تحمست جدًا، حينما علمت بأننى سأقيم حوارًا صحفيًا معها، هى ابنته الوحيدة وصديقته المقربة، وهى شاهدة على جزء مهم من تاريخ مصر الفكرى، رأت بعينها وسمعت ومارست حياتها كلها فى رحابه، كما أنها تفاعلت مع عالم المفكر الكبير محمود أمين العالم، تفاعلا غالبا ما شكل لها عالمها الخاص.
سيرته مفعمة بالمعارك الثقافية منذ النصف الأول من القرن المنصرم ـ ومازالت محل سجال ونقاش ـ كان مخلصا جدا لأفكاره وعنيدا إلى أبعد حد، بالمعنى الذى يتسع ليشمل مواقفه التى أودت به إلى السجن، ودفعته دفعا نحو صراع ثقافى مع الشيوخ الكبار الدكتور طه حسين وصاحب العبقريات عباس محمود العقاد وآخرين.
وأكثر من ذلك، لم تكن حياة المفكر محمود أمين العالم من خصائصها الاستقرار أو قرينه على المستوى الفكرى، وهذا متاح أن نطلع عليه بضغطة زر على مواقع البحث، ما كان يشغل تفكيرى هو ما هى كواليس معاركه الفكرية وماذا كانت ردة فعله فى قضية الخيانة العظمى؟ ومن هو محمود أمين العالم، الإنسان؟ ما هى طقوسه؟ ماذا كان يحب؟ وماذا كان يكره؟ من كان يتردد على منزله؟ ما هو رأيه فى المرأة، فى الفن، فى الرياضة؟ وكيف التقى سجانه؟
استقبلتنى الدكتورة شهرت العالم فى مقهى نقابة الفنون التشكيلية بمنتهى الكرم واحتسينا القهوة وكان معها هذا الحوار..
■ أشهر معارك المفكر محمود أمين العالم كانت مع الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد.. ما هى أجواء هذه المعركة؟ ماذا كان يدور فى الخلفية من أحداث؟ وما كان الواقع النفسى على مفكرنا؟ كيف كان يعيش هذه المرحلة من حياته؟ وهل تدخلت شخصيات أخرى فى هذا الصراع لإنهائه، ومن هم؟
-المعركة مع طه حسين وعباس العقاد كانت فى كتاب مشترك كتبه هو وصديقه الحميم الدكتور عبد العظيم أنيس بعنوان «فى الثقافة المصرية» صدر عام 1955 عن دار الفكر الجديد بالقاهرة، ثم صدرت عنه عدة طبعات آخرها عام 2017 فى الجزء الأول من المجلد الرابع «الأعمال النقدية»، من الأعمال الكاملة التى صدرت عن الهيئة المصرية للكتاب.
لم يكتب المؤلفان مقدمة للطبعة الأولى، وإنما كتبا مقدمة فى طبعة عام 1989 الصادرة عن دار الثقافة الجديدة فى القاهرة، جاءت المقدمة بعنوان «مقدمة جديدة: هذا الكتاب.. أين نحن منه اليوم، وأين هو منا!»، أى أنهما كتبا المقدمة بعد 34 سنة من صدور الكتاب للمرة الأولى.
يقولان: «إنها ليست مقدمة بقدر ما هى تعقيب وإن جاء فى مقدمة الكتاب. ذلك أنها حصيلة خبرة هذا الكتاب فى حياه الأدب العربى، إبداعا ونقدا، وهى حصيلتنا من هذه الخبرة».
■ هل تمتلكين مخطوطات للمفكر محمود أمين العالم؟ وإن وجدت.. ماذا تحوى؟ وهل هناك كتب تحت الطبع؟ هل تفكرى فى إعادة نشر أعمال المفكر؟ هل هناك تعاقدات مع دور نشر؟ وهل هناك مشروع لترجمة أعماله؟
- توجد مقالات متناثرة فى العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، وتوجد مخطوطات، وتحتاج جميعها إلى الفرز، لكن تركيزى منصب على إعادة طبع كتبه التى صدرت بالفعل، ثم انتقل بعدها إلى مرحلة فرز باقى الأشياء وتصنيفها ثم نشر ما لم يسبق نشره فى كتبه، وبدأت فى نشر أعماله الكاملة مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، وصدرت بالفعل 7 مجلدات، والمجلد الثامن تحت الطبع.
وأرغب بالطبع فى ترجمة بعض أعماله، لكن هذا المشروع مؤجل الآن، وإنما تجدر الإشارة إلى وجود ترجمة إلى الروسية لكتابه «معارك فكرية»، صدرت عن دار التقدم فى موسكو عام 1974 قام بها المستشرق الروسى ساجادييف.
■ كم من الوقت عاشه كاتبنا فى باريس؟ وما هى الكتب التى كتبها هناك؟ هل تعاون مع أحد المؤسسات أو الأفراد على مشروع ولم يكتمل؟
- ألقى القبض عليه فى القضية المعروفة باسم «مراكز القوى»، واتهم بالخيانة العظمى، وحكى لى أنه بدأ يعد فى زنزانته كلمته الأخيرة قبل إعدامه كما كان يتصور، لكنه فوجئ بباب زنزانته يفتح وتعاد له ملابسه، ويجد نفسه خارج معتقل القلعة، ليركب تكسيا إلى منزله.
فى اليوم التالى للإفراج عنه، حقق معه محقق من وزارة الثقافة فى أسباب تغيبه عن العمل بدون إذن كمسئول عن مؤسسة المسرح!، وضحكنا كثيرا لأنه كان وقتها فى السجن، على أية حال، تمت إحالته إلى المعاش.
سافر بعد سنة من منعه من السفر إلى إنجلترا، بناء على دعوة من كلية سان أنطونى فى أكسفورد للمشاركة فى سمينارات ومحاضرات حول الفكر العربى المعاصر.
ثم اتصل به صديقه الأستاذ جاك بيراك واقترح عليه المجيء إلى باريس، وفعلا ذهب إلى باريس ليعين فى جامعة باريس 8، أستاذا للفكر العربى. وظل بها منذ 1973 حتى عام 1984.
■ حدثينا عن تجربة إصدار المجلات والدوريات الثقافية؟
- تفرغ فور عودته لإصدار كتاب غير دورى بعنوان «قضايا فكرية»، صدر من 21 عددا فى موضوعات فكرية مختلفة، وكان كل عدد يخصص لموضوع واحد، بحيث يتناول العدد كافة جوانب الموضوع، العدد الأول صدر عام والعدد الأخير صدر فى عام 2005، وكان يساهم فى أنشطة وندوات ومؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة، وكان متحدثا فى أغلبها، كما اختير مقررا للجنة الفلسفة فى المجلس الأعلى للثقافة، وأصدرت اللجنة تحت إشرافة مجلة متخصصة فى الفلسفة «الفلسفة والعصر»، صدر عددها الأول عام 1999 والخامس والأخير عام 2006.
■ ما هى الكتب التى كان ينوى كتابتها؟
- كان يحلم بإصدار طبعة جديدة من كتابه «فلسفة المصادفة»، كان يقول إن مادة الكتاب العلمية كانت تقف عند حدود فترة كتابتها، والعلم تتطور، ولذا كان يود إصدار طبعة ثانية حديثة.
كما كان يود إصدار كتاب يحكى تجربة سجنه الأولى، بعنوان «اصطياد الإنسان»، وبدأ فى الكتابة بالفعل ونشر ما كتبه فى مجلة فصول، المجلد 11، العدد 3، خريف 1992.
■ هل كتب المفكر محمود أمين العالم عن نفسه؟
- فى كتاب الهلال، التكوين – سلسلة حياة المفكرين والأدباء الفنانين.. بأقلامهم، فبراير 1998، وهو كتب بعنوان «بداياتى اتسمت بالتمرد والتساؤل والقلق».
فى كتاب «من تاريخ الحركة الشيوعية فى مصر: شهادات ورؤى»، الجزء الخامس، صادر عن مركز البحوث العربية، تقديم عاصم الدسوقى، 2001
■ هل أوصى بشىء آخر غير إهداء كتبه لدار الكتب ولم تستطع العائلة تنفيذها؟
- لم يوصِ بأى شىء آخر، لكننى أود أن أحكى لماذا أوصى بإهداء كتبه لدار الكتب، أخبرنى فى فترة أحس فيها بأن النهاية تقترب، أنه كان يحب القراءة جدا منذ الطفولة، لكن أسرته لم تكن تستطيع تحمل تكلفة شراء الكتب.
ولذلك كان يقرأ فى دار الكتب وكون ثقافته الأولى من هذه القراءات، وبالتالى أوصى بإهداء مكتبته لدار الكتب حتى يتمكن من يحب القراءة ولا يستطيع شراء الكتب من القراءة.
