وأنا أكتب هذه الحلقة أصابتني الحيرة في تحديد صفات ذلك الذي يدعى التاريخ، فلقد وجدته في مواضع عدة وجدته قاسيا ظالما، ووجدته باكيا حانيا رحيما، وسكيرا لا يخضع إلا لمزاجه، مزورا أحيانا ومن هواة البصق على الأختام أحيانا، منحازا للمنتصرين وجبارا على المنكسرين وحكيما يفرق بين الضعفاء المستضعفين، يقبل تدوين أشخاص في صفحاته بسطر او شطر وربما كلمة ويرفض تدوين آخرين بأطنان من الكتب، ليست أوراق اللعبة كلها في يده ولكني اكتشفت أن للأمر أبواب، فمن أين تدخل للقائه؟ وأي مدواة حبر تقدمها ليضع فيها ثغر قلمه؟ وأي صحبة تسير معك إليه وتقدمك؟ وليس هناك أعظم من أم كلثوم لتكون لك مدخلا لهذا التاريخ.
فشاعرنا في هذه الحلقة حسين حلمي المانسترلي، كتب ألف أغنية لكل المطربين مسجلة على أسطوانات، ووجدت مكتوبة بخط يده وتحتفظ واحتفظت ابنته بها في أرشيفها، لكن أن تغني له ثومة فهذا أمر مختلف وتذكرة عبور للمجد، الذي كان على موعد معه عام 1931 عندما شدت له كوكب الشرق "تبعيني ليه" من ألحان رياض القصبحي والتي تقول كلماتها:
تبيعيني ليه كان ذنبي إيه
مين للفؤاد يبقى يواسيه
فين العهود
فين الوداد
إيه بس قصدك م العناد
يرضيكي تعذيب الفؤاد
وحياة عيونك ترحميه
كما غنت في نفس العام طقطوقة "غصبن عني" ألحان زكريا أحمد
لكن لماذا غاب المانسترلي عن قارئ التاريخ بعد هذا التدوين برغم أنه دخل من باب الكبار لأن وثبة حرفه لم تكن في نظري بالقوة التي تجعله يستمر في إرضاء ذائقة الأجيال المتتابعة ولم يفك قيود أوابد قلمه ليحلق طويلا في سماء الطرب، برغم ان الأقدار وضعته في منصب المدير الفني لشركة أوديون للأسطوانات. وكان هذا المنصب حلقة الاتصال بينه وبين العديد من مطربي عصره من الذين تعرفوا عليه كشاعر، وبالتالي فقد أخذوا يتغنون بكلماته.
في حوار سابق بمجلة صباح الخير، قال أشرف صبحى حفيد الشاعر حسين حلمى المانسترلى: " جدي ولد فى إسطنبول، وجاء مع والده، وهو أحد أفراد عائلة المانسترلى، التى يعود نسبها فى مصر إلى جدهم الكبير، حسن فؤاد باشا المانسترلى، «كتخذا» مصر، صاحب القصر الشهير بالمنيل.
ويتابع عمل جدي بوزارة المعارف، ثم عمل مديرًا للمعاهد الدينية بالأزهر، ومن هنا جاء ما كتب عنه أنه عمل بالأوقاف.
كتب حسين المانسترلى العديد من الأغانى والمونولوجات الشعبية، مثل نورت يا قطن النيل، «يا عرقسوس شفا وخمير يا اللى الليمون منك يغير»، كما غنت له أم كلثوم وإبراهيم حمودة وليلى مراد وآخرون، كما كان له الفضل فى اكتشاف الفنانة نجاة على، وكتب حوار بعض الأفلام السينمائية.
يتذكر أشرف ما حكته والدته حورية، عن سهرات والدها فى الخميس الأول من كل شهر بفيلا المعادى، والتى كان يدعو إليها كبار الفنانين والموسيقيين، وكان الموسيقار عبدالوهاب حريصًا على حضورها، وكذلك فريد الأطرش، وعبدالحليم حافظ فى بداية مشواره الفنى.. ويكفي أن تعرف أن شاعر الآهات وابن الباشوات هو كاتب الأغنية الخالدة "وحوي يا وحوي" التي ارتبطت في أذهان الجمهور بقدوم شهر رمضان المعظم.
الليل يطول ويكيدني
والفجر آسي بيضنيني
وبلبل الصبح يزيدني
أنينه من جنس انيني
يبقى يغني والدمع بيفيض
من عيني غصبن عني
صبرت قلبي اللي شبكني
وقلت مهلا يا جفوني
الحب ما رضيش يطاوعني
والشوق غلب قلبي وعيني
خيب ظني
ورجعت للنوح يواسيني
غصبن عني
ليه يا غرامي بتألمني
وتهرب النوم من عيني
عملت إيه بتعذبني
وتسيبني للنار تكويني
ليه تأسرني
وآسى من سهد جفوني
غصبني عني
مين اللي يقدر ينصفني
غير الحبيب اللي ضناني
يبعد شجوني ويرحمني
ويشفى قلبي اللي رماني
كان يسعدني
والدمع يبعد عن عيني
غصبن عني
ومثل ما كنا نجهل قدر هذا الشاعر الكبير، قال الناقد الفني د. حنفي المحلاوي في كتابه "شعراء أم كلثوم": "في لقاء تكرر مرتين عبر الأثير.. جاء صوت السيدة حورية المانسترلي الذي عرفني بها المؤرخ محمود كامل.. يحمل إلينا الكثير من المعلومات التي كنا نجهلها وتكمل لنا دائرة المعرفة عمن كانت تختار أم كلثوم كلماتهم لكي تشدو بها من ألحان كبار الموسيقيين.
وبهذا السرد بعد البحث نقف أمام معلومة أن تعاون الشاعر حسين حلمي المانسترلي مع كوكب الشرق كان فقط هاتان الطقطوقتان اللتان سبق ذكرهما والقوس مفتوح لذكر العديد من الأسباب التي جعلت هذه الموهبة الكبيرة تتخلف عن السير في ركاب "ثومة" وتتوارى عن الأذهان لكنها تبقى حاضرة في صفحات التاريخ وربما قابلنا المانسترلي في لقاءات أخرى مع مطربين آخرين في سلسلة حلقات السلطنة التي عكفنا على كتابتها السلاطين الطرب لنعيد قراءة سطر الإبداع من بدايتها لمعرفة أسباب انحراف الحرف عن السطر.
