تميز كلًّا من معبد «إدفو» ومعبد «دندرة» عن بقية معابد العصر الفرعوني بأنهما محفوظان بدرجة كبيرة نسبيًّا، كما يمتاز معبد «إدفو» بطبيعة نقوشه الكثيرة والرسوم والمناظر التي تغطي جدرانه، وتمتاز المتون التي على جدران هذين المعبدين بأنها مطوَّلة، وتغطي جدران حجراتهما تمامًا.
ومما يلفت النظر، وفق ما ذكر الأثري الكبير الراحل سليم حسن في موسوعته "مصر القديمة" أنه قد ذُكِر على جدران كل حجرة أو قاعة أو دهليز من مباني هذين المعبدين الاسم المميز لها بصورة واضحة. كما ذُكِر الغرض الذي خصصت له هذه الحجرة أو القاعة، يضاف إلى ذلك أنه قد نُقِش، فضلًا عن ذلك، ما في هذه الحجرات أو القاعات من زينة كما حُدِّدت كذلك مساحتها.
وتحتوي كل حجرة أو قاعة في العادة على متون إضافية نُقِشت على جدرانها كُرِّر فيها ذكر اسمها، هذا فضلًا عن أن هذه المتون تقدم لنا معلومات وافية عن الغرض الذي من أجلها أُقِيمت، وقد عُنِي الكهنة بوضع إيضاحات عدة حتى للزائر المعتاد الذي يعرف أسرار اللغة المصرية القديمة؛ من ذلك أن اسم كل باب قد نُقِش عليه، كما نقشت كذلك على كل باب متونٌ توضح في أي وقت كان يُستَعمل، ولأي غرض أُقِيم، ولدينا فضلًا عن ذلك سلسلة متون تشرح لنا الأعياد التي كان يُحفَل بها في المعبد في كل سنة، كما تذكر لنا تاريخ الأحفال الخاصة بكل عيد، وعدد أيام الاحتفال به، وأحيانًا تقدم لنا هذه النقوش ملخصًا عن الأحفال التي كانت تُقام في المعبد.
يقول: هذا الكنز العظيم من الوثائق الموضحة والمفسرة في أغلب الأحيان بمناظر محفوظة لنا حتى الآن حفظًا جيدًا إلى حدٍّ بعيد نسبيًّا إذا ما قرنت بمتون معابد أخرى؛ يساعدنا على أن نصف ماهية كل جزء من أجزاء المعبد من أصغر مقصورة فيه إلى أكبر قاعة أو ردهة، وكذلك ما فيه من نافورات المياه إلى البوابات والمسلات الشاهقة.
تضيف الموسوعة: ليس من العسير علينا بما لدينا من نقوش أن نعيد تأثيث بعض حجرات المعبد، وإعدادها كما كانت عليه، كما أنه من المستطاع أن نحدد كيف وأين كانت تُجهَّز القرابين التي كانت تقدَّم في المعبد في الأيام العادية وفي الأعياد، كما يمكن كذلك تحديد الأبواب التي كان يدخل منها الناس والكهنة إلى المعبد، وكذلك يمكن تعقُّب ترتيب الشعائر والطرق التي كانت تسير فيها المواكب العظيمة الإلهية، وأخيرًا يمكن معرفة ماذا كان مصير القرابين الضخمة التي كانت تُقدَّم في المعبد بعد انتهاء إقامة الشعائر والاحتفال بالأعياد.
كان معبد «إدفو» قد وضع أساسه «بطليموس الثالث»، الذي كان مهتمًّا بالديانة المصرية إلى حدٍّ بعيد، وقد أُقِيم في مدة قصيرة من الزمن إذا ما قُرِن بغيره من المعابد الأخرى. وظل سليما طيلة آلاف السنين، بينما لم تمتد إليه يد التخريب بصورة بينة في خلال الألفي سنة التي مضت على اليوم الذي وضع فيه أساسه.
وتشير الموسوعة إلى أن المعبد الأصلي لا يزال سليمًا "فسقفه لم يُمَسَّ بسوء، وأعمدته لا تزال قائمة في أماكنها، أما المسلتان اللتان كانتا منصوبتين أمامه عند المدخل كما هي العادة في كل المعابد المصرية الكبيرة، وكذلك بعض المقصورات التي كانت مقامة على سطحه فإنها اختفت، في حين أن البحيرة المقدسة التي كانت تُحفَر في كل معبد، وكذلك مخازن المعبد ومذابحه والمباني الأخرى الخاصة بالإدارة، فإن جيمع ذلك لا يزال مدفونًا تمامًا تحت منازل إدفو الحديثة الواقعة شرقي المعبد".
ولما كان عهد البطالمة يعدُّ في نظر الكهنة المصريين عهدًا فرعونيًّا خالصًا، وأن الاستعمار الإغريقي لم يكن له أي تأثير على عبادتهم، بل على العكس قد أثرت المعتقدات المصرية في العقائد الإغريقية، فإن ما نقشه هؤلاء الكهنة على جدران هذا المعبد وغيره من معابد القطر في عصر البطالمة يُعدُّ صورةً طبق الأصل من الشعائر والمعتقدات المصرية التي تضرب بأعراقها إلى أقدم العهود الفرعونية.
وتدل نقوش معبد «إدفو» على أنه كان قد أُهدِي للإله «حور بحدتي»، وهو صقر مقدس يمثَّل عادة في صورة إنسان برأس صقر، ويحتوي معبد «إدفو» على تمثال لهذا الإله بهذه الصورة، كما يحتوي على تماثيل تصوره في صورة صقر وحسب. كما كان يُوجَد بجوار المعبد محراب للصقر المقدس يسكن فيه ويحكم لمدة سنة، وهذا الصقر كان طائرًا حيًّا يُنتَخب سنويًّا ويتوَّج، وكان يوم انتخابه وتتويجه يُعَد عيدًا من أعظم الأعياد السنوية.
وقد تم بناء المعبد على ثلاث مراحل؛ الأولى: مرحلة المبنى الأصلي، وهي نواة المعبد، وتُعَد بذاتها معبدًا كاملًا، وتشمل قاعة عمد، وقاعتين أخريين، ومحراب، وعدة حجرات جانبية، وقد بدأ «بطليموس» الثالث بناءه في عام 237 ق.م وبعد مضي ٢٥ عامًا كان قد تمَّ البناء الرئيسي، وقد وُضِع آخر حجر في بنائه في 17 أغسطس سنة 212 ق.م.
أما تزيين الجدران بالمناظر والنقوش فقد أُنجِزت في ست سنوات، وانتهى العمل منها في عام 207 ق.م وفي نفس السنة تم تركيب الباب الكبير في مكانه. لكن،قامت ثورة في الوجه القبلي لم تخمد نارها إلا في السنة التاسعة عشرة من حكم «بطليموس الخامس». وعندما عادت السكينة إلى البلاد استمر العمل في المعبد، وفي 176ق.م -السنة الخامسة من عهد «بطليموس السابع»- تم تركيب أبواب المعبد، ولوازم أخرى في أماكنها. أما تلوين المناظر، والنقوش، وتزيين بعض الجدران بصفائح من الذهب، وتأثيث المعبد فقد تمَّ في السنين القليلة التي تلت ذلك.
ثقافة
معابد مصر| معبد «إدفو».. هدية إلى الصقر
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق