مؤامرة استهدفت تغيير الخارطة السياسية والاجتماعيةً للوطن العربى وضرب مكامن القوة فيه وتحجيم قدراته الأمنية والدفاعية
بكل المقاييس ما حدث فى ١٧ فبراير فى ليبيا لا يمكن تصنيفه ضمن مفهوم الثورة على الإطلاق!.
مفهوم الثورة يعنى عملية تغيير اجتماعى كبرى تتأسس على مشروع واضح بأهداف محددة وآليات محلية مضبوطة تقوم على دعم جماهيرى واسع وبقيادة نخبة واعية مدركة، وتنجح فى تفجير طاقات الخلق والإبداع للجماهير العريضة، فتحول المجتمعات المتخلفة البائسة والمضطربة إلى أخرى مستقرة وناهضة ومتقدمة، وتحدث حالة نهوض فى كافة مناحى الحياة فتنطلق عجلة البناء والاعمار وتزدهر الثقافة والفنون ويتطور التعليم وتبنى منظومات رعاية اجتماعية متطورة وتفتح أبواب الأما فى حياة كريمة.
فى ١٧ فبراير ٢٠١١ بدأ تنفيذ الجزء الليبى من مؤامرة الربيع العربى التى استهدفت تغيير الخارطة السياسية والاجتماعيةً للوطن العربى وضرب مكامن القوة فيه وتحجيم قدراته الأمنية والدفاعية وشل قدراته على الصمود والمقاومة، فأطلقت تسمية الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على المنطقة فى محاولة لعرقلة أى حالة نهوض عربية، وتم التمهيد لذلك بالترويج لنظرية الفوضى الخلاقة لإقامة شرق أوسط جديد تتربع إسرائيل على هرمه ويتحول الوطن إلى قاعدة لها وتستفيد من مقوماته الجغرافية وإمكاناته الاقتصادية وموارده الضخمة، مستغلين مرحلة سيطرة القطب الواحد على العالم بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفيتى وحلفائه فى ثمانينات القرن الماضي.
الجزء الليبى بدأ بعد تطور العمل التآمرى فى تونس ومصر، وخلخلة الأمن بهما وضعفهما وسقوط الرئيس مبارك والرئيس بن على ونجاح جماعات التيار الإسلامى والمجموعات الليبرالية المرتبطين جميعًا بالدوائر الغربية فى الوصول إلى السلطة فى تونس ومصر وشل جناحى القطر الليبي، بدأت بمحاولات تظاهر بسيطة من أعداد محدودة لم تتجاوز فى أكثر أشكالها المئات ولم تنجح فى حشد كم جماهيرى يحدث التغيير المطلوب كما وقع فى الجارتين مصر وتونس، فاضطرت الدول الراعية للربيع العربى إلى التدخل المباشر لإنجاز المهمة واضطرت على ما يبدو إلى استخدام الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية لتقديم الحجج والذرائع المناسبة، فصدرت قرارات عجيبة غريبة من مجلس حقوق الانسان يتحدث عن إبادة جماعية فى ليبيا دون تحقق وبناء على تقرير مشبوه من منظمة ليبية وهمية كتبه شخص واحد معروف بارتباطه بالمخابرات الأجنبية، أعقبتها قرارات مفاجئة طالبت بتدخل دولى ثم جاءت الضربة القاصمة من جامعة الدول العربية التى منعت مندوب ليبيا من حضور اجتماعاتها ولم تتعب نفسها بمجرد التفكير فى زيارة ليبيا للوقوف على حقيقة ما يجرى، وفى سابقة فى العمل العربى تمت إحالة ملف الأزمة الليبية بصورة عاجلة إلى مجلس الأمن الذى أصدر قرارين متتالين ١٩٧٠ و١٩٧٣ دون أسباب حقيقة مستندا فقط على جملة من الاكاذيب، فرض بموجب الأول حصار جائر شمل الدواء والغذاء والوقود وحظر جوى كامل وحصار بحرى وبرى لم يكن له مثيل منذ الحرب الثانية، وتم بموجب الثانى إعلان التدخل العسكرى الواسع الذى قاده حلف الناتو فى أضخم عملية عسكرية يخوضها الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية استمر لمدة ثمانية أشهر شملت قصفًا جويًا وصاروخيًا على مدار الساعة استهدفت المنشآت المدنية والأمنية والعسكرية.
الحقيقة أنه حتى تدخل الناتو كان عدد من قتل فى الأحداث لم يصل الى العشرات، تبين لاحقا أن أغلبهم قضوا بسبب إطلاق نار مبرمج ضمن خطة إشعال الربيع العربى وتكرر فى تونس ومصر، وأن قناصة محترفين مأجورين قاموا بتلك العملية لتأجيج الناس ولإحراج السلطات، وتطورت العملية إلى صراع مدمر مستمر إلى يومنا هذا، وفى المقابل عرقل الغرب كل محاولات حل الأزمة سياسيًا فمنع التواصل بين الأطراف الليبية ولم يسمح بتقديم مبادرات دولية، ولعل ما واجهته المبادرة الإفريقية من عقبات توضح ذلك، كان هم الغرب إسقاط النظام الوطنى وتدمير الجيش الليبى والأجهزة الأمنية وإحداث حالة من الفوضى فى البلاد تسمح لهم بتنفيذ أهداف المشروع كاملة!.
وبعيدًا عن مجريات الأحداث وتطوراتها لا نجد فى نتائجها ما يمكن أن يستند إليه لوصف ما حدث بالثورة!
بدون الحاجة للتعمق فى الأضرار المادية المباشرة الكارثية التى لحقت بالبلاد والمعاناة الإنسانية الرهيبة، وحتى بدون حساب الضحايا من البشر بين قتلى ومعوقين ومفقودين، ودمار عمرانى وانفلات أمنى، فإن بعض الظواهر الناتجة تبين بوضوح أن ما حدث لا يمكن أن يوضع بأى شكل فى خانة الثورات!
من أهم الأمور التى برزت بعد ١٧ فبراير حكاية تمجيد الاستعمار، من خلال تجاسر البعض على مراحل تاريخية مليئة بالمصائب على الوطن والسكان، فتحدث البعض صراحة عن ايجابيات الاستعمار وكالوا المديح لحكم المستعمر حتى طال التمجيد موسيلينى الذى حكم ليبيا عن طريق الجنرال بالبو فقدمه البعض كبان لليبيا الحديثة، وتم تجاهل إحياء معارك الجهاد ووصل الأمر إلى حد تسفيه قياداته، فى حين أن الطليان أقاموا حالة استعمار استيطانى لليبيا فهجروا أغلب سكانها وصادروا أملاك الليبيين وبنيت مدن ومستوطنات للطليان الذين بقوا فيها يملكون الأرض الزراعية والمنازل إلى حين طردهم عام ١٩٧٠.
كما تم الحديث بإطراء عن مرحلة الاستعمار التركى الذى تسبب فى تخلف الوطن! وقدم كفتح إسلامى مبين، فى حين سلمت ليبيا وخاصة واحاتها الساحلية لحكم القراصنة، ولم يبن الأتراك طيلة فترة استعمارهم الذى استمر خمسة قرون قبل أن يبيعوا ليبيا للطليان مقابل ٥٠ ألف ليرة، مبنى واحدًا!
وتم تغيير المناهج وحذف منها كل ما يتعلق بتاريخ الجهاد العظيم وكذلك كل ما يتعلق بمراحل الاستعمار التركى والإيطالى، وحوت أقسامًا حول تاريخهم فى محاولة لتبييض الوجه الاستعمارى البغيض!
الأمر الآخر نجده فى التهجم على الهوية الثقافية للشعب وتسفيه الانتماء العربى والترويج لوجود تنوع لغوى مصطنع فى محاولة لضرب النسيج الاجتماعى العربى الليبى، فجرم القول بأن ليبيا دولة عربية على اعتبار أن ذلك يسئ لأقليات غير عربية تعيش فى ليبيا مهما ضخم حجمها فلن يصل إلى نسبة ٥٪.. ولاشك أن ذلك يقع ضمن التمهيد لتحويل ليبيا إلى حاجز جغرافى وبشرى يمنع توحيد الوطن العربى بجناحيه الشرقى والغربى.
كما ظهرت أطروحات دينية تكفيرية تهدد الوحدة الدينية للشعب الليبى السنى المالكى فى أغلبه مع قلة سنية أباضية، فشهدت ليبيا مذابح وحشية تحت ذريعة التوحيد وشعارات الجهاد، فقتل الناس ذبحًا، وتحولت باحات المساجد إلى ساحات إعدام، وقطعت رؤوس كثيرة وصلبت عائلات بكاملها من نماذجها عائلة حرير فى درنة والصادق فى سرت!
أما أخطر الظواهر على الإطلاق فهى أطروحات التقسيم فى مواجهة أزمة السلطة المصطنعة لهذا الغرض على ما يبدو، فكثر الحديث على أن ليبيا ثلاثة أقاليم يمكن فصلها لتسهيل إدارتها فرفعت شعارات التهميش والفيدرالية وما إليها مع أن أغلب الليبيين سكانيًا ينتمون إلى قبيلة واحدة تقريبا فى الأساس كما أن القبائل الليبية منتشرة كلها فى كل ليبيا، ولقد تأزمت الحالة السياسية إلى الدرجة التى أصبح معها مطلب التقسيم يراه البعض كمخرج وحيد، وفى خطوات متناسقة مع فكرة الفدرلة والتقسيم، كما ترضخ السلطات الهشة المفروضة لطلبات الغرب بتوطين المهاجرين الأفارقة فى ليبيا مما سينتج تغيير سكانى سيحول ليبيا فعلًا من بلد تسكنه أغلبية عربية مسلمة إلى دويلات تسكنها أغلبيات أفريقية، لتشكل حاجزًا بشريًا بين مشرق الوطن العربى ومغربه!.
هذه بعض النتائج لـ١٧فبراير التى تنفى عنها تسمية الثورة وتضعها ضمن تصنيفات أخرى تتراوح بين الأحداث إلى النكبة.
معلومات عن الكاتب
الدكتور مصطفى محمد الزائدى.. سياسى ليبى، تولى سابقا منصب وزير الصحة، وكان نائب وزير الخارجية 2011، أمين الحركة الوطنية الشعبية الليبية، يستعرض فى هذا المقال أحداث فبراير ٢٠١١ التى كانت بداية التدخل الأطلنطى فى الشئون الليبية ومحاولة طمس هوية البلاد والعودة بها إلى الوراء.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي: