قال فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: "إنه أصبح ضروريًّا أن نسلط الضوء على الحضارة الإسلامية وعلى السلوك الحضاري الإسلامي في الوقت الذي يأبى بعض المسلمين إلَّا أن يختزل الإسلام في بعض المظاهر أو الشعارات، ويأبى بعض مَن يجهلون حقيقة الإسلام وجوهره إلَّا أن يظهر الإسلام بصورة عدوانية دموية بشعة مشوهة لا تمتُّ إلى واقع الإسلام وحقيقته بِصلة".
وأضاف فضيلته أن الإسلام هو دين الرحمة وعندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف الحبيب صلى الله عليه وسلم بوصف واحد جامع مانع بأسلوب الحصر والقصر قال فيه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي الرحمة ونبي المرحمة.
جاء ذلك في كلمته التي ألقاها باسم الضيوف خلال فعاليات المؤتمر الدولي الذي ينظمه المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر في مدينة "وهران" تحت رعاية الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في الفترة من ٢٥ إلى ٢٧ فبراير الجاري، بعنوان "السلوك الحضاري.. وعي، فعل وتعايش".
وأوضح فضيلة المفتي أن الحضارة الإسلامية قد تميَّزت عبر التاريخ بالإسهامات العلمية الهامة التي أشادت واعترفت بها جميع الأمم والشعوب، بيد أننا لا بد أن ندرك أن أهم ما قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية هو القيم والأخلاق السامية النابعة من القرآن الكريم ومن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه.
واستشهد فضيلته بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»، وحينما طُلب منه أن يدعو على المشركين الذين آذوه وهو وأصحابه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بُعثت رحمةً ولم أُبعث عذابًا».
وأشار فضيلة المفتي إلى أنَّ بعض الناس قد يستهين بضرورة القيم والأخلاق والسلوك بالنسبة إلى الحضارة ويعطيها أهمية تالية على المنتج الحضاري العلمي والمادي، ويقول: وما أهمية القيم والأخلاق والسلوك من الرحمة والعدل والصدق والأمانة والتعاون... إلخ، في عالم التقدم التقني والمادي، وفي عالم تتسابق فيه الدول والشعوب لتحقيق أكبر قدر من هذه المنجزات المادية التي تخدم الإنسانية في كافة المجالات؟!.
وأجاب المفتي بقوله: "إن الحضارة الإنسانية إذا تجردت عن السلوك القويم والقيم الأخلاقية وحصرت مقاصدها وغاياتها في المنتج المادي فقط، فإنها مهما اتسمت بالبريق واللمعان الخارجي الذي يخطف العقول والأبصار، تصبح -بلا ريب- وبالًا على أصحابها وعلى البشرية جميعًا إذا ما تجرَّدت عن القيم والأخلاق".
وأفاد بأن المفكِّر الإسلامي مالك بن نبي قد أطلق مصطلحًا مهمًّا وخطيرًا يلخص معاناة الحضارة التي تتجرد عن القيم والأخلاق وهو (شيئية الحضارة) حيث تصبح الحضارة عبارة عن تكديس وجمع هذه المنتجات بلا هدف ولا قيمة ولا غاية إلا الاستهلاك، ذكر ذلك في كتابه القيِّم (مشكلات الحضارة - شروط الحضارة).
كما أشار إلى أنَّ المفكِّر الإسلامي الفرنسي رينيه جينو عبد الواحد يحيى قد حذر كذلك في كتابه (أزمة العالم الحديث) من الانهيار الروحي للحضارة الغربية، حيث إن كل حضارة تتجرد من القيم الروحية والأخلاقية وإن بدت في الظاهر قوية براقة إلا أنها تحمل عوامل هدمها وانهيارها وتآكلها في داخلها ومن ذاتها، وإلى نفس المعنى أشار المفكر الألماني أرنولد شبينجلر في كتابه (انهيار الحضارة الغربية).
وأوضح أيضا أن ابن خلدون قد أسَّس في مقدمة كتابه التاريخ لنظرية متكاملة في البناء الحضاري والعمراني، وقد بين في المقدمة أن الحضارة والعمران يتأثران سلبًا بالأمراض الاجتماعية الفتاكة مثل انتشار النزاع والقتل واختلاط الأنساب وكل هذه الأمراض مؤذنة بخراب العمران مؤدية لفساد النوع وأنه لا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدلُ هو الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الله تبارك وتعالى وجعله قيمًا للملك والعمران، ولذلك راعت الشريعة الإسلامية في كافة أحكامها الجزئية ومقاصدها الكلية العليا المحافظة على الدين والنفس والمال والنسل والعرض، وهو ما يسهم في استمرار البناء الحضاري المبني على القيم والأخلاق لا على الاستهلاك والتكديس أو التشيؤ كما عبَّر مالك بن نبي رحمه الله تعالى.
ولفت إلى أن الحضارة الإسلامية وإن توارت بعض الشيء بالمعنى المادي فإن الأساس القيمي والخلقي الذي قامت عليه لا زال باقيًا إلى يومنا هذا، ويصلح لإعادة بناء الحضارة عليه وبعثها حية نابضة من جديد، فإذا أردنا أن نحيي الحضارة فلنحي أولًا في شعوبنا القيم الروحية والأخلاق المحمدية والنموذج المعرفي الإسلامي الذي يجعل نفع الإنسان وصلاحه غاية الحضارة والبناء.
وتوجَّه فضيلة المفتي في ختام كلمته إلى المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر بكل الشكر لعقد هذا المؤتمر المهم، متوجهًا بالدعاء إلى الله تعالى أن يوفق السادة العلماء والباحثين المشاركين في جلسات هذا المؤتمر إلى تقديم كل ما ينفع الأمة الإسلامية ويسهم في التأسيس لنظرية شاملة عامة في السلوك الحضاري الإسلامي تصلح للتطبيق على أرض الواقع كي تصبح الأمة الإسلامية بقيمها وأخلاقها شريكًا حضاريًّا إنسانيًّا نافعًا بإذن الله.