السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محمود حامد يكتب: تراها «حجارة».. لكنها «حضارة»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أيام الشباب، كنتُ أتجول فى شوارع مدينتى قوص القريبة من الأقصر، فأرى أحجارًا ضخمة بشكل لافت للنظر ملقاة فى شوارع «شرق البلد».. إنها تشبه تمامًا تلك الكتل الضخمة التى أراها تتكون منها الآثار الفرعونية ونشاهدها على شاشة التليفزيون.. عندما تساءلت عنها، زادنى الرد إستغرابًا: «أيوه.. كل دى قطع أثرية من أيام الفراعنة».
كانت كتلًا كثيرة تراها عن يمينك وعن يسارك وأمام ناظريك تنعى حظها العاثر.. ولعل ذلك هو الذى ولد عندى إحساسًا بأنها: «مجرد أحجار والسلام»!.. وظل هذا الإحساس يلاحقنى لفترة حتى عندما أتوجه إلى الأقصر فأرى متحف الأقصر مفتوحًا فى الشارع العمومى يراه المارة من كل صوبٍ وحدب، فاعتادت العين عليه مثل أى أمرٍ عادى تراه فى ذهابك وإيابك!.
مع مرور الزمن، تيقنت أننى فاقد الوعى.. كيف لا أرى كل هذه العظمة؟ وكيف لا تبهرنى تلك المشاهد «المتداخلة»؟: هذه المنطقة على كورنيش الأقصر، تمتزج فيها ثلاث حقب من حياة المصريين: هذا متحف الأقصر تعانقه كنيسة الأقباط، ويحتضن مسجد «أبو الحجاج» وإذا ما دخلت المسجد، فسوف تفاجئك الأعمدة الفرعونية بداخله، ولن تندهش، بالتالى، عندما ترى المنبر بارزًا من جوف بناء فرعونى خالد خلود الزمان.
وتمضى السنوات.. لكن كل الكلمات لا تكفى لوصف مدى انبهار وفد رسمى كان قادمًا من المجر فى استضافة حزب التجمع، وكان من حظى مرافقة الوفد لزيارة الأقصر وأسوان.. فى الأقصر، بمجرد نزولك من القطار وخروجك من محطة السكة الحديد، يأخذك شارع المحطة تلقائيًا نحو معبد الأقصر المفتوح.. لا تتصور كم الصراخ فرحًا وبهجةً الذى صدر عن أعضاء الوفد الأربعة (ثلاثة رجال وسيدة) رغم مراكزهم الرسمية فى بلادهم (أحد الوزراء ومحافظ العاصمة وأستاذ جامعى وقائدة من قيادات الحزب الحاكم).. غلبتهم مشاعرهم حتى رأيت الناس تتجمع يستغربون هذا المشهد الذى لم يخطر على بالى أن أرى مثله أبدًا.. ومع ذلك، كان أمرًا عاديًا إزاء ما بدر منهم عندما توجهنا فى المساء لمشاهدة عرض الصوت والضوء فى معبد الكرنك، وهو عرض أكثر إبهارًا من عرض منطقة الأهرام بالجيزة.. شاهدتُ على وجوهم مظاهر الذهول وزاغ البصر منهم وهم مشدوهين بما يتراءى أمامهم، إلى أن سيطروا على مشاعرهم واستردوا أنفسهم وبدأوا فى التركيز مع ما يدور حولهم.. بمجرد دخولك يبدأ العرض فتسمع صوتًا فخيمًا: «أنا رمسيس الثانى» بصوت الفنان زكى طليمات ليُضاء تمثال الملك المصرى ويستمر طليمات فى حديثه بلسان الملك العظيم، ومن بعده يأتى صوت الفنان حمدى غيث متقمصًا شخصية ملك آخر من أجدادنا الخالدين.. وتظل تتنقل سيرًا بين الأصوات والتماثيل التى تشع نورًا وبهاءً إلى أن تصل إلى البحيرة المقدسة فتجلس وتستكمل رؤيتك للعرض كاملًا وأنت تستمع إلى قصة الحضارة المصرية القديمة. لضيق الوقت شاهدنا العرض باللغة العربية وتولى الترجمة لزملائه فى الوفد الأستاذ الجامعى الذى كان يتحدث العربية بطلاقة. 
فى اليوم التالى، كانت الرحلة إلى غرب الأقصر: متحف مفتوح يحكى تاريخ حضارة عظيمة.. جولة وسط كنوز لا مثيل لها حيث وادى الملوك ووادى الملكات ومعبد حتشبسوت ومعبد مدينة هابو ومعبد الرامسيوم ومقابر النبلاء والدير البحرى والعملاقان «ممنون».. مدينة متكاملة تذخر بآثار الفراعنة وتشغى أيضًا بالقادمين من كل بلاد الدنيا، وتتمتع بزيارة تظل محفورة فى الذاكرة أبد الدهر.
أثناء جولتنا، ران صمت مبين.. أكان الانبهار أم الإعجاب أم الخشوغ أمام ملوكنا العظام؟ أم كل ذلك؟!.. أمام كل هذا الحشد من زوارنا الأجانب، وإزاء ما شاهدته مع الوفد المجرى، كان من الطبيعى الشعور بالانتشاء والفخر والعظمة والاعتزاز بالأجداد مثار اهتمام وإعجاب القادمين من كل بلاد الدنيا.
بعد سنوات طويلة، وأثناء جلسة مع عدد من المشاركين فى مؤتمر دولى بالخارج، قال لى صحفى بلجيكى: أحب مصر كثيرًا رغم أنى لم أزرها!.. كانت جملته عصية على الفهم لما فيها من «تناقض».. هل يعقل أن نحب شيئًا بدون أن نراه؟.. وكأنه فهم ما يدور فى ذهنى، فاستمر يتحدث: «نعم.. لم أزرها لكنى عرفتها من خلال ما قرأته عن آثارها العظيمة والأهرامات.. فأنا لا أعرف عن مصر إلا الآثار الفرعونية العظيمة وهذا يكفى لأن أحبها.. تاريخكم عظيم ولكم أن تفخروا به».
نعم.. تاريخنا عظيم ولكم أن تفخروا به وتفخروا بوطنٍ هو مهد الحضارة وفجر الضمير وكل التاريخ أيضًا.. وما هذا العدد إلا صفحات محدودة من كتب ومعاجم خالدة على مر الزمان.