واشنطن تسعى لتهميش دور موسكو وبكين فى السياسة الدولية وتحقيق مصالحها من خلال السعى لنقل مركز اتخاذ القرار السياسى العالمى إلى مجموعة الدول السبع الصناعية لتصبح تدريجيا «مجلس إدارة العالم»
تكريس دور حلف الأطلنطى كتحالف عسكرى وحيد فى العالم تحت قيادتها وتهميش دور القوى الصاعدة النامية أو احتوائها
العالم بعد حرب أوكرانيا لن يكون أبدا مثلما كان عليه قبلها. والصراع الدائر حاليا من أجل إعادة رسم الخريطة الجيوستراتيجية للعالم، لا يترك للطرفين المتحاربين غير خيارات صفرية، إما الانتصار والحصول على كل شىء، وإما الهزيمة وخسارة كل شىء.. ولا أقصد بالطرفين المتحاربين هنا روسيا وأوكرانيا، وإنما أقصد معسكر الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ومعسكر الشرق بقيادة الصين. الصراع بين هذين المعسكرين هو الصراع الجيوستراتيجى الرئيسى، الذى يختمر منذ أكثر من عقد من الزمان، ويتجلى فى انتقال محور القوة فى العالم من الغرب إلى الشرق. وقد انفجر أخيرا، ليتجلى فى حرب أوكرانيا على الحدود الغربية لروسيا، وتصعيد المواجهة فى تايوان (بحر الصين الشرقى) وجنوب شرق آسيا (بحر الصين الجنوبى) مقابل الكتلة الأرضية الرئيسية للصين. وقد جاء الانفجار أولا على جبهة الناتو الشرقية، كما لو كان اختيارا متعمدا من إدارة الرئيس بايدن، على العكس من الخيار الآخر الذى كان يخطط له الرئيس السابق ترامب، بمحاولة التفاهم مع روسيا، وتركيز الجهود على المواجهة مع الصين. بوتين سقط فى الفخ الأمريكى فى أوكرانيا، كما سقط فيه ليونيد بريجنيف من قبل فى أفغانستان. أما شى جين بينغ، فإنه يلعب لعبة طويلة الأمد، ويخطط هو الآخر لنظام عالمى جديد بعد حرب أوكرانيا، حتى إذا اختارت الولايات المتحدة، مواجهته عسكريا فى بحر الصين الشرقى أو الجنوبى أو حتى كليهما فى وقت واحد.
محاور التخطيط الأمريكي
لا يحتاج المحلل الماهر للخروج باستنتاجات كبرى حول مآلات التقلصات التى يمر بها النظام الدولى والأعراض المصاحبة لها، أن تكون لديه بللورة سحرية، أو أن يكون عارفًا بأسرار قراءة الطالع. كل ما يحتاجه المحلل الماهر هو التدقيق فى قراءة الوقائع والبيانات، وفحص العلاقات بينها، ومحاولة كشف المستور منها، لاستكمال الصورة، واستكشاف آفاقها المستقبلية. وتقدم لنا التطورات الجارية فى الأسابيع الأخيرة، كنزًا من الوقائع والبيانات، التى تكشف إلى حد كبير اتجاهات خطوط خريطة توزيع القوة فى النظام العالمى الجديد بعد حرب أوكرانيا، والخطوط النقيضة لها. وسوف نبدأ بالولايات المتحدة، وننظر إلى ما تقوم به وما تقوله من نافذة أوكرانيا، وغيرها من نوافذ المصالح والتهديدات.
فى مناسبة مرور عام على حرب أوكرانيا، أعلنت الولايات المتحدة بيانات كثيرة، على لسان رئيسها ومسئوليها، أهمها تصريحات بايدن إلى قناة إيه بى سى، والبيان الرسمى لوزارة الخارجية، والبيان الذى ألقته نائب الرئيس كمالا هاريس فى ميونيخ، وتصريحات وزيرة الخزانة جانيت يلين فى كييف أخيرا، إضافة إلى تحركات وزير الخارجية أنتونى بلينكن والتصريحات الكثيرة التى أطلقها، ضد كل من روسيا والصين. وقد ترافقت تلك البيانات مع مجموعة من الإجراءات، بدأت بإعلان حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية ضد روسيا تشمل معها الصين وإيران وكيانات وأفراد ينتمون إلى هذه الدول وغيرها، وتتضمن تهديدًا بتوسيع نطاق العقوبات إلى دول وكيانات أخرى فى العالم كله. كما ترافقت أيضا مع تقديم حوافز اقتصادية وعسكرية وسياسية إلى أوكرانيا، منها هدية عسكرية بقيمة ٥٠٠ مليون دولار، أعلنها بايدن فى زيارته إلى كييف، وبرنامج للدعم الاقتصادى بقيمة ٩.٩ مليار دولار، أعلنت يلين صرف الدفعة الأولى منه بقيمة ١.٣ مليار دولار أثناء زيارتها لكييف، إلى جانب الكشف عن حزمة ضخمة من المساعدات المالية لتمويل ميزانية أوكرانيا بالكامل خلال العام الحالى. كما ترافقت مع الحملة الدبلوماسية العنيفة ضد روسيا، التى بلغت ذروتها بعقد اجتماع طارئ للجمعية العامة للأمم المتحدة، وافقت فيه ١٤٠ دولة على بيان يدين روسيا، ويطالبها بسحب قواتها من أوكرانيا.
نقل مركز القرار السياسي
وتظهر القراءة الدقيقة لهذه الوقائع أن الولايات المتحدة ترسم خطوط خريطة توازن القوى الاستراتيجى فى العالم بعد حرب أوكرانيا، من خلال محاور جديدة لسياستها الخارجية، تتضمن: تحييد الأمم المتحدة، ونقل مركز اتخاذ القرار السياسى الدولى بعيدًا عنها، والعمل على إقامة نظام اقتصادى عالمى جديد، يقوم على تفتيت العالم من خلال منظومة غير قانونية للعقوبات، وتكريس دور حلف الأطلنطى كتحالف عسكرى وحيد فى العالم تحت قيادتها، وتهميش دور القوى الصاعدة النامية أو احتوائها.
وسوف نتناول هنا عملية سعى الولايات المتحدة إلى نقل مركز اتخاذ القرار العالمى من الأمم المتحدة إلى مجموعة الدول السبع الصناعية الرئيسية، بقيادة الولايات المتحدة. ذلك أن بقاء مركز القرار فى الأمم المتحدة، يصطدم بامتلاك كل من روسيا والصين لحق الفيتو فى داخل مجلس الأمن، وهو مؤسسة الأمم المتحدة الأساسية المنوط بها حفظ السلم والأمن فى العالم. وقد تضاءل دور مجلس الأمن فى السنوات الأخيرة نظرًا لتشابك خطوط الصراع على النفوذ فى العالم، خصوصا فى الشرق الأوسط. وقد نتج عن ذلك تهميش دور المجلس عمدًا، وتحويله من منصة لاتخاذ قرارات دولية ملزمة، إلى ركن للخطابة، على غرار «ركن هايد بارك». وفى هذا السياق يكتفى مجلس الأمن الدولى بمجرد إصدار بيانات سياسية رئاسية، يصدرها رئيس المجلس، وتتبناها الدول الأعضاء، تقف عند الحد الأدنى لما تنص عليه قرارات المجلس السابقة، أو أقل من ذلك.
وقد رأينا تطبيقا عمليًا لإصدار «بيان رئاسى» عن مجلس الأمن فى ٢٠ فبراير من العام الحالى، بخصوص سياسة الاستيطان الصهيونى، وهدم منازل الفلسطينيين وتشريدهم، ومصادرة أراضيهم. وجاء البيان الرئاسى بديلًا عن مشروع القرار الإماراتى، الذى كان يتضمن فقرات تعيد تأكيد نصوص قرار المجلس رقم ٢٣٣٤ بإدانة سياسة الاستيطان الإسرائيلية، واعتبارها غير شرعية وغير قانونية، وتمثل عقبة أمام حل الدولتين، ويطالب إسرائيل بوقفها فورًا.
«البيان الرئاسى» جاء ثمرة ضغوط أمريكية ضد مشروع القرار الإماراتى، منذ الدقيقة الأولى التى قدمت فيها الإمارات مشروع القرار إلى المجلس. وبنجاح الضغوط الأمريكية وتحالف بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، تم سحب مشروع القرار، وصدر بدلًا منه بيان رئاسى عن المجلس،لا يتضمن إدانة الإستيطان، ولكن يكتفى بإعلان شعور الدول الأعضاء بالقلق من الإجراءات الإسرائيلية.. تهميش دور مجلس الأمن فى عملية اتخاذ القرار الدولى، يعنى من الناحية العملية تهميش دور كل من روسيا والصين فى السياسة الدولية، وهو ما تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه، لتلبية مصالحها فى نقل مركز اتخاذ القرار السياسى العالمى إلى المجموعة المغلقة، «مجموعة الدول السبع الصناعية»، بحيث تصبح تدريجيًا بمثابة «مجلس إدارة العالم». ويجب أن نوضح هنا أن الولايات المتحدة لا تهدف مباشرة من سياستها الحالية إلى تقويض الأمم المتحدة واسقاطها، كما حدث لعصبة الأمم قبل الحرب العالمية الثانية. بل إنها تسعى لدفعها إلى «التكيف» مع منظومة المصالح الأمريكية، والقيام بدور خادم لها. ومن المرجح أن تواصل الولايات المتحدة عملية تهميش المنظمات والتجمعات العالمية التى تتعارض معها، مثل مجموعة الدول العشرين، ومجموعة بريكس، ومنظمة أوبك، بالقدر الذى تتعارض سياساتها مع مصالح الولايات المتحدة.
إدارة الأزمات وليس حلها
وفى سياق نقل مركز اتخاذ القرار السياسى الدولى بعيدًا عن مجلس الأمن، يتم تغليب دبلوماسية إدارة الأزمات على سياسات حلها. فدبلوماسية إدارة الأزمات تبقى قدرة الولايات المتحدة على المناورة حية، ومن ثم فإنها تعزز دورها فى إدارة تلك الأزمات لمصلحتها، واستخدامها فى الاتجاه الذى تريده. من أمثلة ذلك الوضع فى ليبيا، حيث أصدر مجلس الأمن الدولى خلال عام ٢٠٢١ ثلاث بيانات رئاسية، تدور جميعها فى نطاق إدارة الأزمة السياسية هناك وليس حلها، كما هو الحال فى اليمن، وذلك على الرغم من أن مجلس الأمن يعتمد سياسة إصدار قرارات بعقوبات ضد الحوثيين، لكنها عديمة الجدوى. كذلك يظهر تحليل البيانات الرئاسية الصادرة عن مجلس الأمن، سواء فيما يخص الوضع فى الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، أو ليبيا، أوقضية سد النهضة، والعقوبات الصادرة ضد اليمن، أن الولايات المتحدة تتدخل فى هذه القضايا لتكيل بمكيالين، طبقا لمصالحها فقط، وليس طبقًا لمعايير توفير الأمن والسلام فى العالم. على سبيل المثال، قررت الولايات المتحدة وبقية الدول السبع الصناعية الرئيسية، حظر تصدير مكونات طائرات الدرونز الإيرانية، بعد استخدام هذه الطائرات بواسطة روسيا فى أوكرانيا. بينما لم تقترب الولايات المتحدة وحلفائها من اقتراح الإجراء نفسه، بعد الاعتداءات على منشآت أرامكو السعودية بواسطة تلك الطائرات عام ٢٠١٩.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي: