تطلعات قوية فى البلقان الغربية لإعادة الاندماج فى يوغوسلافيا من جديد
أهداف القوى العظمى لا تتماشى حاليًا مع مصالح البوسنة والهرسك
الاتحاد الأوروبى قائم على التشكيك فى الكيانات الأنثروبولوجية الأساسية للإنسان: الأمة والأسرة والدين والدولة
من وجهة النظر الجيوستراتيجية، لطالما كانت منطقة غرب البلقان تمثل إشكالية خاصةً البوسنة والهرسك. وقد هدأت الأمور هناك بعد عدوان سلوبودان ميلوسيفيتش فى التسعينيات على ذلك البلد وعلى كرواتيا، لا سيما فى الجزء الغربى منها، أى فى سلوفينيا وكرواتيا. وتجدر الإشارة إلى أن كلا البلدين اللذين خرجا من جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية السابقة لا ينتميان إلى البلقان من حيث الحضارة، حيث إنهما جزء من أوروبا الوسطى.
وهكذا، فى جميع أنحاء منطقة يوغوسلافيا السابقة، لا تزال هناك تطلعات قوية لإعادة الاندماج فى يوغوسلافيا من جديد. ففى كل من يوغوسلافيا (١٩٢٠-١٩٤٥ و١٩٤٥-١٩٩١)، كان أعضاء الأمة الصربية يسيطرون على الدولة وأجهزتها بالكامل تقريبًا. وبالتالى، فإن الميل إلى العودة إلى نوع من المظلة اليوغوسلافية يمثل، ميلًا لقبول هيمنة «العالم الصربى»، كما يطلق عليه. يتزامن هذا الآن - خاصةً فى البوسنة والهرسك - بشكل كبير مع تثبيت «العالم الروسى» لأقدامه على الأرض، لأن العالمين «الصربي» و«الروسي» - خاصة بعد العدوان على أوكرانيا - يتشكلان الآن بطريقة أكثر تماسكًا.
لكن قرونًا من التعايش مع الشعوب الأصلية فى شبه الجزيرة البلقان تركت بصماتها، خاصةً فى فترة الحكم الملكى وحكم التيتويست.
كرواتيا إلى جانب البوسنة والهرسك، كانتا أكثر مواجهة مع العنصر الصربى. طوال التسعينيات، كانت الحكومة الكرواتية تحرر الأراضى الوطنية. نجحت كرواتيا فى الحفاظ على الروح التحررية الذى انطلقت مع أول انتخابات ديمقراطية (١٩٩٠) وإعلان الاستقلال (١٩٩١). ومع ذلك، بعد وفاة فرانجو توزمان (أول رئيس منتخب ديمقراطيًا بعد عام ١٩٤٥)، حدثت نقطة تحول تميل إلى التهرب من إرث الأب المؤسس لكرواتيا الحديثة باسم تقريب كرواتيا من الاتحاد الأوروبى. هذه العملية تعنى التخلى عن المشاعر الوطنية لصالح نهج أجندة بروكسل. ومع ذلك، فإن هذا لم يحدث دون أدنى شك. إذ يبدو أن الاتحاد الأوروبى المعاصر قائم على التشكيك فى الكيانات الأنثروبولوجية الأساسية للإنسان، وهى الأمة والأسرة والدين والدولة.
وبالتالى، فإن إدخال «المعايير الأوروبية» لا يمكن أن يتم إلا فى ظل سياق من الغموض أى «المزيد من أوروبا» يعنى أن تتزايد السياسة الأوروبية فى توسعاتها وسيطرتها وتدخل تحت مظلتها أوكرانيا؛ فنظرية «الكل فى الكل»، ليست إلا مجرد خداع بلاغى، لا معنى له.
نتيجة لذلك، بدأ النموذج الصربى بالترسخ، والذى من المفترض أن يكون الترياق الفعال للمشاعر القومية الكرواتية. واليوم، ازداد الوضع سوءًا، حيث يُنظر إلى «الروح الأوروبية» من منظور الأيديولوجيات التى تضغط بها بروكسل على الدول الأعضاء والتى يمكن تلخيصها تحت قاسم مشترك وهو «الووكى». اليوم (٢٠٢٣)، «المزيد من أوروبا» لن تعنى «أقل من كرواتيا».
وهذا يعنى أن كرواتيا كفكرة ينبغى محوها من الساحة العامة. من ناحية أخرى، إذا كان من غير الصحيح سياسيًا التحدث عن كرواتيا، فلا توجد رقابة على خطاب قد يشمل صربيا. يشكل الصرب أقلية فى كرواتيا، لكن أقلية تكتسب حقوقًا على حساب الأغلبية، وهو مما يشكل عنصر فى نموذج «الووكيزم"
حركة «الووكيزم»، مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف الظروف، ترجع جذورها إلى ثورة أنثروبولوجية، ثورة ١٩٦٨. ومع ذلك، فقد خطت الحركة خطوة إلى الأمام لأنها تسعى ليس فقط إلى محو الجنسيات، ولكن تجاوز فكرة النوع (الرجل والمرأة) والأسرة والماديات والعقائد.
وهنا لا يجب أن ننسى، أن كرواتيا أكثر حساسية لأنها حافظت على مجموعة القيم الأساسية كما هى؛ تظل الأسرة والأمة والدين أقوى عناصر المجتمع خاصةً أنها واحدة من أكثر الدول التقليدية فى الاتحاد الأوروبى. وهنا نذكر أن عمدة زغرب (العاصمة)، توميسلاف توماشيفيتش، على سبيل المثال، هو أحد أبرز ممثلى هذا النوع الجديد من «الفكر»، خاصةً أن حركة «نستطيع» التى ينتمى لها هى حركة مستوحاه من حركة «ووك». وكذلك رئيس بلدية سبليت، إيفيكا بولجاك وزوجته، ماريانا بولياك، عضو حزب الوسط ينتميان إلى نفس الحركة. وهذه الحركة تسعى دائمًا إلى الدفاع عن الأقليات وعدم اضطهادها.
