أبحرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إحدى وعشرين قرنًا من الزمان، قطعت خلاله شوطًا تاريخيًا عظيمًا تركت خلفها آثارٍ مازالت حاضرة بيننا إلي الآن، وارتبط بهذه الرحلة المقر البطريركي الذي يُمثل محل إقامة "البابا" رئيس جميع الآباء والمسيحيون في البلاد وخارجها، حيث يباشر من هذا المكان مُتابعة وخدمة رعاياه.
وخلال هذا التاريخ العريض منذ أول بطريرك لها مارمرقس الرسول إلي بطريركها الحالي قداسة البابا تواضروس الثاني، مَر المقر بـ7 محطات مختلفة بدأت من أقصي شمال مصر في منطقة محطة الرمل بالإسكندرية وصولًا إلى كاتدرائية ميلاد المسيح في العاصمة، وستقوم البوابة نيوز بنشر سلسلة من الحلقات تسرد خلالها هذه المحطات، مسلطين الضوء علي تاريخ الكنيسة وأباؤها.
1- قصة أول كنيسة مصرية (61م – 1046م)
نبدأ بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية المقر الأول للكنيسة القبطية، حيث نبتت وانتشرت العقيدة المسيحية في مصر علي يد مارمرقس الرسول، وأجمع مؤرخي الكنيسة القبطية أن مرقس البشير قدا جاء إلي الإسكندرية في حقبة نيرون الملك إمبراطور روما (54:68) بالتحديد في عام 61م.
وروي المؤرخ الكنسي ملاك لوقا قصة البشارة في الإسكندرية في كتابه "الأقباط النشأة والصراع"، قائلًا: "عندما دخل مرقس البشير إلي مدينة الإسكندرية رأي حذاءه قد تهرأ لكثرة المشي؛ فمال إلي إسكافي يدعي أسمه "إنيانوس" لكي يقوم بإصلاحه، إذا وهو قائم بإصلاحه دخل المخراز في يده؛ فصاح للوقت مستغيثًا بالله الواحد، وقال: "ايوس ثيئوس" ومعناها (يا إلهانا الواحد)؛ فكانت هذه فرصة صالحة تهيئات لمرقس البشير وسأله عن مقدار معرفته بالإله الواحد، ولم يلقي منه جواباَ يؤيد معني ما لفظ به، وقال له البشير: إذا كنت تعلم أن الله واحد لماذا تعبد كل هذه الآلهة الكثيرة؟، وبعد ذلك حكي له عن الله الواحد وأمن بتعاليم السيد المسيح، ومن ثم دعاه الإسكافي لمنزله ليستريح ويأكل خبزًا، وأكمل مرقس البشير حديثه عن الله لأهل بيته، وأمن الإسكافي هو وأهل بيته جميعًا وعمدهم وباركهم، وأصبح منزله مركزًا للتبشير بالديانة المسيحية في البلاد"
وبمرور الوقت زاد أتباع المسيحية في الإسكندرية واعتنقوا التعاليم الجديدة، وبعد عامان قام مرقس الرسول برسامة إنيانوس الإسكافي أسقفًا ليكمل هو البشارة في المدينة بجانب رسامة عدد من القساوسة والشمامسة، إلى أن أصبح هناك مدرسة لاهوتية قوية تجاري حداثة وعلم فلاسفة وأهل الإسكندرية.
وفي عام 65م غادر مارمرقس مصر وذهب لوطنه ليبيا وعاد بعد ذلك بعدة سنوات إلى مصر ليطمئن على حال كنيسته، وفي تاريخ 16 أبريل عام 68م قُتل اول رئيس للكنيسة القبطية على يد الوثنيون المصريون، ودُفن جسده في الكنيسة التي أسسها هو والمؤمنون الأوائل وخلفه وأكمل رسالته من بعده "إنيانوس الإسكافي" البطريرك الثاني من بطاركة الكنيسة القبطية.
وظل المقر الرسمي لبطاركة الكنيسة لأكثر من 10 قرون متتالية، عاصرت خلالها الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية وأخيرًا الإسلامية؛ إلي أنه يُستثني بعض الفترات في الحقبة البيزنطية عقب مجمع خلقيدونية عام 451م، حيث وقع اضطهاد شديد على الكنيسة القبطية ومؤمنيها؛ مما اضطر الباباوات الثلاثة بطرس الرابع البطريرك 34 (567-569م)، ودميانوس البطريرك 35 (569-605م)، وأنسطاسيوس البطريرك 36 (605-616م) إلى الإقامة مؤقتا في دير الزجاج غرب الإسكندر إلي أن عاد المقر مرة أخري لمكانته الطبيعية بالإسكندرية.
وبهذا التاريخ الحافل فقد جلس علي كرسي الكنيسة المرقسية 64 بطريركًا بجانب مؤسسها مارمرقس الرسول، وكان أخرهم البابا شنوده الثاني (1032م- 1046م)، البطريرك الـ65 من بطاركة الكنيسة.
وعلي الرغم من انتقال المقر البابوي لمحطات عديدة فيما بعد إلي أنه مازال يطلق علي بطريرك الكنيسة القبطية، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، ذاكرين مبشرها ومقرها الأول.