من حنجرتها.
الكتابة عن الكبار اختبار صعب، فضلاً عن الوقوع فى فخ الانحياز لهؤلاء ممن نحب ونعشق، لدرجة أننا نستدعى مشاعرنا فى حالة طوارىء لنعبر، ندافع عنهم رافعين شعار ممنوع الاقتراب، نفرض حولهم طوقاً من المحبة لا يتجاوزه متطفل ولا مغرض، سياج كامل من الحماية فهم مناطق محظورة، المشكلة الأكبر أن من كتبوا عن سيدتى أم كلثوم وهم كُثر كفونا الكلام فخلعوا عليها ألقابًا ونحتوا لهاً أوصافًا فحسموا الأمر وأغلقوا الملف توصيفاً وسرداً وسيرةً ومسيرة فلا تجد كلمات تليق، أو وصفا يرتقى لإمرأة استثنائية فوق العادة عن حق، حازت ألقاباً وحظيت بتكريمات، وتقدير وثناء ملوك ورؤساء دول وكبار الشعراء والمفكرين من الخليج إلى المحيط، بل ومن غير المتحدثين بالعربية، تحار في أمرك إذا ما أردت أن تدلى بشهادة (من أین تبدأ).
سيدة الغناء العربي أم كلثوم واحدة من أفضل من غنى على مر الزمن، تنافس عظماء العالم كله، بريق الاسم وحده ومشوار النجومية وعذاب وشقاء البدايات، من الضعف واليأس، إلى النجاح والتألق، وكانت علامة الاستفهام الكبرى في هذه الرحلة لبلوغ القمة كيف لفلاحة من ريف مصر أن تصنع كل هذا المجد؟!
كيف ظلت اسماً يتردد عبر الأجيال؟! وكيف لأغنياتها أن تعيش بيننا؟! لماذا يلجأ إليها الشباب إذا ما تحركت مشاعره مع أول قصة حب ؟! من يسمعونها ويستمتعون بها إلى درجة الهيام والوقوع تحت براثن سحرها، ومن يبحثون عن أغنياتها الوطنية بل والدينية أيضا لا يملونها فهي متجددة متنوعة مختلفة لكن العشاق والمحبون لفن ونغم الست ربما لا يتساءلون عن تلك البدايات الصعبة، وأيام الحرمان والشقاء، كيف لإمرأة أن تبدأ من (أقل من لا شيء، من تحت الصفر، لتصعد من القاع إلى القمة، كيف نجحت في كل شئ، وفشلت في أن تكون إمرأة عادية) هكذا وصفها عندليب الصحافة، الكاتب الكبير محمود عوض الذي نجح أن يقنع كوكب الشرق أن تبوح، تفضفض، تتحدث كما لم تتحدث من قبل، فحكت للملايين تفاصيل روتها لأول مرة، لم تخجل في أن تعلن للعالم كله عن تلك الأيام المرة التي ذاقتها، عن الفقر والجوع والعوز وهى رمز وقيمة وقمة ونموذج وقدوة واسم ملء السمع والبصر والتاريخ.
في كلمة واحدة إنه التحقق وكبرياء النجاح الذى يشهد له الجميع هو ما يجعل أم كلثوم تكشف أياماً ربما يرى البعض أنه يجب إخفاؤها، محوها، أو على الأقل السكوت عنها.. أيام مجهولة لا يعرف عنها أحد شيئاً هي بكامل ارادتها وثقتها وضعتها فى اسم محمود عوض وهـو أهل لها وفى مهنته هو أحد الاسطوات المشهود لهم، عرفت لمن تتحدث وكيف وهذا درس آخر ليت نجوم اليوم يتعلمون ويدركون قيمة الكلمة إذا تحدثوا وقيمة الصحافة فى صناعة مجد الكبار، جلست إليه أو جلس اليها وفاضت حتى ارتوى أستاذنا محمود عوض فكتب عن [أم كلثوم التى لا يعرفها أحد].
هو الريف الذى يجود على مصر بنوابغ ومواهب يقف أمامها الزمان مشدوهاً، نجوم حقيقية ممتلون بالفعل أسوياء، أشخاص طبيعية لم يصبهم البريق بأمراض التضخم فى غير موضعه ولا النرجسية بأنانيتها المفرطة، لم يزيفوا حقائق، ذهبوا للتاريخ يطرقون أبوابه بقوة وإصرار ليفتح لهم مرحباً أو رغماً عنه، هم لهم هنا مكان بين سطوره وبین صناعه، هكذا أرادت ان تقدم نفسها "الطفلة الفلاحة" التي لم تتخل عن أصولها وجذورها حتى وهى ترتاد القصور ومسارح الدنيا وعندما استدعاها الوطن كانت في مقدمة الصفوف تحارب بصوتها من أجل مصر وتجوب العالم لتجمع الأموال والتبرعات من أجل المجهود الحربي استعداداً للانتصار فى معركة الكرامة أكتوبر ٧٣، وهو درس آخر عظيم.
من أين لكِ هذا يا سيدتى، من أين لك هذا الصوت والشموخ.. ما هذه السطوة الفنية التى تفرضينها على محبيكى وهم بالملايين، في حضرة أى إمرأة نحن، ما هذا الثراء الغنائي الذى تركتيه لنا لنتذوقه وكأن على رؤوسنا الطير، ما هذا العطاء الإنسانى والوطنى الذى ليس له مثيل، ما هذه الرحلة والزخم الذى صنع أسطورة تعيش بيننا وتأبى أن تغادرنا أو نغادرها؟.. تتغير الأزمنة وتتوالى الأجيال وتظلين متربعة على عرش الغناء، وعلى عرش القلوب، وفى صدارة التاريخ، والمستقبل.. عاشت أم كلثوم.