لذلك، يفرض «العالم الروسي» وجوده فى كرواتيا وبشكل متزايد فى البوسنة والهرسك، فى شكل سيطرة بلغراد على الفضاء الحيوى للأمة. فى جميع أنحاء البلقان، العنصر الصربى يفرض نفسه. من يعارض ذلك، فسيعارض الأيديولوجية السائدة لبروكسل، والتى تفترض مسبقًا «المبدأ الصربى» كمبدأ تحييد الهوية الوطنية الكرواتية (والبوسنية) مما يعنى أن الأقلية تتفوق على الأغلبية. وهذا يعنى أن «العالم الصربى» من وجهة نظر بروكسل هو شيء إيجابى إذا فرض نفسه فى زغرب أو سراييفو. ولكن الأمر مختلف فى كوسوفو بسبب الجمود التاريخى. تم إنشاء كوسوفو من قبل الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، كعقاب لميلوسوفيتش. هذا هو السبب فى أن «العالم الصربي» هناك (حتى الآن) يُنظر إليه بشكل سلبى فى نظر الغربيين.
ميلوراد دوديك، الممثل الرئيسى للصرب فى البوسنة والهرسك ومؤيد لتفكك البوسنة والهرسك ولا يخفى تعاطفه مع بوتين. على العكس من ذلك، فهو من أبرز السياسيين فى أوروبا فى هذا الصدد. الكرملين غير راضٍ عن وحدة البوسنة والهرسك لأنها تأتى على حساب «صربيا الكبرى». وهذا هو سبب إصرار دوديك: «لقد حان الوقت لجميع الصرب للعيش فى بلد واحد!.. للبقاء فى السلطة، يجب تقديم التنازلات للغرب من جهة و«العالم الصربى» من جهة أخرى.
كريستيان شميت وهوالممثل السامى الجديد للبوسنة والهرسك كان مروجًا لانضمام كرواتيا إلى الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى.
عمل وزيرًا للزراعة فى ألمانيا خلال فترة العقوبات المفروضة على الاتحاد الروسى (٢٠١٤ -) حرص على تنفيذها بصرامة. ومع ذلك، فقد وُضع فى موقف لا يُحسد عليه، إذ لا يتمتع بالقدر الكافى من النزاهة السياسية والتشريعية والتنفيذية للبوسنة والهرسك. أيضًا كونه يعمل كرئيس مؤقت فقط هى أكثر إشكالية تواجهه إذ يعمل الاتحاد الروسى على منع تعيينه. وبالتالى فإن المرشحين الآخرين يبرزون فى الخلفية.
بوروت باهور وهو الرئيس السابق لجمهورية سلوفينيا (٢٠١٢-٢٠٢٢)، وهو مؤيد لأوروبا ومتحيز للتحالف عبر الأطلسى.
لكن سلوفينيا انتخبت للتو رئيسًا جديدًا هى السيدة ناتاشا بيرك موسار.
فقد أدت اليمين فى ٢٣ ديسمبر ٢٠٢٢ وقد كان داعمها الرئيسى فى الانتخابات ميلان كوتشان، الرئيس السابق لجمهورية سلوفينيا والسكرتير الأخير للجنة المركزية للرابطة الشيوعية السلوفينية (حتى عام ١٩٩٠).
وهو مشهور بـ"الورقة غير الرسمية» الكارثية حول مصير البوسنة والهرسك. يعود تاريخ الوثيقة إلى عام ٢٠١٠، ويصف الوضع فى البوسنة والهرسك بشكل نقدى وبجرعة جيدة من السلبية. ووفقًا له، فإن الوضع لا يمكن تحمله، وبدون تغيير جذرى، فإنه سيهدد السلام فى المنطقة بأسرها: «إن الوضع الراهن يهدد سلام واستقرار البلاد، فضلًا عن استقرار جنوب شرق البلقان».
ولكن هناك مشكلة أخرى: الإدارة الأمريكية لا تؤيد وجود البوسنة والهرسك مما يفسر انضمام فلاديمير دوديك إلى الحكومة الجديدة. كما لو أنه تم حذف الالتزام بالانضمام إلى الناتو من اتفاقية التحالف، وهو أمر لم يكن ممكنًا لولا موافقة واشنطن. لكن الأمريكيين طالبوا بسحب العضو البوسنى من الرئاسة، بكير عزت بيغوفيتش.
يبدو أن مشكلة غرب البلقان قابلة للحل فيما يتعلق بالمواضيع الأكثر تقليدية للجغرافيا السياسية الأوروبية، ودول فيسغراد، وخاصة بولندا. ينبغى لهذه البلدان أن تثبت أن البوسنة والهرسك لديها أصدقاء فى أوروبا ويمكنها الاعتماد عليهم. بغض النظر عن مصالح القوى العظمى، التى، فى الوقت الحالى، لا تتماشى على الإطلاق مع مصالح البوسنة والهرسك.
معلومات عن الكاتب
سيباستيان ماركو تورك.. دكتوراه فى الآداب من جامعة باريس السوربون وأستاذ جامعى، يستعرض الأوضاع فى منطقة غرب البلقان فى محاولة لتقديم مفاتيح تساعد القارىء إلى فهم خريطة تلك المنطقة من العالم
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي: