تحتفل الأمة الإسلامية بليلة النصف من شعبان وهي ليلة عظيمة تبدأ من مغرب غدًا الاثنين إلى فجر الثلاثاء، وهي تسمي بـ"ليلة البراءة" أو "الغفران"، ويحرص المسلمون دائمًا على إحيائها بقيام ليلها وصيام نهارها امتثالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فيها من نفحات وغفران للذنوب وهى ليلة يطلع الله سبحانه وتعالى، فيها على عباده فيغفر لكل أحد إلا المشرك أو المشاحن، والمشاحن هو من يضمر في قلبه الشحناء والبغضاء لأي شخص.
تحولت القبلة مرتين
تحولت القبلة مرتين، أولاهما من الكعبة إلى المسجد الأقصى، والثانية إلى المسجد الحرام، كما أن تحويل القبلة في البداية من الكعبة إلى المسجد الأقصى كان لحكمة تربوية، وهي العمل على تقوية إيمان المؤمنين، وتنقية النفوس وتطهير قلوبهم مما علق بها من شوائب الجاهلية، لقوله تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ»، وكذلك ليظهر من يتبع الرسول اتباعًا صادقًا عن اقتناع وتسليم، ممن ينقلب على عقبيه ويتعلق قلبه بدعاوى الجاهلية ورواسبها.
والتحويل الثاني بعد أن استتب الأمر لدولة الإسلام في المدينة، ليس إلا تأكيدًا للرابطة الوثيقة بين المسجدين، فإذا كانت رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، قد قطع فيها مسافة زمانية قصرت أو طالت، إلا أن تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام كان رحلة تعبدية، الغرض منها التوجه إلى الله تعالى دون قطع مسافات، فلا مسافة بين الخالق والمخلوق، مستدلًا بقوله تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ».
ليلة تربط عميق الإيمان بحب الأوطان
ورد أن ليلة الخامس عشر من الشهر الهجري شعبان تم فيها تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فى مكة المكرمة، حيث إن بعض المؤرخين ذكر أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كان في الخامس عشر من شعبان، في السنة الثانية للهجرة، ويوافق نوفمبر 623م، وهناك قول آخر بأن تحويل القبلة كان في منتصف شهر رجب.
وجاءت لتقر عين الرسول بتحويل القبلة من المسجد الأقصى بفلسطين إلي المسجد الحرام، فقلبه معلق بمكة، يمتلئ شوقًا وحنينا إليها، إذ هي أحب البلاد إليه، وقد أخرجه قومه واضطروه إلى الهجرة، فبعد أن استقر بالمدينة المنورة، أرضاه الله عز وجل بأن جعل القبلة إلى البيت الحرام، فكانت الإقامة بالمدينة والتوجه إلى مكة في كل صلاة، ليرتبط عميق الإيمان بحب الأوطان.
تُرفع فيها الأعمال
ورد أن الأعمال التي ترفع إلى الله على قسمين: الأول: تفصلية، والثاني: إجمالية، والأعمال التفصيلية هي التي ترفع إلى الله يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، أما الأعمال الإجمالية فهي تعرض في ليلة النصف من شعبان، وعرض الأعمال في ليلة النصف من شعبان يختلف عن عرضها في يومي الاثنين والخميس؛ فكل له مذاقه.
دعاء ليلة النصف من شعبان
جاء في صيغة دعاء ليلة النصف من شعبان اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي عِنْدَكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا أَوْ مَحْرُومًا أَوْ مَطْرُودًا أَوْ مُقَتَّرًا عَلَيَّ فِي الرِّزْقِ، فَامْحُ اللَّهُمَّ بِفَضْلِكَ شَقَاوَتِي وَحِرْمَانِي وَطَرْدِي وَإِقْتَارَ رِزْقِي، وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ سَعِيدًا مَرْزُوقًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرَاتِ، فَإِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ فِي كِتَابِكَ الْمُنَزَّلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكَ الْمُرْسَلِ: "يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"، إِلَهِي بِالتَّجَلِّي الْأَعْظَمِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ الْمُكَرَّمِ، الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَيُبْرَمُ، أَنْ تَكْشِفَ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا نَعْلَمُ وَمَا لَا نَعْلَمُ وَمَا أَنْتَ بِهِ أَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
يغفر الله فيها لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن
من الأحاديث التي تبين فضل تلك الليلة، ما جاء عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطلع الله على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن» وهذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير وفي الأوسط وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: «ورجاله ثقات» ورواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان وهو حديث جاء عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يثبت فضل هذه الليلة المباركة.
وعن عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالي ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، ومعنى النزول هو نزول أمره ورحمته فالله منزه عن الجسمية والحلول، فالمعني على ما ذكره أهل الحق نور رحمته، ومزيد لطفه على العباد وإجابة دعوتهم وقبول معذرتهم: فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب وخص شعر غنم كلب لأنه لم يكن في العرب أكثر غنما منهم.
وعن علي بن أبي طالب، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَتَهَا وَصُومُوا يَوْمَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ فِيهَا غُرُوبَ الشَّمْسِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: "أَلا مُسْتَغْفِرٌ فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ، أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ، أَلا كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ". رواه عبدالرزاق في المصنف وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان.
ومما ورد في فضل ليلة النصف من شهر شعبان ما جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: هذه ليلة النصف من شعبان: ان الله عز وجل يطلع علي عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم رواه الدار قطني والبيهقي.
استدار المسلمون في صلاتهم عند نزول أمر التغيير
جاء في كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير، وكتاب "فتح الباري" لابن حجر العسقلاني، وصحيح مسلم، أنه لما نزل الأمر بتحويل القبلة خطب رسول الله ﷺ المسلمين وأعلمهم بذلك كما رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلى وأن ذلك كان وقت الظهر، وقال بعض الناس: نزل تحويلها بين الصلاتين قاله مجاهد وغيره ويؤيد ذلك ما ثبت في (الصحيحين) عن البراء أن أول صلاة صلاها عليه السلام إلى الكعبة بالمدينة العصر، والعجب أن أهل قباء لم يبلغهم خبر ذلك إلى صلاة الصبح من اليوم الثاني كما ثبت في (الصحيحين) عن ابن عمر.
وروى البخاري عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وَكَانَتِ اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ.
وروى مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ".
والأمر الثالث عن كيفية تحول الصحابة رضي الله عنهم - الذين بلغهم أن القبلة قد تحولت- في أثناء الصلاة، فكان كيفية ذلك: بأن استدار الإمام ومن معهم من المأمومين من مكانهم على شكل نصف دائرة، بحيث أصبح الإمام في مؤخرة المسجد من جهة الكعبة، والرجال خلفه، والنساء في مكان الرجل.
وأوضح بعض العلماء أنه لا يلزم من قوله: (استداروا) و(مالوا) في الأحاديث السابقة: أن يكون هناك شق للصفوف من قِبل الإمام، بل يحتمل أن ما حصل هو مجرد استداره.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وَوَقَعَ بَيَانُ كَيْفِيَّة التَّحَوُّل فِي حَدِيث ثُوَيْلَة بِنْت أَسْلَمَ عِنْد اِبْن أَبِي حَاتِم، وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضه قَرِيبًا وَقَالَتْ فِيهِ: "فَتَحَوَّلَ النِّسَاء مَكَان الرِّجَال وَالرِّجَال مَكَان النِّسَاء، فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ إِلَى الْبَيْت الْحَرَام"، قلْت: وَتَصْوِيره أَنَّ الْإِمَام تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانه فِي مُقَدَّم الْمَسْجِد إِلَى مُؤَخَّر الْمَسْجِد؛ لِأَنَّ مَنْ اِسْتَقْبَلَ الْكَعْبَة اِسْتَدْبَرَ بَيْت الْمَقْدِس، وَهُوَ لَوْ دَارَ كَمَا هُوَ فِي مَكَانه لَمْ يَكُنْ خَلْفه مَكَان يَسَع الصُّفُوف، وَلَمَّا تَحَوَّلَ الْإِمَام تَحَوَّلَتْ الرِّجَال حَتَّى صَارُوا خَلْفه، وَتَحَوَّلَتْ النِّسَاء حَتَّى صِرْنَ خَلْف الرِّجَال، وَهَذَا يَسْتَدْعِي عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاة، فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ قَبْل تَحْرِيم الْعَمَل الْكَثِير، كَمَا كَانَ قَبْل تَحْرِيم الْكَلَام، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون اُغْتُفِرَ الْعَمَل الْمَذْكُور مِنْ أَجْل الْمَصْلَحَة الْمَذْكُورَة، أَوْ لَمْ تَتَوَالَ الْخُطَى عِنْد التَّحْوِيل بَلْ وَقَعَتْ مُفَرَّقَة، وَاللَّهُ أَعْلَم" انتهى من "فتح الباري".
انقسم فيها المسلمون إلى ثلاث فرق
تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام كان قرارًا صعبًا على نفوس مستقبليه باستثناء الذين هداهم الله إلى الحق من المؤمنين أصحاب الإيمان الثابت، وعند صدور الأمر الرباني بالتوجه إلى المسجد الحرام انقسم الناس أربعة فرق، الفريق الأول: الذين تمكن الإيمان في قلوبهم وهم أكثرية المسلمين في العهد النبوي، أعلنوا للرسول في ما أمر به مبلغًا عن ربه وَوَلَّوا وجوههم شطر المسجد الحرام وفازوا برضوان الله عز وجل الذي هداهم إلى البر والخير.
الفريق الثاني: المنافقون السفهاء حيث أخذ رهط منهم يسخرون ويتندرون ويشككون في قرار تغيير القبلة متسائلين قائلين: ما ولَّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ وقد أثر تشكيكهم وتساؤلاتهم المريبة في قلوب الذين لم يتمكن الإيمان والإسلام في قلوبهم فارتد نفر منهم عن الإسلام وقالوا: لو كان محمد على حق لما غير قبلته التي كان عليها أو لكان اتخذ المسجد الحرام قبلة من بداية الأمر.
وكان الفريق الثالث في مكة المكرمة حيث استقبل المشركون نبأ توجه الرسول والمسلمين في المدينة إلى المسجد الحرام وتولية وجوههم شطره، بفرحة غامرة وقال قائلهم: لقد عاد محمد إلى رشده واستقبل قبلتنا والكعبة التي فيها آلهتنا، ومضوا في غيهم يعمهون مستخدمين المعنى السياسي لتوجه المسلمين في صلاتهم إلى الكعبة وفق مصالحهم الخاصة وحسب فهمهم السقيم.
وكان موقف يهود في المدينة المنورة وخيبر وما حولهما الترويج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حَنَّ إلى أهله في مكة وأن توليه شطر المسجد الحرام وتركه المسجد الأقصى دليل على تخبط، ولكن القرآن الكريم يفضحهم ويدينهم عندما يؤكد أن الذين أُوتوا الكتاب يعلمون أن ما جاء به رسول الله هو الحق من ربهم وأن استقبال المسجد الأقصى في المرة الأولى، والتوجه شطر المسجد الحرام في المرة الثانية، كل ذلك كان بأمر من الله ولكن ضلالهم وحسدهم أعماهم عن اتباع الحق الذي جاءهم من ربهم «وما الله بغافل عما يعملون».