وقد تسلمت دار الكتب بالفعل حوالى 13 ألف كتاب باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية فى جميع مجالات العلم والمعرفة والثقافة، وكان قبلها بعدة سنوات قد أهدى جزءا من مكتبته إلى مكتبة الإسكندرية، لكن الجزء الأكبر تسلمته دار الكتب.
■ بماذا كان يحلم؟
- كان يحلم بعالم عادل يسوده الحب والمساواة بين البشر، وهنا يحضرنى الشعار الذى اختاره لمجلة قضايا فكرية التى كان يصدرها: «من أجل تأصيل العقلانية والديمقراطية والإبداع».
كما يحضرنى أيضا حلمه الشخصى الذى تلخصه فقرة فى مقال بعنوان «صلاة البداية والنهاية» فى كتابه: «من نقد الحاضر إلى إبداع المستقبل»: «اللهم هبنى أن أعرف، أن أعبر، أن أعمل، أن أبدع، هبنى القدرة على أن أحسن النهاية التى تصنع البدايات للآخرين، وأن أحسن البداية التى لا تنتهى بنهايتى».
■ كيف كانت طقوس الدكتور محمود أمين العالم اليومية؟ هل كان يخصص يوما ما للأسرة؟ كيف كانت تعليقاته على ما يراه من مواقف فى يومه؟
- الطقوس العادية، الاستيقاظ حوالى الساعة العاشرة، إلا لو كان لديه موعد قبل ذلك ثم الذهاب إلى العمل، العودة بعد الظهر للغداء والراحة ثم الجلوس على المكتب للقراءة أو الكتابة حتى وقت متأخر يتخلل ذلك بالطبع الحديث المشترك بين أفراد الأسرة لكن أهم طقس بالنسبة له كان ممارسة ساعة تقريبا من الرياضة فى المنزل صباحا، كنا نذهب فى الإجازات عادة إلى الإسكندرية، وأحيانا ضمن مجموعة من الأصدقاء إلى مرسى مطروح أو العين السخنة أو نويبع، والحقيقة هو كان معنا دائما ولم نكن فى حاجة إلى يوم خاص، لكن اليوم الأول من عيد الفطر وعيد الأضحى كان مخصصا لزيارة الأقارب، وقضاء اليوم فى المنزل مع الأقارب والأصدقاء، وكانت تعليقاته تتوقف على مايراه فكان ساخرا وابن نكته، وتراه حزينا، وتراه مهموما، وتراه متألما.
■ وماذا عن المعانى والمفاهيم التى حاول توصيلها لك؟
- كان يعتبر جميع الشباب أبناءه، كان يحث الجميع على الإخلاص والجدية فى العمل والاهتمام بالعلم، هذا غير حرصه على الود والحب وحسن التعامل مع الناس، لكن المعنى الأساسى الذى دأب على محاولة توصيله قد كتبه بخط يده عند إهداء أحد مؤلفاته لابنتى سلمى، وقال فيه إنه يأمل أن يجد الجيل الجديد فى هذه الأوراق ما يستحق أن يتجاوزه ويتخطاه إلى ما هو أعمق وأجمل.
■ إذن ومن كان يتردد عليه؟ ومن هم أصدقاؤه المقربون؟
- فى الحقيقة البيت كان دائما ممتلئا بالأقارب، والأصدقاء، والباحثين، والمعارف، أتذكر أننى رأيت ضيفا فى أحد الأيام لم أكن أعرفه، وعندما سألت والدى عنه قال بابتسامة حزينة «دا كان سجان علينا فى أحد السجون، وتصورى كبر فى السن وجاء يطلب منى أن أساعده ليجد عملا»، وأقرب أصدقاء له كان الدكتور عبد العظيم أنيس، وزكى مراد، والدكتور سامى الدروبى، وأحمد بهاء الدين، وسعد لبيب، وعباس أحمد؛ والكاتب جمال الغيطانى، رحمهم الله جميعا.
■ إلى أى مدى كان يؤيد دور المرأة؟
- كان رأيه مؤيدا لدور المرأة فى العمل والحياة، أتذكر أننى رأيته سعيدا إلى حد البكاء عند سماعه خبر رائدة الفضاء السوفيتية «فالنتينا»، وهنا جمعت سعادته بين العلم من ناحية ومشاركة المرأة فى كل مجالات الحياة من ناحية أخرى.
وهنا يجب أن أذكر دعمه الشديد لوالدتى وتشجيعها فى عملها؛ عندما كانت فى التليفزيون، مذيعة ومسئولة عن البرامج الثقافية، وأيضا خلال عملها فى دار المستقبل العربى.
■ إلى أى مدى كان يحب الموسيقى؟ وماذا كان يحب أن يسمع من المطربين المصريين؟
- كان عاشقا للموسيقى، ويذهب باستمرار إلى حفلات الأوبرا، وكان عاشقا للفن بوجه عام، وعندما بدأت ابنتى تتعلم العزف على البيانو، كان يشجعها ويقول لها إنها تلهمه، ولذا يفتح باب غرفة مكتبه خلال عزفها ليستمع إليها ويشجعها، لا أتذكر فى الحقيقة من كان يفضل أن يسمع من المطربين المصريين، لكننى أتذكر حبه لـ محمد حمام.
■ هل كان يحتك بالمقاهى؟ أم كان يفضل الجلوس فى مكتبه؟
- قطعا كان يجلس بالمقاهى مع أصدقائه المثقفين، لكنهم دائما ما يتحدثون، كان يحب مقهى الفيشاوى جدا، وكثيرا ما ذهبنا إليه.
■ ما هى أكثر الأشياء التى كانت تغضبه؟ وما الذى كان يسعده؟
- الكذب، والظلم، والخسة وكان يحب الحياة والناس والتفاعل معهم.
■ ما هى الأعمال السينمائية والدرامية والمسرحية التى أحبها؟
- لا أتذكر أسماء بعينها، لكنه كان عاشقا للسينما والمسرح، كان يحضر جميع الأفلام والمسرحيات، وصدر له كتاب كامل عن المسرح بعنوان الوجه والقناع فى مسرحنا العربى المعاصر.
■ ما هى أكثر المدن التى أحبها؟
- فى داخل مصر كان يحب القاهرة، وفى خارج مصر كان يحب باريس لما تمتلئ به من فنون وثقافة.
ماذا كان يقول عن والده ووالدته؟
يقول إن والده كان شديدا وصارما رغم حنانه البالغ، بينما كانت والدته أقل صرامة
■ كم كان لديه من أشقاء وشقيقات، وما علاقته بهم؟
- كان لديه ثلاثة أشقاء، وشقيقتين، الأشقاء: شوقى، وأحمد، شقيقه شوقى هو أحد المؤسسين الأوائل لمجمع اللغة العربية، وأحمد، هو الشيخ أحمد العالم، ليسانس شريعة إسلامية وحاصل على العالمية تخصص تدريس، والشقيق الثالث مات شهيدا خلال مظاهرات ثورة 1919، أما عن الشقيقات عائشة وأمة الله، وكانتا مدرستين للغة العربية، علاقته كانت حميمة بهم جميعا، وعلاقتى بأولادهما وبناتهما حميمة أيضا وعلى تواصل دائم.
■ كيف كان يتعامل مع أفراد عائلته؟
- كان حنونًا ومحبًا وحريصًا على الحياة الأسرية، ولم يكن يفرض رأيه، بل كنا نتناقش دائما.
■ هل كان له حديث خاص معك؟
- دائما، فلم يكن مجرد الأب بل كان أيضا الصديق.
■ من ماذا كان يخشى؟
- لا أتذكر أن هناك شيئا بعينه يخشاه، ولماذا يخشى وهو يعيش بكل صدق وصراحة وشفافية، ربما كان يخشى أن تمنعه شيخوخته من الكتابة والمشاركة فى الحياة، والحمد لله ظل يكتب ويشارك حتى أيامه الأخيرة.
■ ما هى أهم صفاته الإنسانية؟
- الصدق، والصراحة، والوضوح وحب الناس، فضلا عن الطيبة والحميمية.
■ ما هى أسباب عدم حصوله على درجة الدكتوراه؟
- حصل بالفعل على شهادة الماجستير من جامعة القاهرة، وعين معيدا فى قسم الفلسفة، لكنه فصل من الجامعة لنشاطه السياسى، وعندما سافر إلى باريس للتدريس فى جامعة قالوا له يمكنك تقديم أى كتاب من كتبك وتحصل به على درجة الدكتوراه، لكنه رفض المبدأ وقال إنه لو أراد الدرجة سوف يكتب أطروحة بحثية لنيلها.