«الذمة» في ذمة التاريخ.. ونعيش عصرًا مختلفًا يحتاج من علمائنا اجتهادًا جديدًا يُعيد لَمْلَمة ما اندثر من قِيمنا كمسلمين حول علاقاتنا مع الآخر
جماعات الإسلام السياسي تتعمد تشويه القضية بشكل يرقى إلى مستوى الجريمة
توجد اجتهادات معاصرة أعادت النظر في اجتهادات قديمة متعلقة بزمان ومكان مَن كتبوها تعيننا على فهم ما نحتاج إليه
شاع بين المسلمين نتيجة لذيوع صيت بعض شيوخ المنابر، والفضائيات، بعض المفاهيم المتأثرة برؤى ما أطلق عليه اصطلاحًا «فقه الأزمات»، تلك التي ألمَّت بالمسلمين فى القرون الوسطى، نتيجة لهجمات القبائل التترية المتوحشة على بلاد المسلمين، أو ما عُرف بحروب التتار، ومن بعدها خاصةً ما عرف اصطلاحًا بالحروب الصليبية.
ظهرت فى تلك الفترة مفاهيم أُطلق عليها اصطلاحًا: «أحكام أهل الذمة (غير المسلمين)، وأحكام التتر، والحاكمية الإلهية» وغيرها من الأحكام التى استقاها فقهاء هذا العصر لمواجهة تكالب بعض الأمم على بلاد المسلمين.
والشاهد أننا بصدد عصر مختلف، يحتاج من علمائنا وفقهائنا اجتهادًا مختلفًا يعيد لملمة ما اندثر من قيمنا وأخلاقياتنا كمسلمين فيما يتعلق بعلاقاتنا مع غير المسلمين. ولعل النظر فى بعض الاجتهادات المعاصرة التى أعادت النظر فى اجتهادات قديمة متعلقة بزمان ومكان من كتبوها تعيننا على فهم ما نحن بصدده.
وأول هذه المفاهيم التى انبنى عليها كل ما كتب من فقه حول العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هو «مفهوم الولاء والبراء»، الولاء للمسلمين والبراء من غير المسلمين، والذى تحول مؤخرًا على يد بعض الجماعات الإسلامية المتشددة، إلى الولاء للجماعة والبراء من كل ما عداها من الجماعات الأخرى ولو كانت تتسربل برداء الإسلام أيضًا.
وقد نشأ هذا المفهوم - وفق ما يؤكده الدكتور محمد سليم العوا فى كتابه «الفقه الإسلامى فى طريق التجديد» - لمقابلة المفهوم الرومانى لتقسيم العالم إلى ثلاثة أقسام: العالم الرومانى، والعالم اللاتينى، وعالم الآخرين.
فأما الرومان فهم سادة الدنيا، وأما اللاتين فأبناء عمومتهم، وأما الآخرون فعبيد الرومان واللاتين وتستباح فى سبيل السيطرة عليهم حُرُمات الإنسان جميعًا. وهو تقسيم عرقى عنصرى يقوم على وهم التميز الجنسى ويؤدى إلى ارتكاب أشد الأعمال إجرامًا ووحشية ضد غير الرومان واللاتين.
لذا صاغ الفقهاء المسلمون فى مقابلته مفهوم دار الإسلام ودار الحرب، وهو مفهوم يُستمد من حقيقتين: العقيدة والظرف الواقعى. وتترتب عليه أحكام فقهية ليس من بينها حكم واحد يجيز العدوان أو يبيح - بغير سبب - ما حرمته نصوص الشريعة.
وهو تقسيم لا يعلى من شأن عنصر أو جنس على حساب سائر العناصر والأجناس؛ لأن الذين صاغوه وطوروه كان نصب أعينهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣]، وكان حاديهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس.. كلكم لآدم وآدم من تراب، ألا لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى».
وقد أدى المفهوم الإسلامى دوره فى العصر الذى تكون فيه، وفى مراحل تاريخية لاحقة، أداءً يدركه المطلعون على مدونات الفقه الإسلامى وكتب القانون الدولى والعلاقات الدولية فى الإسلام، وهى الكتب التى تُعرف باسم «كتب السيرة». ولكنه فى بدايته واستمرار تطوره كان مفهومًا فقهيًّا اجتهاديًّا، ولم يكن مفهومًا مستمدًّا من نص قرآنى أو نبوى، أو مبنيًّا عليهما.
وكان مبنى الاجتهاد الفقهى فيه تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. وهو مقصد من مقاصد الشرع باتفاق الفقهاء.
ولم يكن ناشئًا - كما فهم بعض الباحثين - عن «قصور الرؤية الفقهية عن الإحاطة بتعدد العالم وغناه»، بل كان ناشئًا عن إدراك لفساد التمييز العنصرى والعرقى بين الناس، وعن إدراك لصحة التمييز بالعقيدة وما يترتب عليها فى العمل والسلوك من التقوى.
ولم يكن اجتهادًا مبتدأً، بل كان ردة فعل لموقف البيزنطيين الذين واجههم المسلمون وواجهوا فكرهم فى ثغور الشام.
فهل يجب على الفقه الإسلامى - فى كل العصور- الاحتفاظ بهذا التقسيم والعودة إليه كلما طرأت مسألة أو مشكلة من مسائل العلاقات الدولية أو مشكلاتها؟ أم الواجب على فقهاء كل عصر أن يصوغوا، لمواجهة تلك العلاقات، الحلول الفقهية المناسبة لعصرهم والتى تحقق المصلحة وتدفع المفسدة؟.
وإذا كان التقدم المذهل فى وسائل الاتصال والانتقال قد حول العالم المسكون كله إلى قرية صغيرة، فهل يعقل أن تظل نظرة المسلمين إلى العالم محكومة بذلك المفهوم الذى كان مناسبًا للظروف التى نشأ فيها ولم يعد كذلك بعد زوالها؟
انتهى مفهوم «أهل الذمة»
كل ما سبق عرضه ينقلنا إلى قضية مهمة للغاية لا تنفصل عن «الموقف من غير المسلمين»، بل هى فى القلب منه.. ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن قضية «أهل الذمة» (غير المسلمين فى الدولة الإسلامية) فى الفقه الإسلامى من أكثر القضايا التى توليها جماعات الإسلام السياسى أهمية خاصة، ضمن حزمة القضايا التى يهتمون بها. وهى دائمًا ما تنال قسطًًا كبيرًا من التشويه وسوء الفهم الذى يرقى إلى مستوى الجريمة أحيانًا.
ولأننا بصدد جريمة تُرتكب عن عمدٍ عندما يعتبر البعض غير المسلمين فى أوطاننا الإسلامية ذِميين، الأمر الذى يدفع باتجاه تقسيم طائفى مقيت، لذا وجب على كل الباحثين والدارسين أن يولُّوا أقلامهم شطر هذه القضية، محللين ومتابعين ومقدمين كل ما هو جديد، حتى تنقشع الغمة ويبزغ نور المواطنة من جديد.
فى كتابه «الفقه الإسلامى فى طريق التجديد»، يوضح الدكتور محمد سليم العوا المصدر الذى اعتمد عليه الفقهاء لإقرار مفهوم عقد الذمة قائلًا: «حين دخل الإسلام البلدان التى بعض سكانها لا يدينون به، نظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بمقتضى عقد يُعرف فى الفقه والتاريخ باسم عقد «الذمة»، ومعناها اللغوى: العهد والأمان والضمان».
والذمة فى الفقه هى: «عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم بأحكام دار الإسلام فى غير شؤونهم الدينية». أما فى تلك الشؤون فإن المسلمين مأمورون بتركهم وما يدينون.
وقد مضى الزمن بهذا العقد وتطبيقه، إلى أن دخل الاستعمار العسكرى الغربى جل بلاد المسلمين، فانتهى بذلك وجود الدولة الإسلامية التى أبرمت عقد الذمة، ونشأت دولة جديدة بعد مقارعة استمرت عقودًا من السنين للمستعمر الأجنبى، شارك فيها المسلمون وغير المسلمين على سواء.
ويضيف العوا أن «هذه الدول الإسلامية الحالية لم يعرض لأحكامها الفقهاء المجتهدون الذين تُنسب المذاهب الفقهية إليهم، ولا من بعدهم من مجتهدى مذاهبهم؛ لأنها لم توجد فى أزمانهم. والسيادة القائمة لهذه الدول مبنية على النشأة الحديثة لها التى شارك فى صنعها المسلمون وغير المسلمين معًا.
وهذه السيادة تجعل المواطنين فى الدولة الإسلامية الحديثة متساوين فى الحقوق والواجبات، التى ليس لها مصدر سوى المواطنة وحدها، والتى تقررها دساتير الدول الإسلامية المعاصرة للمواطنين على قدم المساواة.
والذمة، من حيث هى «عقد»، يرد عليها ما يرد على جميع العقود من أسباب الانتهاء. وقد انتهى العقد بانتهاء طرفيه: الدولة الإسلامية التى أبرمته، والمواطنين غير المسلمين الذين كانوا يقيمون فى الأرض المفتوحة. فَقدْ فَقَدَ كلاهما نفوذه وسلطانه - الذى به يستطيع الإلزام بتنفيذ العقد- بدخول الاستعمار الأجنبى إلى ديار الإسلام.
وليس معنى أن الذمة عقد «مؤبد» - كما يعرفه الفقهاء- أن يستعصى على أسباب الانتهاء المعروفة لكل عقد، وإنما التأبيد هنا معناه عدم جواز فسخه بإرادة الحكام المسلمين وعدم جواز قبول ظلمهم أهل الذمة.
والجزية - التى كانت شرطًا لهذا العقد - كانت مترتبة على عدم مشاركة غير المسلمين فى الدفاع عن الإسلام، إذ كان الدين هو محور هذا الدفاع، وكان تكليفهم به تكليفًا بما يشق أو لا يطاق، فأسقطه عقد الذمة فى مقابل الجزية.
لذلك فقد أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل من أهل الكتاب المشاركة فى الدفاع عن دار الإسلام. فغير المسلمين إذا أدوا واجب الدفاع عن الوطن لا يجوز فرض الجزية عليهم. وهذا هو حالنا اليوم، فهم لا فرق بينهم وبين المسلمين فى أداء واجب الجندية، مما يجعل فكرة الجزية غير واردة أصلًا.
ولا يرد على ذلك بأن الجزية مذكورة بالنص فى آية سورة التوبة الآمرة بقتال أهل الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩] لأمرين:
أولهما: أن هذه الآية من العام الذى أريد به الخاص، فقد نزلت فى الروم الذين قاتلوا المسلمين واعتدوا عليهم، وليست عامة فى أهل الكتاب كلهم، بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم عاهد نصارى نجران ولم يقاتلهم، وأعطاهم فى هذا العهد كل حقوقهم. وبدليل أن اليهود الذين كانوا فى المدينة المنورة مع النبى صلى الله عليه وسلم وتحت رئاسته للدولة الإسلامية لم تؤخذ منهم جزية.
وقد كان هؤلاء مواطنين بحكم صحيفة المدينة (أول دستور مكتوب فى الدنيا) وبقوا فى المدينة إلى أن أجلاهم منها عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ولم يأخذ الرسول ولا أبو بكر ولا عمر منهم جزية أصلًا. وحكم هؤلاء أقرب ما يكون - بل قد يكون هو نفسه - حكم المواطنين غير المسلمين فى الدولة الإسلامية الحديثة.
وثانيهما: أن النص القرآنى المعلل بعلة محددة، نصًّا أو استنباطًا، يدور مع هذه العلة وجودًا وعدمًا. وقد علل الفقهاء الجزية - فى أصح أقوالهم - بعدم المشاركة فى الدفاع عن دار الإسلام، ونصوا على سقوطها عن غير المسلمين بقيامهم بهذا الدفاع، وقد فعلوا، فأين موضع الجزية؟.
ونص الجزية فى تلك الآية نظير لنص مصارف الزكاة الذى يجعل من بينها «المؤلفة قلوبهم». ومع ذلك فقد أوقف عمر بن الخطاب - وأجمع الصحابة على موافقته - صرف هذا السهم لهم لأن الله قد أعز الإسلام وأغنى عن تأليف هؤلاء بالمال. وحكم نص الجزية - فى تقديرنا - كحكم نص المؤلفة قلوبهم سواء بسواء، يسقط بزوال سببه، أو يدور مع علته وجودًا وعدمًا، شأن كل نص معلل.
ولغير المسلمين من المواطنين من الحقوق العامة والخاصة، ومن حق تولى الوظائف العامة، مثل ما للمسلمين بلا زيادة ولا نقصان. على الأقل هذا ما نعتقده نحن!.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:
https://www.ledialogue.fr/