تتحرك ريشته على اللوحات بفلسفة خاصة كونتها التجارب الإنسانية العميقة وقراءات وكثير من الأسفار حول المدن الأوروبية، فى الدقائق الأولى من لقائه سترى فى عينه كل أحداث مصر الكبرى وبمجرد مصافحته سينهار جدار الحاجز الاجتماعى لتشعر كما لو أنك تصافح أحد أقاربك أو أصدقائك.
يمتلك الفنان التشكيلى محمد عبلة هذا الحضور المصرى الأصيل، فى حواره لـ«البوابة نيوز» تحدث عن معاناته وتجاربه الإنسانية وعن ذكريات ما زال يحملها لمعرض الكتاب وأشياء أخرى، استقبلنا فى مرسمه الكائن فى حى الزمالك العريق بمنتهى الحفاوة.. وإلى نص الحوار:
■ الإبداع تفاعل إنسانى لا يتوقف نشاطه ومع ذلك لم تنبثق مدرسة تشكيلية معاصره أو نقد تشكيلى من مصر.. ما الأسباب؟ وكيف نتغلب على المعوقات؟ ودور المؤسسات الحكومية والخاصة فى هذا السياق؟
- لا معوقات تقف أمام مدرسة فنية بعينها وهذا بسبب أنه لم يعد العالم يهتم بفكرة إنشاء مدرسة فنية والالتفاف حول فكرة من الممكن أن يجتمع عليها الفنانون، كانت هذه الحالة النشطة ضرورة فى بداية القرن الماضى.
بدأت فى التقلص فى فترة الستينيات فى العالم وفى مصر على وجه الخصوص، كانت هناك مدارس فنية وتيارات عديدة، أما بالنسبة لنشوء تيار فنى خارج من القطر المصرى لابد أولا أن تتوافر له شروط كثيرة لينبثق منها مثلا وعلى سبيل المثال ضرورة تفعيل حركة نقدية مواكبة للحركة التشكيلية العالمية والنقد الفنى مأزوم وأيضا لابد من وجود حرية رأى وعرض للأعمال التشكيلية، فهناك العديد من الشروط لخلق حالة ما قادرة على الفعل لتنشأ التيارات الفنية.
■ يقال إن بيئة الفنان بالضرورة تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على فنه.. ما الفروق الجوهرية بين الفنان المصرى والأوروبى؟ وكيف تنعكس بيئته على لوحاته؟ وهل ترى حيلة الانسلاخ من البيئة المحيطة وسيلة جيدة للتجاوز؟
- بيئة الفنان بالضرورة تؤثر على فنه بشكل مباشر وغير مباشر، وبطبيعة الحال الفنان هو معبر عن بيئته وأنا لا أراها حيلة انسلاخ، حتى ولو استعار الفنان أساليب عالمية متداولة فى أماكن أخرى، لكن الأفكار وروح العمل التشكيلى نفسه هى نتاج بيئته الأصيلة.
وأعتقد أن التعبير عن الواقع الخاص والبيئة الخاصة شىء مهم حتى ولو محدودة النجاح والأصداء، لكنها تبقى فى الذاكرة حينما تأتى أو تولد لأنها تعبر عن ملامح العصر أو عن فترة زمنية محددة من ذاكرة الأوطان.
■ تحمل على صدرك وسام «جوته» هل لديك أحلام أخرى تنوى تحقيقها فى القارة الأوروبية؟ وماذا عن أسفارك وذكرياتك الفنية والإنسانية هناك؟ وكيف تقيم الفن التشكيلى الفرنسى؟ وما هى المدارس التشكيلية والنقدية التى تعتبرها بارزة؟ هل أنت معجب بأسلوب فنان بعينه؟
- تشرفت بحصولى على وسام «جوته» وبذلك الوسام تم تسجيل دخول اسم مصر فى هذا السياق، ولكن لم تقتصر علاقتى بالفن فى ألمانيا فقط، فقد عشت فى مراحل مشوارى الفنى فى العديد من الدول الأوروبية مثل دولة السويد والنمسا وبلاد أخرى كثيرة.
لكن ألمانيا كان لها دور محورى فى حياتى وذلك لأننى عشت بها أطول فترة خارج مصر، وتتميز ألمانيا عن باقى الاتحاد الأوروبى بأنها تستوعب حركة تشكيلية مهمة، وبها مؤسسات فنية قوية جدا تتضمن متاحف وجاليريهات، وذلك يؤكد على أن ألمانيا قوية بهذه الطاقة الإبداعية، وخصوصا التشكيلية منها.
كما هناك باقة من الفنانين التشكيليين أنا معجب جدا بهم على المستوى الشخصي، فعلى سبيل المثال وليس الحصر يوجد فنان تشكيلى معاصر ألمانى الجنسية ويعيش فى فرنسا اسمه «كيفر» ويمتاز فنه بالتجريب على المستوى التشكيلى والفكرى، كما فى الخامات أيضا يحاول التجريب، وقادر بقوة فنه التعبير عن تاريخه وواقعه الشخصى والمجتمعى ولأسباب أخرى أحب جميع أعماله الفنية.
■ يعلم المعجبون بفنك أنك لم تولد وفى فمك ملعقة من ذهب وتحمل على أكتافك تجربة إنسانية كانت مغلفة بالمعاناة.. وكما صرحت قبل ذلك أنك عملت «نقاشا».. حدثنا عن هذه التجارب العميقة؟
- مثل الأغلبية العظمى من المصريين لم أولد وفى فمى ملعقة من ذهب، هذا حقيقى جدا، وتجربتى الإنسانية هى محاولة منى لكسب قوت يومى لأمنح لنفسى فرصة للحياة كباقى الناس، وأكمل دراستى وأتقدم فى مشوارى الفنى.
فأنا كفنان تزيد احتياجاتى عن الإنسان العادي، فلى احتياج شديد للتثقيف وشراء الخامات، كما أننى أحب السينما وأتابع الأفلام السينمائية، وكل هذه الأشياء وأخرى من الاحتياجات كانت تحتاج إلى المادة لذلك كنت أعمل لأحصل على المال الذى يسنح لى بتغطية احتياجاتى الإنسانية والفنية، لذلك عملت فى الكثير من المهن منها على السبيل المثال نقاشا وبائعا، ولكنها كانت غير مهمة أكثر من أنها مصدر للدخل، وإن كان قليلا لكن كنت أحقق أهدافى بشكل أو بآخر ولو فى أضيق الحدود.
ومن خلال هذه التجارب أقول للفنانين التشكيليين الشباب حقق أهدافك وأعمل على فنك وذاتك بكل الطرق التى تسمح لك لتحقيق أحلامك الفنية والشخصية فكل مجهود يبذل له مردود فلا داعى لفقد الأمل مهما رأيت من معاناة ستجد نفسك ولاشك فى ذلك.
■ ما المدارس التشكيلية التى تتبناها؟ وهل هناك تحولات فنية حدثت لك فى مشوارك الفني؟.. وحدثنا أيضا عن سطوة اللون وقوة الخط وفلسفة الضوء والظل؟
- أنا لا أنتمى لمدرسة تشكيلية محددة أفضل التنوع والتجريب، محاولا أن أركز فى أعمالى على أن أبرز الأصداء السياسية والاجتماعية فكل الأحداث الكبرى التى حدثت فى مصر مثل الثورة، الهزيمة فى ٦٧، انتصار ٧٣، إحباطات فترة الرئيس السادات، والانفتاح الاقتصادى، كل هذه الأحداث الجلل وغيرها كان لها انعكاسات على أعمالى الفنية.
كما حاولت التعبير عن كل حدث بتجريب كبير جدا وباستخدام خامات مختلفة فأنا أحب الدخول فى الأماكن غير المأهولة فلم أتوقف عن التجريب، وكل هذا هو محاولات للتعبير، وبالتالى تغيرت أساليبى والمدارس التى تبنيتها للخروج بعمل فنى فيه تنصهر كل هذه المعطيات.
■ أعلم عنك أنك قارئ نهم.. من أهم الكتَّاب الذين أثروا على ذائقتك ووعيك؟ وذكرياتك مع معرض الكتاب؟
- لى فى معرض الكتاب ذكريات كثيرة وقوية فأنا من رواده منذ ثمانينيات القرن المنصرم، فأتابعه وأحرص على التواجد فيه لكن الفترة الفائتة لم أذهب إليه سوى مرة واحدة بعدما أنتقل إلى حيث هو الآن لبعد المسافة.
ولكن القراءة جزء مهم من تاريخى وتركيبتى وأنا أمتلك مكتبة تحوى آلاف الكتب، وهى متنوعة فى الفن طبعا لكنى أقرأ فى العديد من المجالات مثل الأدب بكل أجناسه الرواية والشعر وأحب الفلسفة لأن القراءة مهمة جدا للفنان.
وبطبيعة الحال هناك العديد من الكتاب كان لهم تأثير كبير على فأنا مدين للكاتب يوسف إدريس والأديب نجيب محفوظ والرائع توفيق الحكيم والأديب يحيى حقى الذى له معزة خاصة بالنسبة لي، ومن المعاصرين من الكتاب مثل الروائى إبراهيم عبدالمجيد والقاص فتحى إمبابى والكاتب سعد القرش والكاتب مجدى إمام كما أحب شعر الشاعر جمال القصاص وآخرون لن تسعفنى الذاكرة لذكرهم.
■ ماذا يشغل تفكيرك الآن على المستويين الفنى والإنسانى؟ وما خططك المستقبلية؟ هل تنوى لإقامة معرض قريبا؟ ما فكرته الرئيسة؟
- ما يشغل تفكيرى الآن ومع تقدم العمر الذى يؤثر بشكل ما على الطاقة، لكن ما زالت رغبتى الفنية والتجريبية تدفعنى دائما لأعمال جديدة، ولكن فكرة الخطط الفنية لا أمتلك واحدة منها.
والآن أشاهد مصر من جديد وأركز على الطبيعة المصرية أبحث عن جماليات للتعبير عنها وبداخلى رغبة عارمة لرسمها مثل السماء المصرية والشجر المصرى والأرض.