"محمود أمين العالم" كافيًا أن نذكر هذا الاسم لنعرف أننا بصدد مغامرة فكرية كبرى تجلت على قطعة من تاريخ مصر الفكرى والأدبى والنقدى الحديث، ولعل النقاش حول كتاب "فى الثقافة المصرية" سيحدد وجهتنا إلى معركة كان لها أصداء عالية فى الساحة الثقافية، بدأت فى النصف الأول من القرن المنصرم، اشتبك فيها كاتبنا مع صديقه الدكتورعبد العظيم أنيس مع أبرز الأسماء التى نسجت خيوط الفكر المصرى وبالضرورة العربى الحديث، آنذاك، على منوالها الفكري، وهما عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وصاحب العبقريات عباس محمود العقاد، وتأججت منذ إصدار كتاب "فى الثقافة المصرية" سنة 1955 عن دار الفكر الجديد فى بيروت، وكان من تقديم الناقد حسين مروة، وكانت الصحافة تشتعل بمقالات كل الأطراف، ومازال السجال قائما ولكن فى الدوائر الثقافية.
وينبغى هنا ملاحظة أمرين الأول هو تأثير ما كان يحدث فى الأوساط الثقافية على الشارع المصرى / العربي، وهى ملاحظة جديرة بالتأمل إذ ما قورنت باللحظة الآنية التى من الجائز الحكم عليها بأنها منغلقة على ذاتها بمعنى أنها لحظة ثقافية خاملة، ولا يمكن مقارنتها بالأمس القريب، والملاحظة الثانية هى موقف "العقاد" و"حسين" من مقالات "العالم" و"أنيس" ذلك لأنهم قادة فكر ورأي، ومن المفترض تقبل الآخر أو على أقل تقدير مناقشته، لكن ما سنعرفه الآن عن استقبالهما للمادة التى احتوت الكتاب شيء آخر وجدير بالتأمل هو الآخر.
والكتاب فى صورته الأولية عبارة عن مقالات متفرقة نشرت فى مجلة "الثقافة الوطنية"، والتى كان يشرف عليها الناقد اللبنانى محمد دكروب، وهو الذى قام أيضًا بالإشراف على طبع الكتاب فيما بعد.
كان "محمود أمين العالم" فى الثلاثينات من عمره باحثا فى قسم الفلسفة، وحاصل على درجة الماجستير فى أطروحة بعنوان "فلسفة المصادفة"، وكان على وشك الانتهاء من إعداد رسالة الدكتوراه فى "فلسفة القيم"، وكان رفيقه "عبد العظيم أنيس" متخصصا فى الرياضيات البحتة، وحاصلا على درجة الدكتوراه من جامعة بريطانية كبرى، وكلاهما كانا يدينان بمرجعيتهما الفكرية والأيديولوجية لأدبيات الفكر الماركسي، وينطلقان فى معالجاتهما النقدية ومفاهيمهما النظرية من أسس نظرية "الانعكاس الماركسية"، وعلى أثر ذلك تم طردهما من الجامعة المصرية فى أعقاب ما يطلق عليه الأزمة الديمقراطية الأولى فى مارس سنة 1954، وتم اعتقال "العالم" 1958 حتى عام 1964، و"أنيس" اعتقل هو الآخرسنة 1959 وحتى عام 1964، وظل هذان المثقفان العضويان صديقين حتى رحيلهما عن الحياة.
تبنت مقالات الكتاب توجها نظريا مغايرا، لما كان سائدا من قبل على طاولة الفكر والنقد، فضلا على صك اصطلاحات ومفاهيم، لم تكن متداولة على نطاق واسع فى تحليل الأعمال الأدبية (رواية، شعر، مسرح..)، ومن ثم نقدها بأسلوب مغاير، ضمن هذه المصطلحات جاءت "البرجوازية الصغيرة والمتوسطة"، وثنائية "الشكل والمضمون"، و"الانعكاس الآلى الميكانيكي"، و"الانعكاس الحركى الجدلي"، و"التحليل الجمالى الشكلي".. إلخ
وبلا شك كانت هذه المصطلحات، وما تشير إليه من أبعاد مغايرة فى نقد النص، وبالتالى مغايرة فى تحليله كان ذلك سببا قويا فى نشوب المعارك التى بطبيعة الأجواء أدت إلى هزات كبيرة وجدلا واسعا فى الساحة الأدبية والنقدية ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى أيضا.
اعتمد الكاتبان فى نقدهما على "الواقعية الاشتراكية" وما تحتويه من علاقة المثقف بالمجتمع، فضلا عن النظر للنص عبر عدسة "قضية الالتزام" بقضايا المجتمع والطبقات الفقيرة والمهمشة، وبهذه الآليات انشطر الأدب بين أدب رجعى وأدب تقدمي.
ترتب على هذه الهزة العنيفة تشكيل تيار ثقافى حقيقى لافت للنظر، ومبهر فى أدواته، وبدأ بالفعل يجذب أنصارا له لتلقى النقد الماركسي، وفهم أصول نظرية "الانعكاس".
واجه المغامران "العالم و"أنيس" سيلًا من الاتهامات والنقد اللاذع بالشيوعية والإلحاد والمادية بل والسذاجة أيضا، فكيف يتجرأ شابان شيوعيان على شيوخ الأدب المصري؟ وعلى المفاهيم السائدة، والتى كان قد أكدها هؤلاء على أنها مبادئ ثابتة فى عالم الفكر النقد الأدبي؟.
بداية المعركة
بدأ الاشتباك الفكرى بين "طه"، "العقاد"، حينما كتب الأول مقالًا بجريدة الجمهورية عام 1954، ناقش فيه قضية "منهج الدراسة النقدية"، واختلف معه الثانى حتى تحول الأمر إلى نقاشات حادة بينهما.
حينها تدخل "العالم" و"أنيس" فى النقاش، وطرحا وجهتى نظرهما المختلفة تماما فى القضية المثارة، إلا أن "العقاد" واجهما بالرفض، قائلًا: "لن أناقش الشيوعيين"، وتحدث "العالم" عن تلك المعركة فى حوار له نشر على صفحات جريدة الوفد فى يوليو 1999، حيث قال: "المناقشة دارت وقتها حول منهج الدراسة النقدية، وكتب طه حسين مقالًا بعنوان (الأدب بين الألفاظ والمعاني)، فرددت عليه رفقة عبدالعظيم أنيس بمقال نشر بجريدة المصرى يخالف رؤيته".
وتابع: "كتبنا المقالين لنوضح أن الأدب ليس ألفاظًا ومعانى إنما صياغة ومضمون أو شكل، ثم تدخل "العقاد" وتضخمت الأزمة واتسعت إلى سجالات فى دول الوطن العربى حول "منهج النقد الأدبي.
ولفت "العالم" فى حواره لجريدة "الأحرار" من نفس السنة 1999، إلى أن كتاباته كان يغلب عليها الطابع الأدبى والأيديولوجي، أما رفيقه "أنيس" فكتب سلسلة من المقالات يرد فيها على "طه حسين" الذى كان يكتب لجريدة "الجمهورية" الناطقة بلسان ثورة ٢٣ يوليو، حيث اعتبر مقالاته حربًا مستترة ضد الثورة، وعندما تطرقا لـ"العقاد" رد الأخير عليهما بتعالٍ.
وواصل: "بعد الهجوم على طه حسين، صدر قرار من الجامعة بفصلنا مع أكثر من سبعة وثلاثين أستاذًا آخرين، كنت أنا ولويس عوض من قسم الإنجليزي، وعبدالعظيم أنيس من كلية العلوم من بين المفصولين".
سؤال جوهري
يطرح الناقد حسين مروة فى مقدمته للكتاب سؤالا جوهريا ألا وهو "لماذا جعل المؤلفان هذا الكتاب "فى الثقافة المصرية" لا فى الثقافة العربية بوجه عام؟ مجيبا: بأن ثقافة تلك البلدان العربية تتقارب وتتفاعل فى معظم الخطوط الهامة الكبرى من أوضاعها كمصر وسورية ولبنان والعراق والأردن.
موضحا: وما يدل على هذا، أن واضعى هذه الدراسات، إنما وضعاها وهما يخوضان معركة فكرية هى معركتنا نحن الآن هنا فى لبنان، وحتى بلدان المغرب العربى فى الجانب البعيد، نعنى بها هذه المعركة الأزلية الأبدية بين كل جديد وكل قديم، بين ثقافة تنعكس فيها آراء وأفكار ومفاهيم وقيم، لكي تنقل هذا المجتمع إلى دور تاريخى جديد، ثم لكى ترفع هذا المجتمع إلى منزلة أرحب وفضاء أوسع وإنسانية أسمى وحياة أجمل وأفضل.
مضيفا: ومعنى هذا أنك لو جعلت عنوان هذا الكتاب "فى الثقافة العربية" ما خرجت عن موضوعه، إلا من حيث يعنى بأوضاع مصرية تنبثق من حياة المصريين فى بيئتهم الاجتماعية الخاصة، ومن حيث أيضا الأمثلة التى تدور عليها دراسات الكتاب، فإن هذه مصرية خالصة، ولكنها هى أيضا تعكس وجوها شتى من التقارب بين ثقافة عربية فى مصر وثقافة عربية فى غير مصر من ديار العروبة، كما تعكس وجها آخر أظهر دلالة على وحدة المعركة التى يخضونها الكاتبان.
وفى موضع آخر قال "مروة" عن منهجية الدراسات: إنها أقيمت على أسس علمية وموضوعية تصلح أن تكون مقياسا دقيقا لكل محاولة من هذا القبيل لنقد الثقافة فى أى بلد عربي، وليس استناد النقد فى هذه الدراسات إلى أسس موضوعية، يعنى إلغاء الأثر الشخصى فى تكوين الصيغ الثقافية، من أدب وفن وأفكار ونظريات وقيم فكرية واجتماعية، بل ذلك يعني، كما قرر المؤلفان أن "الثقافة" كتعبير فكرى أو أدبى أو فنى أو كطريقة خاصة للحياة، إنما هى فى الحقيقة انعكاس للعمل الاجتماعى الذى يبذله شعب من الشعوب بكافة فئاته وطوائفه، ومظهر لما يتضمنه هذا العمل الاجتماعى من علاقات متشابكة، وجهود مبذولة واتجاهات.
أين نحن من الكتاب؟
يجيب الكاتبان "العالم" ورفيقه "أنيس" عن هذا التساؤل بتعريفهما للكتاب قائلين: إن هذا الكتاب ليس كتابنا وحدنا، إنما هو الابن الشرعى لمرحلة حية من مراحل الغليان والتحول فى لإبداع الأدبى والفكرى خلال سنوات الأربعينيات وبداية الخمسينيات، والغريب أنه أخذ صيغته هذه على لم يكن مقصودا به أن يكون كتابا" وهنا يقصد أن الوضع تفاقم بعد نشر د.طه حسين مقالا بعنوان "صورة الأدب ومادته" كان يعتبر فيه "طه" أن اللغة هى صورة الأدب وأن المعانى هى مادته، ومن ثم الرد عليه من الكاتبين بحزمة من المقالات المختلفة لهذه الرؤية، ومن هنا جاءت فكرة إصدار الكتاب.
مأساة الزمن عند توفيق الحكيم
يلمح "العالم" أنه موضوع قديم، لكنه متجددا أبدا، تمت إثارته سنة 1933، دون أن يجعلوا من إشكالية الزمن عند توفيق الحكيم معركة جادة تكشف عن مقوماتنا الثقافية، بل اكتفوا باللمسة الرهيفة والهمسة المشفقة والأسلوب الرتيب، حينما تعرضوا بالنقد لمسرحيته ـ أى الحكيم ـ "أهل الكهف" لكنها فى تقدير "العالم" جوهر المأساة المصرية.
جاء فى نص الكتاب: عندما كتب توفيق الحكيم "أهل الكهف" لم يكن يقصد من ورائها صياغة قصة قديمة بكلمات جديدة، بل كان يرمى فى المحل الأول إلى كتابة مأساة مصرية على أساس مصري، كان يرى ـ وكما يرى كثيرون غيره ـ أن المأساة اليونانية إنما تقوم على أساس الصراع بين الإنسان والقدر، وكان يرى أن المأساة المصرية على خلاف ذلك، إنما تقوم على الصراع بين الإنسان والزمن، وبهذا الوعى بواقعه القومى وأساسه الفاجع كتب "الحكيم" أهل الكهف "مأساة مصرية".
وفى فقرة أخرى تناول "العالم" نقد مسرحية "أهل الكهف" قائلا: هى مصرية المأساة بلا شك، ولكنها مصر المهزومة الخانعة المكبوتة، الخاضعة لسيطرة ملوكها المفروضين، مصر التى نعرفها من أساطير كهنة الفراعنة، لا مصر الشعب ولا مصر الكفاح.
إن أبطال أهل الكهف عاشوا قبل الكهف فى معركة المسيحية الأولى، كافحوا فى معركة تثبيتها ونشرها، ولكنهم عندما استيقظوا وخرجوا من الكهف، أفقدهم "توفيق الحكيم" كل ارتباطاتهم الحية بواقعهم الإنسانى الكبير، لم تكن الحياة بواقعهم الإنسانى الكبير، لم تكن الحياة عندهم عملية وجهدا ومشاركة، لم تكن "طريقا للرب" كما علمهم يوحنا، بل كانت "غنما يرعى الكلأ"، و"وزوجة وابنا" و"عشيقة". فلما لم يعثروا عليهم أحسوا بالزمن / بالعدم / بالكهف. لم يثر ـ أى حكيم ـ سؤال واحد بينهم بعد خروجهم من الكهف حول معركة بناء المسيح فى طرطوس، أم استكملت أم لم تستكمل؟ لم يبرز تساؤل جاد عن حقيقة الحياة الجديدة كعملية أو كواقع متفاعل أو كبناء مشترك أو كعلاقات قوى، بل كانت الحياة عندهم علاقة ذات طرف واحد.
كانت حياتهم "أى فى المسرحية" الجديدة ضيقة للغاية بحدود رغباتهم المحدودة، لم تكن عملية حية بحق، فيه استقطاب وجمود، ولهذا كان الزمن ـ الذى هو فى الحقيقة عملية موضوعية خلاقة ـ فى هذه المسرحية حدا للعلاقة الشخصية، ومن أجل هذا يعد عدما / موتا / وكهفا مصمتا، لذلك يعد مقابلا ونقيضا للحياة.
ولكن مصر عندما أخرج توفيق الحكيم هؤلاء الثلاثة من كهفهم كانت تغلى بأمور أخرى، كان ذلك سنة 1933، ولو سبقنا هذا التاريخ بقليل لنضع فى حسابنا الفترة التى أنضج فيها "الحكيم" هذه المسرحية قبل أن يخرجها للناس، لما تغير واقعها المصرى فى شيء، كانت مصر تعيش آنذاك فى لحظات رهيبة حقا من تاريخها القومي، كانت الحريات مكبوتة، والدستور ملغى والسجون مكتظة.
حصاد المعركة
يحكيها "العالم"حينا نتساءل: ماحصدناه من معركة النقد التى ثارت بين الدكتور طه حسين والعقاد وبيننا، نتبين أنها انحرفت عن اتجاهها الموضوعى الأصيل.
قلنا إن العمل الأدبى صياغة ومضمون، وأن الصياغة عملية نامية فى داخل العمل الأدبى لإبراز المضمون وتشكيله، وأن المضمون أحداث متطورة، كذلك داخل العمل الأدبي، وأن الصياغة والمضمون عمليتان متفاعتان ومتداخلتان، وأن مضمون الأدب يعكس مواقف ووقائع اجتماعية.
قلنا هذا فماذا حدث؟ لم يلبث العقاد أن رد علينا، فدار حول نفسه ثم دار حول نفسه ثم أسلمنا إلى أقرب "نقطة بوليس"، وعندما صرخ فينا، "لقد قلت أن القصيدة بنية حية منذ أربعين سنة أى قبل أن تولدوا يا أدعياء التجديد" قلنا له فى هدوء وبساطة " حقا لقد قلت ذلك، ما فى هذا ريب، لكنك لم تفهم فى البنية الحية غير وحدة المعنى ووحدة الموضوع ووحدة العنوان، لا الوحدة العضوية للعمل الأدبي" وسارع العقاد فى الرد علينا مرة أخرى فدار حول نفسه ثم دار حول نفسه وسلمنا مرة أخرى لأقرب نقطة بوليس ويبدو أن الأمر سيبدأ دائما هكذا عند العقاد، وينتهى دائما هكذا للأسف.
أما الدكتور طه حسين فتبين أن حديثنا عن العلاقة بين المضمون والصياغة "يونانى لا يُقرأ" على حد تعبيره، أما قلنا بأن مضمون الأدب يعكس وقائع ومواقف اجتماعية، ففهم بعضه فى عناء، على حد تعبيره كذلك، فسارع إلى نقده نقدا بخرجه عن مضمونه الحقيقي.
وهكذا انحرفت معركة النقد من اتجاهها الموضوعى الأصيل، ولم يكن لها نتاج فكرى عميق.