الكارثة الطبيعية ليست مجرد مصيبة سقطت من السماء.. إنها أولًا وقبل كل شيء «اختبار حقيقى» لمؤسسات المجتمعات المجهزة بخدمات الطوارئ
سان فرانسيسكو كانت من أكثر المدن ازدهارًا فى الولايات المتحدة ولكنها الأكثر فسادًا فدمرها زلزال 1906 وأدانت الدعاوى القضائية أعضاء مجلس المدينة لغياب معايير السلامة
تعرضت تركيا وسوريا لموجة عنيفة من الزلازل متكبدة فى ذلك خسائر بشرية ومادية فادحة تجاوزت خطورتها ما حدث فى مدينة أزمير التركية (مرمرة) فى أغسطس ١٩٩٩.
تميل شركات التأمين إلى اعتبار هذه الأحداث المدمرة «كوارث طبيعية» شأنها شأن الفيضانات والتسونامى والانفجارات البركانية. ومازل الإنسان يجهل الأسباب وراء الزلازل خاصة أن أنشطته الصناعية المسئولة عن تغير المناخ ومصائبه، لاعلاقة لها بـ"تكتونية الصفائح» (الطبقات المختلفة للأرض). وبرغم ذلك فإن الإنسان هو المسئول فهو الذى يبنى الأبنية والبنية التحتية المتضررة ولا يزال هو الذى ينظم إنقاذ ورعاية الضحايا.
فى مجتمعاتنا المتحضرة، المجهزة بخدمات الطوارئ، فإن الكارثة الطبيعية ليست مجرد مصيبة سقطت من السماء، ولكنها أولًا وقبل كل شيء «اختبار حقيقي» لمؤسساتنا التى هى فى الحقيقة المسئولة عن الضحايا وليس عن الزلازل.
وأشهر مثال على ذلك هو مدينة سان فرانسيسكو؛ قبل أن يتم تدميرها بالكامل تقريبًا بسبب زلزال بلغت قوته ٧.٨ درجة على مقياس ريختر فى أبريل ١٩٠٦، كانت سان فرانسيسكو واحدة من أكثر المدن ازدهارًا فى الولايات المتحدة ولكنها أيضًا الأكثر فسادًا. وأثبتت الدعاوى القضائية فساد أعضاء مجلس المدينة، خاصة فيما يتعلق بمعايير السلامة والبناء إذ أسفر الزلزال عن مقتل ٣٠٠٠ شخص.. لقد تم فهم الدرس؛ ولكن ليس فى كل مكان!.
فى أغسطس ونوفمبر ١٩٩٩، ضرب زلزالان كبيران منطقتى مرمرة ودوزجى فى شمال غرب تركيا وكان أكثر الزلازل تدميرًا هو زلزال مرمرة الذى بلغت قوته ٧.٤ درجة وبعد ذلك بثلاث سنوات، تعرضت مدينة بينجول فى شرق البلاد لزلزال كبير آخر (بقوة ٧.٢ درجة).. تسببت هذه الأحداث الكارثية الثلاثة فى أكثر من ٤٠ ألف قتيل ودمرت ٣٠٠ ألف منزل. ومع ذلك، فإن الكارثة البشرية التى أعقبت كل من هذه الكوارث الطبيعية يمكن أن تُعزى فى جزء كبير منها إلى تحركات السلطات المحلية والوطنية، فى كل من البداية والنهاية.
بعد الانقلاب العسكرى فى الثمانينيات، أطلقت الحكومة التركية بقيادة تورجوت أوزال إصلاحًا رئيسيًا فتح الباب أمام تحرير وعولمة الاقتصاد. كان من شأن هذا الانتقال السريع من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق الحر أن يزعج قطاع البناء والأشغال العامة. بشكل ملموس، لم يتم توفير أراضى بناء للشركات والمصالح الخاصة بشكل كافٍ من قبل الحكومة.
ورغم التطور السريع لمدن مثل اسطنبول، فإن من الصعب أن نغفل نظام الفساد السائد آنذاك والقروض المصرفية غير المبررة، والرشاوى الأخرى المدفوعة للمسئولين المنتخبين فى المناصب الاستراتيجية، ناهيك عن مراقبى ومفتشى السلامة وجودة البناء. شيئًا فشيئًا، أدى مزيج من ممارسات الفساد الاقتصادى والمحسوبية السياسية إلى خلق نظام حقيقى للفساد.
والأسوأ من ذلك، كان البعض يبنون فى العقارات السكنية طوابق مخالفة، معتمدين على «قرارات العفو عن جرائم البناء» التى يتم الإعلان عنها فى كثير من الأحيان عشية المواعيد النهائية للانتخابات. القوانين واللوائح المقيدة موجودة بالفعل ويتم تحديثها بانتظام ولكن تم التحايل عليها من قبل «النظام». تم تأسيس العديد من شركات المقاولات بدون رأس مال أو خبرة تعتمد فقط على العلاقات الوثيقة بين «رائد الأعمال» وأصدقائه فى المجتمعات المحلية. كل هذا انتهى بكارثة. وبعد ذلك وجدنا المقاول فيل جوسر هو المسؤل عن هذه الكارثة؛ فقد انهار مجمع المبانى الذى بناه فى مدينة يالوفاسى فى زلزال ١٧ أغسطس وتسبب فى مقتل ١٩٨ شخصًا بسبب الإهمال، وحُكم عليه بالسجن ١٨ عامًا. ومن بين أكثر من ٦٠٠٠ شخص حُكم عليهم بسبب مسئوليتهم عن الخسائر البشرية الكارثية، كان هو الشخص الذى تلقى أشد الأحكام.
وما قاله فى محاكمته يخبرنا الكثير عن عواقب هذا «النظام». قال فيلى جوسر للقضاة: «لقد بدأت فى بناء المجمع فى يالوفا منذ حوالى ست سنوات». وأضاف «لم تكن لدى فكرة عن البناء؛ فدراستى كانت فى مجال الأدب فى المدرسة. أنا شاعر ولست مهندس بناء. أتذكر زيارة موقع البناء الأول الخاص بى. رأيت عمالًا يستخدمون رمال الشاطئ لصنع الخرسانة وعندما سألت ما هذا؟ أخبرنى المهندسون المعماريون أن هذا أمر طبيعى؛ لكنى علمت فيما بعد أن هذا يعد خطأ مدمرًا؛ لذلك أمرت بوقف هذه الممارسة المثيرة للاشمئزاز لكن لسوء الحظ قد تم الانتهاء من بناء نصف المجمع بالفعل».
بعد أكثر من عشرين عامًا، صور المبانى السكنية المنهارة على سكانها وكأنها مصنوعة من الورق تكشف أن الممارسات القديمة الفاسدة مازالت قائمة وهى التى تسببت فى آلاف الضحايا.
معلومات عن الكاتب
جيل مهاليس.. رئيس تحرير موقع ومجلة كوزور الفرنسية، يتناول، هنا، مسألة الزلازل من زاوية مختلفة.. فلنقرأ ونرى.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:
https://www.ledialogue.fr/