- العمر لحظة تحت أنقاض سوريا.. مسعفون وعمال إنقاذ ومتطوعون يروون مأساة البشر تحت الحجر
- حميد قطيني: كانت لحظات أشبه بيوم القيامة.. وعشرات الناجون من الزلزال ماتوا في البرد
- خديجة خطيب: الزلزال طمس أحياء كاملة ودفن قاطنيها.. والمشافي كانت مُكتظة بالأموات
- "مها حركاوي" فقدت 10 أفراد من عائلتها: هربوا من جحيم الحرب فقتلهم الزلزال
- إيمان العاشق: كل شىء أصبح أنقاض.. وكنا نقاتل لإخراج روح من رحم الموت
- ضحوك العزو: خذلان المجتمع الدولي سبب موت آلاف الأبرياء تحت الأنقاض
- طفلة لـ مُسعف: "طلعني ياعموا من هنا وأنا بعيش لك طول عمري خدامة"
في لحظات معدودة.. تحول سكن الليل الهادئ قبل نحو ساعة تقريبًا من مطلع فجر يوم السادس من فبراير الجاري بشمال سوريا؛ لهولٍ وفزع رهيب، فالأرض تُزلزل من تحت الأقدام؛ والبنايات الخرسانية تتراقص يمينًا ويسارًا قبل أن تنهدم فوق رؤوس قاطنيها؛ وماء السماء المُنهمر لا يتوقف عن الهِطول؛ وبات صُراخ النساء وعويل الأطفال مِلء السمع والبصر؛ وصار الهرج والمرج هو سيد الموقف؛ بعد أن توقفت العقول لثوانٍ معدودة عن الفهم والإدراك، وأوشك المُوت الذي فروا منه طيلة 12 عامًا أقرب ما يكون إليهم؛ وباتت الحياة شعرة رفيعة يصعُب التعلُق بها؛ لولا أن القدر حال بينهم وبين الهلاك خلال بضع ثواني.
حكايات عدة سردها سوريون لـ"البوابة نيوز" توثيقًا للحظات مُؤثرة وشهادات حزينة عن زلزال القهر؛ الذي ضرب بلادهم مطلع السادس من فبراير 2023؛ وحول بيوتهم لمدافن خنقت ساكنيها تحت ركامها؛ وباتت مُدنهم إثر أقوى غضبة للطبيعة منذ 100 عام، "خاوية على عروشها".
حميد قطيني: كانت لحظات أشبه بيوم القيامة.. وعشرات الناجون ماتوا في البرد
حميد قطيني 30 سنة، مُتطوع بـ «الخوذ البيضاء»، والذي هجر موطنه الأصلي بمدينة خان شيخون بنحو 70 كيلو هربًا من وطيس الحرب؛ ليستقر بمدينة إدلب يروي كواليس الساعات الأولى لـ"زلزال القهر والألم"؛ قائلًا: في صباح الـ6 من فبراير وتحديدًا في الرابعة والنصف، كُنت خالدًا أنا وزوجتي وأبنائي الـ 2 للنوم، وفجأة استيقظت على ارتجاج شديد جدًا في البناية التي أقطن بها في الطابق الرابع؛ والأشياء تتساقط من حول، شعرت للوهلة الأولى أنه قصفٍ حربي؛ خاصة أننا مُعتادون على القصف العسكري العنيف؛ ولكن لأول مرة بحياتي يمُر علي هذا الاهتزاز، فيما كانت أصوات الاستغاثات تتعالى بكلمة واحدة فقط «زلزال».
استيقظت زوجتي بعد بضع ثواني من الفزع؛ وهرولنا مُسرعين نحو طفلينا فحملناهما وتركنا كل شيء خلفنا؛ لنتمكن من الهرب إلى أسفل العقار خلال 3 دقائق تقريبًا؛ ومن ثم انتقلتُ بأسرتي إلى أطراف مدينة إدلب ليستقر بنا الحال تحت الأشجار، يُحاوطها السقيع وتضرب العواصف المدينة من كل ناحية؛ ولكن نحن الآن بعيدًا عن الأبنية التي هُدمت فوق رؤوس سُكانها.
دقائق مُرعبة لم أعشها من قبل رغم سنوات الحرب القاسية؛ «كأنه يوم القيامة»؛ فالموت أقرب للجميع من أي شيء آخر؛ وأصوات الاستغاثات والصراخ تخرق الآذان؛ ومِئات السُكان يهرولون عشوائيًا في الشوارع بعيدًا عن الأبنية التي تُطقطق وتتساقط؛ والدموع تُسكب من الأعين دون توقف، رغم هذا الكُل يُسرع إلى خارج المدينة تاركون منازلهم التي تحولت في بضع دقائق إلى قبور.
وتابع، تركت زوجتي وأبنائي تحت الأشجار، برفقة عدد من العوائل على أطراف مدينة إدلب؛ لأعود مُرتديًا «الخوذة البيضاء»؛ فأنا متطوع بالدفاع المدني السوري منذ 8 سنوات؛ لنبدأ مراحل الانتشار السريع مُحاولين إنقاذ ما يُمكن إنقاذه؛ وما أن بزغت شمس الـ 6 من فبراير؛ إلا وكانت أغلب البنايات في إدلب انهارت بشكل كامل وأخرى جزئيًا؛ ولا تزال أصوات الاستغاثات تإن تحت الأنقاض وأتلال الرُكام.. أبنية مُنهارة، وحارات وشوارع كاملة قد سويت بالأرض؛ ولا يُعلم عن أهُلها شيء هل أحياء أم أموات؟! هنا في شارع الـ 30 بإدلب انهارت نصف بناياته فيما كان النصف الآخر لا يزال قائمًا. شاهدت أب وابنه مُعلقين بين أسياخ الحديد والصبة الخرسانية؛ في مشهدٍ مأسوي لم أرى مِثله من قبل؛ فالألم والدُموع والحسرة أسياد الموقف.
يُكمل «قطيني» شهادته من دفتر «الدمع والألم» بعد أن ضاعت المعالم وغابت تفاصيل الحياة في مدن باتت رُكامًا؛ «دقائق معدودة مرت على نهار الـ 6 من فبراير، وراحت فرق الإنقاذ تنتشر بشكل سريع بعد تقسيم الأفراد وتوزيعهم جُغرافيًا؛ ولكن حجم الكارثة كان كبيرا جدًا؛ فالدمار طال بنايات كثيرة بين ريفي إدلب وحلب، وكانت مُعدات البحث والإنقاذ بسيطة للغاية في مُقابل حجم الدمار الهائل؛ وما كان أمامنا سوى العمل بالأيادي والمعدات البسيطة؛ فالعيون تترقب، والقلوب تلهث بالدعاء، والأمل بات خيطا رفيعا يتعلق به الجميع.
ومنذ الإثنين وحتى الخميس «6-9 فبراير»، كانت تلك الأيام الأصعب على الإطلاق، ففي تلك الليالي الطويلة المُظلمة بقينا على قيد الأمل وأرواحنا مُعلقة بمن هم تحت الركام؛ وتنقلنا خلالها من بناية لأخرى ومن مكان لآخر؛ من إدلب للريف الغربي والشمالي وريف حلب ثم قرية جنديرس بريف عفرين والتي دُمر بها حوالي 200 مبنى بالكامل؛ بينما كانت الجُملة ينتظر سماعها الجميع "هنا شخص على قيد الحياة".
يُؤكد "قطيني"، أنه تعرض للعديد من المواقف القاسية والمؤثرة على مدار سنوات الحرب؛ إلا أن الزلزال كان أكثر هولًا من وطيس الحرب في خان شيخون؛ التي استُهدفت بالمدفعية والصواريخ والبراميل المُتفجرة والصواريخ العنقودية والغازات السامة؛ فالأوضاع الإنسانية مأساوية يصعُب وصفها، عشرات الناجون من الزلزال ماتوا تحت الأشجار في البرد، خوفًا من الصعود لمنازلهم حتى غير المُهدمة، بينما الهزات الارتدادية لم تتوقف ومراكز الإيواء قليلة وغير مُؤهلة. ويُمكل: أرسلنا استغاثات للعالم أجمع بضرورة وسرعة مُساعدتنا في نكبة الزلزال؛ ولكن لم نتلق أي دعم؛ سوى وصول فريق إنقاذ مصري تطوعي دعمًا لإنقاذ الضحايا والمُصابين؛ هو الشيء الوحيد الذي كان يُعطي أملًا بأن هناك أحدًا بجانبك وسط هذه الظُلمة القاتلة.
خديجة خطيب: إسعاف المصابين وسط الحسرات والدموع.. والمشافي كانت مُكتظة بالأموات أكثر من الأحياء
أما السيدة خديجة خطيب؛ وتعمل بالأصل فنية تخدير؛ ومُتخصصة إسعافات أولية مُتطوعة بالدفاع المدني؛ لم تختلف شهادتها كثيرًا؛ عن آلام وأوجاع ضحايا زلزال القهر الذي ضرب بلادها، فخلال الساعات الأولى شعرت "خديجة" بهزات أرضية خفيفة بمحل إقامتها الذي لم يتضرر بمُحافظة سرمدا؛ ومُا توقعت حجم الدمار الكارثي الذي لحق بأحياء كاملة في الشمال السوري؛ خاصة مع انقطاع الكهرباء وتوقف شبكات الإنترنت والاتصالات؛ بعوامل الهزات الأرضية الخفيفة وموجة الأمطار الغزيرة التي ظلت ضرب سرمدا لساعات مُتواصلة؛ حتى خرجت من منزلها صباح الإثنين لتُصدم بالكارثة العظمى الذي زلزلت مُدن وطمست أحياء كاملة في بلادها.
توجهت "خديجة"، في السابعة من صباح السادس من فبراير، لمشفى حدودي يُسمى باب الهوى شمالي إدلب؛ ولكن ما شاهدته المُسعفة عن قُرب كان مُرعًا ولا يُمكن تصديقه - حسب قولها – فالمشفى مُكتظًا بالجثامين، والأموات أكثر ممن بقي على قيد الحياة؛ ومئات الموتى جاءوا دون رفقة ذويهم ولا نعرف عنهم شيئا؛ بينما كانت الإصابات حادة وبالغة الخطورة.
كانت الأوضاع مأساوية للغاية؛ ولكن أصعب ما مررت به داخل باب الهوى؛ حين دخلت قسم النساء؛ للبدء في تضميد جُروح المُصابين؛ تقابلت بطفلة صغيرة كاد قلبي أن ينفطر من البُكاء؛ فهي لا تدري أين هي وماذا حدث؟ وأنين بُكائها لا يتوقف بسبب آلام كسر قدمها وترغب في دخول الحمام؟ وجاء طفل آخر نقلته الإسعاف عمره 6 سنوات ويُدعى حسن، جاء أيضًا دون أحد من ذويه وكانت إصابته بالغة في الرأس؛ ولكن حين حملته لغرفة الإشاعة التصويرية وعانقني كأني أمه؛ بكيت من مأساة الصغير دون أن يبكي هو، وحين حاولت التحدث معه لتخفيف صدمته سألني قائلًا: ماذا فعلت لينهدم عليا البيت؟ غادرت المشفى، وتركت "الطفل حسن" برفقة سيدة نُقلت مع أحد الأطفال وظل "حسن" يبكي لا يُريد مفارقتي؛ وكان على الأغلب أن أهله توفوا في الزلزال، وخرجت من المشفى أبكي لصعوبة الموقف الذي وضعني به الطفل الصغير.
انتقلتُ بالإسعاف لمنطقة حارم التي لحقت بها أضرار كُبرى؛ توقفنا عند بناية مُكونة من 5 طوابق؛ ولكن ما زاد ألمي أكثر أن هناك شابا يدعى أيضًا حسن مُتزوج ولديه 3 بنات وصبي، تُحاول فِرق الإنقاذ إخراجه من تحت الأنقاض؛ وكانت أمه 60 عامًا تجلس على الأنقاض تُناجي الله بُحرقة ودموع لم تتوقف لنجاة ولدها من تحت الأنقاض؛ فالشاب "حسن" استطاع أن يُنقذ أمه وزوجته وابنه الصبي؛ وانهار عليه المنزل في اللحظة الأخيرة وهو يُحاول إنقاذ باقي أفراد عائلته من الطابق الأول في البناية التي كان يسكُنها.
ولكن مع الأسف لم يكن لدينا آليات ورافعات أنقاض التي تُسعفنا سريعًا للوصول إلى من هم تحت الأنقاض؛ ظلت فرق الإنقاذ تُكافح نحو 6 ساعات لإنقاذ حسن؛ ولكن فارق الحياة تحت الركام برفقة 3 من بناته. فأصعب شعور بالعالم هو أن تكون عاجزًا على إنقاذ مُصاب ورغم آلامه لا يزال مُتعلقًا بالحياة.
تُكمل المُسعفة المُتطوعة بالدفاع المدني، روايات الألم والحسرة في أيام الزلزال والنكبة بشمال سوريا، قائلة: انتقلت لموقع آخر وشاهدنا شابا يُدعى محمد حمادة؛ يُنقب بحسرة مؤلمة في الركام؛ لينتشل أمه وأبوه وأخوه من تحت الأنقاض، مُتسائلة: لا أدري كيف كان لدى "حمادة" كل هذا الصبر حتى يُواصل الحفر الشاق لينتشل جثامين أقرب الناس له؟ وبعد نحو 48 ساعة استطاع "حمادة" أن يستخرج كُل جثامين أفراد عائلته من تحت الأنقاض.
مشاهد تُبكي الحجر| طفلة لـ مُسعف: "طلعني ياعموا من هنا وأنا بعيش لك طول عمري خدامة"
"شركاء ومتشابهون في كل شيء.. في التهجير والإنقاذ وحتى الموت"؛ هكذا تُضيف خطيب قائلة؛ كان أحد أصعب المشاهد التي أعتقد أنني لن أنساه طوال حياتي، حينما شاهدت امرأة كردستانية، تضم طفليها بين ذراعيها وهم جميعًا تحت حجر خرساني كبير جدًا؛ والـ 3 متوفين، هذا بالإضافة إلى استخراج طفلتين من تحت الأنقاض كانوا ماسكتان بأيادي بعضهن، وهم أموات تحت الركام.
وفي إحدى مُحاولات إنقاذ طفلتين من تحت الأنقاض؛ حكى أحد فريق الإنقاذ مع الطفلة والتي كان عمرها لا يتعدى الـ 5 سنوات؛ وقال للطفلة: خلاص فاضل شوية صغيرة وتطلعي.. خبريني ماذا تريدي بعد ما تطلعي عصير ماء؟، ولكن رد الطفلة كان أقسى شيء ممن تسمعه بالحياة، الطفلة قالت له: "طلعني ياعموا من هنا وأنا بعيش لك طول عمري خدامة".
مها حركاوي: فقدت 10 أفراد من عائلتي.. هربوا من جحيم الحرب فقتلهم الزلزال
لم تمُر الكارثة على مها حركاوي؛ دون أن تترك لها جرحًا سيظل معها طول حياتها، وكأن الفاجعة أبت أن تُغادر دون أن تسرق من "حركاوي" 10 أفراد من عائلتها دفعة واحدة، فبينما كانت تقوم المتطوعة بالدفاع المدني، ومُعالجة جروح منكوبي الزلزال؛ هاتفها أحد أفراد عائلتها يُطمئنها بأن عمتها وخالها ما زالوا طيبين على قيد الحياة؛ ولكن لا يزالون ينقبوا عليهما بين أنقاض منزلهما المُهجرين إليه بقرية جنديرس.
ولكن مع أذان مغرب اليوم الأول للزلزال، استخرجت فرق الإنقاذ جثامين 10 أفراد من عائلتي وهم، "عمتي وخالي وبرفقتهما تحت الركام 2 من أولادهما الشباب؛ بالإضافة إلى جثماني زوجتي أبناء خالي الإثنين؛ و6 أطفال" جميهم مواتوا تحت الأنقاض؛ حتى أن فرق الإنقاذ أخبرتنا أنهم استخرجوا طفلا صغيرا عُمره سنتين ونقل للمشفى؛ وعلى مدار يومين ظللنا نبحث عنه بالمشافي على أمل أن يكون آخر فرد بالعائلة لا يزال على قيد الحياة؛ ولكن عثرنا على جثمانه بثلاجة موتى جنديرس.
تكمل "حركاوي" لـ"البوابة" في سرد مُعاناة الحُزن والألم والحسرة؛ بوداع 10 أفراد دفعة واحدة من عائلتها تحت أنقاض زلزال القهر والنكبة بسوريا؛ فرغم أن أسرتها وعائلتها لأمُها هجروا جميعًا قبل نحو 4 سنوات من بلدة تلمنس بمعرة النعمان بإدلب؛ فتقول: هربنًا من الموت في جحيم الحرب إلا أن المُوت كان ينتظرهم بموطن هجرتهم بقرية جِنديرس بعفرين حلب.
ورغم أن المُصاب الذي تعرضت له عائلة "حركاوي" كبير وقاسي؛ إلا أنها لم تتكاسل عن عملها التطوعي، وظلت مُساندة للمتطوعين مستكملة عملها في إسعاف الجراح المُصابين؛ مؤكدة أنه مع كل طفل أو رجل أوسيدة يتم إنقاذه من تحت الركام كُنت بعتقد أنه أحد أفراد عائلتي التي راحت كلها بين ليلة وضحاها.
ورغم أن مصائب الحرب على الناس بسوريا كانت عظمى على مدار 12 سنة؛ إلا أن مصائب الزلزال كانت أكبر وذلك خلال دقائق معدودة؛ ولكن واجبنا ومسئوليتنا المجتمعية كانت تدفعنا للعمل وما كُنا نهدأ قط؛ نواصل الليل بالنهار مُتنقلين بين مناطق "عزمارين- أرمناز – ملس - وغرها"؛ نقدم كل الدعم الصحي والنفسي؛ خاصة أن الحالة النفسية والصحية للناس في مناطق الزلزال يُرثى لها؛ فالموت أقرب ما يكون للأحياء؛ والحسرة والزعر على حياة الناس بين الحرب والزلزال يُدمي القلوب.
ضحوك العزو: خذلان المجتمع الدولي كان سبب موت الأبرياء.. ولدينا آلاف المآسي بين الحرب ونكبة الزلزال
وعن زلزال النكبة الذي قهر قلوب السوريين؛ تقول السيدة ضحوك العزو في حديثها لـ"البوابة": "احنا كواطنين سوريين بالدرجة الأولى، ومتطوعين بفرق الإنقاذ بالدرجة الثانية؛ صار عندنا مئات الحكايات من دفاتر الموت والألم لما بين سنوات الحرب ونكبة الزلزال؛ ولو أني ما عشت هذه الأيام الصعاب؛ وكان أحد يقصها عليّ؛ بكل تأكيد ما كنت سأصدق نهائيًا حجم الوجع والألم والحسرة التي تجرعها الشعب السوري.. وكنت سأعتقد أنه ضرب من الخيال".
وتتسائل "العزو" بعد أيام من الزلزال: كيف تحملنا الدقائق والساعات والثواني الصعبة التي عشناها بالزلزال؟ كيف لسيدة مثلي تعمل بين المُعدات وآلات تكسر الصخور لإنقاذ من تحت الأنقاض؟، لتجيب قائلة: كُنت بعتقد أنني لدي القدرة الفائقة والعزيمة الفولاذية مثل الآليات وبقدر أكسر الصخر لانتشل روحًا لا تزال تتعلق بخيط الحياة. ما فقدنا الأمل أبدًا رغم الألم والوجع وانتشار الجُثث ورائحة الموت في كل مكان؛ وسطع بصيص الأمل والنور حينما استخرجنا من تحت الأنقاض طفلة أسعفناها لأقرب نقطة؛ ثم رجعنا مرة أخرى لنخرج أخيها حيًا ونقلناه لأقرب نقطة مشفى؛ ثم عاودنا مرة ثالثة وتمكنا من إخراج الأخ الأصغر والأخت ومن بعدها الأب؛ ولكن كانت الأم للأسف فارقت الحياة.
المُسعفة السورية ضحوك العزو، وهي أم لـ5 أطفال، هُجرت من موطنها الأصلي بمعرة النعمان بمحافظة إدلب منذ ثلاث سنوات؛ وتعيش حاليًا بقرية صغيرة بالقرب من مدينة أريحا؛ تحكي لنا حديث دار بينها وبين أحد زملائها من الدفاع المدني؛ يوم الـ 7 من فبراير بمدينة عزمارين، وتقول: سائلته كم عدد الأفراد تحت الأنقاض في هذه الباية؛ فرد قائلًا: 30 شخصًا، فعاودت وسألت مرة أخرى: وكم فرد تم إخراجه؟ ليرد: 10 أفراد.. فسألته بلهفة المستغيث في المرة الثالثة: كم منهم على قيد الحياة؟ ولكنه للأسف رد قائلًا: ما بينهم أحدًا على قيد الحياة!
بعد مرور أيام عدة من الزلزال؛ تؤكد "العزو" قائلة: إن كارثة الزلزال كانت أكبر مما نتخيل، وكنا نشعر بأن أجسادنا أنهكها التعب؛ ولكن كانت المُشاركة ضرورية؛ وأصوات الناس تحت الأنقاض لا تفارقنا؛ والآلام والأوجاع والحزن يملأ القلب على كل إنسان فارق الحياة وما قدرنا نوصل له؛ وخذلان المجتمع الدولي لسوريا كان السبب الأكبر في خسارة كل هؤلاء الأرواح البريئة تحت الأنقاض، وأن بؤس المواقف لن يقدر الدهر على محوها من الذاكرة.
إيمان العاشق: كل شىء أصبح أنقاض.. وكنا نقاتل لإخراج روح من رحم الموت
تواصل السورية، إيمان العاشق 24 عامًا وهي مديرة نسائية لدى أحد مراكز الدفاع المدني، سرد كواليس أيام "غضب الأرض" وتعرض بلادها للزلزال؛ مؤكدة أنها لم تكن تعرف أن الزلزال دمر هذا الحكم الهائل من المنازل والبنية التحتية بمناطق الشمال السوري؛ خاصة وأن وقت الزلزال كانت تمكث ببيت أهلها الذي تعرض لبعض التشققات بوقع الزلزال؛ بينما انقطعت خدمات الإنترنت والكهرباء؛ وباتت في معزل عن العالم حتى شروق شمس يوم السادس من فبراير؛ للتفاجئ بكم هائلٍ من الدمار والخارب.
ولكن في السابع من فبراير؛ أصُيبت "العاشق" بحالة من الدهشة والصدمة؛ بعد أن وطأت قدميها مناطق بسنيا وملش وأرمناز؛ فالوجوه شاحبة واليأس تملك القلوب ولكن العيون تفتش عن أمل للحياة وسط الركام والأنقاض؛ ومع كل دقيقة تمر كانت رائحة الموت تفوح، وسط طقس قارص البرودة يضرب دون توقف؛ ولكن ظلت القلوب تخبرنا بأنه لا يزال هناك أحياء تحت الأنقاض رغم كثرة الموتى.
وتابع أخذنا نفتش ونتحسس منذ التاسعة صباحًا وحتى الثانية ظهرًا الأنقاض؛ ولكن لم يُحالفنا الحظ في إنقاذ شخص واحد على قيد الحياة؛ كُنا ننفض الغبار من على وجوه الموتى ونستخرجهم ونُسلمهم لذويهم؛ حتى بدأ الظلام يحل؛ لنأخذ ما يقرب من 5 دقائق فقط استراحة "قهر ويأس"؛ وإذا بشخص يُدعى "يوسف" ضمن فرق الإنقاذ جاء يرقض من بعيد ويُنادي بصوت علىٍ للفريق النسائي قائلا: "تعالوا بسرعة هُنا أحياء".
هرولنا خلفه بكل طاقتنا؛ وبدأنا الصعود على ركام بناء مُتعدد الطوابق؛ وانزلق يوسف من فتحة صغيرة، حتى يُعطي الأكسجين لعائلة كاملة ظلت تحت الأنقاض منذ ما يقرب من 48 ساعة؛ عم السكون المكان رغم زحام الأهالي؛ والكل يُناجي ربه سرًا دون همسة حتى طلت رأس أول طفلة من الفتحة الصغيرة، لتنطلق التكبيرات والصياح؛ في شعور اختلط فيها الحزن والفرح سويًا؛ ثم استخرجنا الأم ثم الطفل من بعده الشاب؛ وأخيرًا الأب الذي خرج يضحك ويبكي في آن واحد، في هذه اللحظات وظلام الليل الدامس يكسوا كل شيء نسينا التعب والجوع والبرد والمطر؛ نسينا كل شيء لحظة ابتسامة أسرة منكوبة خرجت من رحم الموت حية تتبسم من جديد للحياة.