فى روايته «آيس هارت فى العالم الآخر» الصادرة مؤخرا عن دار «إبييدى»، يراهن الروائى محمد بركة على المجاز الشعرى فى رسم خريطة سردية للعالم الآخر أمام عين قارئه بلغة اتسعت بالإيحاء والإيهام والتخييل حتى أخرجت عنصرا مهما فى البناء السردى للرواية بشكل عام من المعادلة ألا وهو المكان.
وباختيار الكاتب ضمير المتكلم فى سرد أحداث الرواية أو بالأحرى رحلة ما بعد الموت لبطلها ضاقت المسافة بين مروان الفنان التشكيلى بطله الطليق فى أكثر العوالم غموضا على الإطلاق، وبين قارئ يرى بعينه ويتوحد معه، رغم ما يبديه بطل الحكاية من سلبية فى اتجاه الآخر مستثنيا حبيبته كريستين طبعا.
وفى منتصف صفحة بيضاء يصدر الكاتب هذه الآية الكريمة من القرآن «فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم» ليستدعى ما تخبئه الآية خلفها من قصة شهيرة يتكئ عليها الكاتب ليروى قصته الخاصة.
قبل الانتقال
منذ قليل، احترق مرسمه الكائن فى حى الحسين، وأكلت النار لوحاته كلها وتفحمت قطته الشيرازى ثلجية اللون والملمس «آيس هارت» وفى أحشائها شباريقها، يقول «مروان» على لسان أحد الجيران: «لو كان يرقعها، ما كان أصابه مس من الجنون»، ويؤكد على نفاقهم بقوله: «يتحولون إلى حرباء طيبة تقف على شجرة الأخلاق الحميدة وهم يرحبون بى: أهلا بالفنان، يمنحوننى اللقب من باب التمويه، خطة خداع استراتيجى تناسب لؤم فلاحين».
الحدث الذى يكشف خلاله «برك»،" الجهل الدينى والنفاق الاجتماعى المحيط به هنا فى القاهرة القديمة، ويوازيه ما هرب منه قبل ذلك، وأحاطه فى مسقط رأسه بمدينة الإسماعيلية، حينما رفض أن ينفذ أوامر والده بدخول كلية تؤهله ليدير أعماله مع أخيه المتشدد دينيا والأقل حظا من التعليم، لكنه اختار أن يكون فنانا تشكيلىا كما ينبغى أن يكونه.
الانتقال
على غير المتوقع يخلع «مروان» ملابسه قطعة قطعة أمام «كريستين» فى جناحه العلوى بمنزل أبيه الذى يغسله الآن أحد أقاربه ـ يعمل فى السلخانة ـ ويلتف حوله رجالات العائلة وأخيه الأكبر حامل ملامح الغيظ منذ أن رأى الصليب ينتصف صدر «كريستين» فى لقائه الأول بها، ويعالجها «بركة» بسرده: «واضح إنك لتجننت فعلا، طيب على الأقل نؤجلها لما ترجع من الدفن؟ يمكن للحب أن ينتظر، أما الغضب فلا».
فى اللحظات الأولى من انسلاخ الروح، الكيان الإنسانى من الجسد، تتدفق تساؤلات وجودية على لسان "مروان" وهو ينظر إلى جسده الذى فشلت معه كل محاولات «كريستين» لإنقاذه بإسعافات تدربت عليها من قبل، ولكن لولا توقف عضلة قلبه ما كان لنا أن نرى بعين «مروان» هذا الفضاء السردى، الذى اعتمده الكاتب بديلا لـ «المكان» مستخدما فيه حيلا سردية انبثقت منها لغة بصرية شديدة الخصوصية شحنت مشاهد رحلة البطل بين الكواكب وحديثه معها واخترق نواة الشمس، حتى أنه تصالح فى إحدى جولاته بين الماضى والحاضر مع أبيه الذى سبقه إلى عالم ما وراء الموت منذ ساعات معدودة.
يقول «بركة»: أطمع فى المزيد، السفر إلى ما بعد النهاية، هناك حيث يصبح كوننا مجرد قوقعة صغيرة على شاطئ لا متناه يضم مليارات القواقع الأخرى، شاطئ الوجود.
ومع هذا الإبهار اللغوى البصرى يمحو الكاتب محمد بركة أو يناقش على خلفية رحلة بطلة لعالم ما بعد الموت فكرة عذاب القبر، التى لم تذكرها الكتب السماوية الأربعة بشكل واضح، وتلك الملاحظة جديرة بالتأمل والنقاش، وما يمكن ملاحظته أيضا هو عدم توفيق الكاتب فى اختيار عنوان روايته ـ فى تقديرى المتواضع ـ وذلك يؤكده دور القطة الهامشى جدا فى السياق السردى للرواية، ويشاركه عدم التوفيق غلاف الرواية الذى تظهر فيه «آيس هارت» فى إحدى المقابر ليلا، وكأن الرواية مصنفة على أنها رواية رعب وهى أعمق من هذا التصنيف الضيق.