تعيش أوكرانيا حالة سباق مع الزمن فهى تسعى دائمًا للحصول على شحنات أسلحة ضخمة جديدة كل يوم، والتى لن تصل على أى حال بالسرعة الكافية أو بالكميات الكبيرة التى تسمح بتغيير الوضع.. وفى الوقت نفسه تسارع موسكو فى شن هجوم جديد قبل أن يتم تعزيز أوكرانيا من قبل الاحتياطيات البولندية التى يتم حشدها حاليًا وقبل وصول الدبابات الموعودة والصواريخ بعيدة المدى الأخرى، خاصةً أن ١٠٠ دبابة أو حتى ٣٠٠ لن تحدث فرقًا فى مواجهة الآلاف من الجيش الروسى والقوة البشرية المجددة والممتدة، إضافة إلى الذخيرة والأسلحة التى لا تنضب فى اقتصاد حرب يعمل بأقصى سرعة.
منذ البداية، لم ترغب موسكو فى ضرب السكان المدنيين الأوكرانيين؛ لكن ضبط النفس هذا الذى أراده الرئيس الروسى لأسباب سياسية واضحة والتى لن نعترف بها أبدًا، إلى جانب تصعيد الدعم الغربى لنظام كييف، يطيل من المحنة، وقبل كل شيء يمنح واشنطن وقتًا لمجانين الحرب الذين يحيطون بالرئيس البائس بايدن ويدفعونه إليها دائمًا، ولا يعرف وزير الخارجية بلينكين ما هى الحرب وهذا واضح تمامًا من كل ما يقوله.. دائما ما يظهر من تصريحاته غضبه المناهض لروسيا، ونكساته الدبلوماسية فى الخارج فى وجه روسيا التى تستخدم دبلوماسيتها فى جميع الاتجاهات وأيضا فى وجه الصين غير المبالية لعدائها. فى الحقيقة، كل ذلك يخلق حالة من الدوجماتية المسعورة التى تسيطر على الشعب الأوكرانى، أكثر بكثير من الروس ويبدو أن الأوكرانيين سيدفعون ثمن كل ذلك.
لماذا وصلنا إلى هذا المستوى من الكبرياء والعمى؟ ألا نرى خطر الانزلاق غير المنضبط على كلا الجانبين؟ ماذا تريد أمريكا فى أوكرانيا؟ بالتأكيد، ليس لإنقاذها أو للحفاظ على ما تبقى من الأمة والشعب الأوكرانيين، التى ألقيت بدون أى دراسة أو تأنى فى مواجهة غير متكافئة لا سبيل للخروج منها سوى الانهيار. إن أمريكا لا تريد سوى مواصلة هذه المجزرة، وهى تضحية ضرورية؛ حيث ترى واشنطن انه من الضرورى العمل على إضعاف روسيا قدر الإمكان وبشكل دائم، لينتهى بها الأمر إلى زعزعة استقرار القوة الحالية واستبدال بوتين بـ"يلتسين جديد» ليجعل من الممكن استئناف نهب موارد هذا البلد الغنى مثلما حدث فى نهاية التسعينيات. ولكن لن يكون هناك يلتسين جديد! كانت تسعينيات القرن الماضى هبة من السماء للغربيين مما سمح لهم ببناء أنفسهم على بقايا الاتحاد السوفيتى وبالنسبة للروس كان كابوسًا؛ لذلك فلن ينخدعوا مرة أخرى. ولن يعيد التاريخ نفسه.
لقد دخلنا جميعًا فى سوق واسعة من الحمقى.. قوة كييف والتى تم دفعها إلى المواجهة ضد موسكو أدركت أنها ببساطة لا تملك القوة. أوروبا بأذرع مفتوحة، دون أن تفهم أنه يجب أن تستعيد السيطرة وإلا ستختفى إلى الأبد فى هوة التهميش الاستراتيجى. ليست الميزانيات العسكرية هى التى ستجعلنا نأخذ على محمل الجد التوجهات السياسية فى بكين أو موسكو أو طهران أو حتى فى القاهرة أو أنقرة.
مع ذلك ففى الوقت الذى يتصاعد فيه خطر المواجهة بين «إمبراطورية» الغرب بقدرتها الجماعية المحدودة وبين «عالم مضاد» ينمو يومًا بعد يوم لقوى عالمية وإقليمية نجد أنفسنا نضع رؤوسنا فى الرمال لا نريد رؤية الفيل فى الغرفة! هذا الإنكار العنيد للواقع بمثابة جمرة تلقى على نار لم تعد مشتعلة لكنها تهدد بإقحام أوروبا فى حرب قبل دفنها إلى الأبد فى الدور الأمريكى غير المجدى الذى يتهاوى فى طريقه للتراجع الامبراطورى الواضح. كل هذا لأن التغيير فى العالم قد حدث بالفعل.
إن تراجع الدولار فى الاقتصاد العالمى أمر واضح، كما يتضح بشكل خاص من الدور الرائد للسعودية ولكن أيضًا فى جزء متزايد من إفريقيا؛ لقد أدى الصراع الأوكرانى إلى التأكيد على هذا التراجع للدولار؛ ليس الدب الروسى هو المصاب، بل النسر الأمريكى.
المواجهة عالمية حيث تجرى أحداث اللعبة فى أوروبا ولكن أيضًا فى إفريقيا وآسيا وآسيا الوسطى أيضًا، والتى ستكون بالتأكيد منطقة لزعزعة الاستقرار فى المستقبل، وكذلك فى القوقاز والشرق الأوسط. اليد العليا ليست لأمريكا ولا لأتباعها الأوروبيين. إن تراجع الدولار من الاقتصاد العالمى مستمر، وعملة بريكس (R٥) تتزايد وسياسة عدم الانحياز تتنامى. فقط أوروبا تبقى فى ولاء سعيد لإمبراطورية فى حالة إهمال داخلى وخارجى كامل، وقواتها المسلحة - على الرغم من ضحامة الميزانية
- أقل كفاءة، من الناحية التكنولوجية أو حتى من الناحية الكمية فى مناطق معينة وأثبتت عدم القدرة على مواجهة منافسيها الجيوسياسيين الصينيين أو الروس.
لذلك هناك حاجة ماسة للعودة إلى العقل. هل نحن قادرون على ذلك؟ لست متأكدة! مازال الغرور يسيطر على قلوب هؤلاء الرجال. لا أحد يهتم بشروط الحد الأدنى من الحوار، وتخفيف التوترات، ولا حتى فى السلام، وهو مفهوم أكثر مثالية من أى وقت مضى. انعدام الثقة فى ذروته. تسود الكراهية والأكاذيب فى وجه «العدو النظامى الروسى» الذى قرر أخيرًا المواجهة من أجل كسر محاولات تطويقه وتشويه صورته. ومع ذلك، فإن التفكير فى السلام ووضع خطة طريق له على أساس واقعى أصيح أكثر إلحاحًا من أى وقت مضى. نحن بحاجة إلى مبادرة سلام يقترحها أولئك الذين حافظوا على قدر من الوضوح وفتح محادثات بين الجنود الروس والأوكرانيين دون شروط مسبقة.
روسيا جارتنا إلى الأبد وليست عدوًا. شنت «عمليتها العسكرية الخاصة» وهى تعلم أنها تقع فى فخ مأساوى. هل لديها خيار؟ إن غزوها لأراضٍ ذات سيادة مثل أوكرانيا غير قانونى، لكن هذه الحقيقة لا تغلق باب الجدل: الأمن فى أوروبا فى حالة يرثى لها؛ فلقد خسرت أوروبا كل شيء فى هذا الفخ. إنها لا تفهم أنه يجب عليها ولا يزال بإمكانها أن تجد مكانها فى العالم الجديد. أما بالنسبة لفرنسا، فهى بالتأكيد لم تعد تفهم أى شىء حول طريقة عمل العالم وتتعمد إلقاء قوتها المتبقية وتأثيرها فى البوتقة الأوروبية التى لم تعد ذات أهمية استراتيجية.
لم يعد مجديًا الحديث عن المدينة الفاضلة. علينا أن نستعيد كل شىء، فى إفريقيا وآسيا وأوروبا أيضًا، فى مواجهة الولايات المتحدة وروسيا والصين. يجب أن نعيد تأسيس سياستنا الخارجية على أسس عملية تتوافق مع مصالحنا. قال راسين فى أحد تصريحاته: «بدون المال، الشرف ليس إلا مرض». هنا يجب أن نوضح أن الحديث عن «القيم» دون الدفاع عن المصالح أمر غير مجدٍ ويجب على فرنسا أن تنخرط فى دعم الدول المحورية للاستقرار الإقليمى. فى الحقيقة، تاريخ العالم ليس قصة وردية ولا الأرض مكان للأحلام الزرقاء! لا شك أن تاريخ العالم تصنعه الفتوحات والدم والمساهمات الثقافية كما يتم صنعه أيضًا بالسخرية والأكاذيب.
وهكذا. لن يكون هناك تعايش سلمى إلا بالاعتراف بسيادة الدول ووقف الإمبريالية الثقافية الأوروبية والأمريكية. لم يعد هذا الخطاب هو الخطاب السائد الذى يمر عبر المنحدر.. العالمية باتت هى محرك الهيمنة لكافة الدول.
السلام ليس صمتًا أو استعبادًا أو هيمنة نهائية. السلام هو بالضرورة توازن غير كامل ولكنه محتمل. لا يمكن لأوكرانيا أن تنتمى إلى الناتو لأسباب تتعلق بأمن القارة الأوروبية بأكملها. يجب استبعاد حكومة كييف وأنصارها. من الضرورى التفاوض فى أسرع وقت ممكن بين الأشخاص العقلاء. فكلما طال انتظارنا، كانت هذه المفاوضات أكثر استسلامًا للشروط الروسية. إذا كان دخول روسيا إلى أوكرانيا غير قانونى، فمن النفاق التعامل معه كما لو كان أمرًا غير مرغوب فيه. فقد كان يتم الإعداد له منذ ٢٠١٤ واعترفت بذلك أنجيلا ميركل، وحتى أوليكسى أريستوفيتش المستشار الخاص للرئيس زيلينسكى.. لقد اعترفا فى العلن وأمام الجميع بكل ذلك. كل هذه المهزلة تتم على حساب شعب يُضحى به مثل الشعب العراقى أو السورى أو الليبى باسم النظام المتغير وتفوق النموذج الغربى الديمقراطى والليبرالى، وإخفاء الرغبة فى السلطة والسيطرة والافتراس على ثروات الأمس العراقية والليبية والسورية، والآن الروسية.
يهدف هذا التركيز الطويل على أوكرانيا إلى إظهار مأساة الوضع الذى يصعب على الغرب استرداده والذى يحمله الغطرسة المنفصلة عن الواقع. لقد مات من عقدة تفوقه التى أصبحت الآن من الآثار القديمة المضحكة لبقية العالم. لقد تلاشى نجمه قبل كل شيء لأن الهوة بين الخطاب الأخلاقى وسخرية الأفعال ظهرت فى وضح النهار وقامت بتغذية هذا التشويه. ولفتح باب الحوار، يجب على المرء أن يحترم الآخر؛ لكن روسيا فقدت الثقة بل واحترام الأوروبيين والأمريكيين (ناهيك عن البريطانيين). أما بالنسبة لنا نحن الغربيين، فقد حبسنا أنفسنا عمدًا فى كراهية غير مبررة حيث نعتقد أن الاحترام أو الحوار مع موسكو لا طائل من ورائه ويدعم هذا الاعتقاد فكرة كاذبة وهى انتصار أوكرانى.
ماذا يجب أن نفعل فى مثل هذا السياق وهذه الظروف؟.. علينا الدعوة إلى الوقف الفورى للقتال والمفاوضات غير المشروطة على أساس الوضع الإقليمى الراهن؛ ودعم «التحييد» الاستراتيجى لأوكرانيا واستحالة دخولها إلى منظمة حلف شمال الأطلسى على الإطلاق. وعلينا إعادة بناء شبكة الاتفاقات الأمنية فى أوروبا التى دمرتها الولايات المتحدة بشكل أساسى ووضع حد للعقوبات التى جعلت أوروبا راكعة على ركبتيها. ويبدو أن العودة إلى المبادئ الأولية لميثاق الأمم المتحدة هى الأساس الممكن الوحيد لتعايش محتمل. فهذا الميثاق يقدس احترام السلامة الإقليمية للدول وكذلك حق الشعوب فى تقرير المصير. ويجب أن نخرج من دائرة الكراهية ونتذكر ما الذى يصنع ويقوى البشرية إنه: التنوع. سيكون عام ٢٠٢٣ هو عام الأوهام الضائعة للغرب.. تلك الأوهام التى كانت لديه عن الآخرين وأيضًا تلك التى يعتقد أنه يمكن أن يحتفظ بها عن نفسه.
آمل بشدة أن يكون الحوار، هذا الوسيط الجديد الذى أعبر فيه عن نفسى اليوم، هو المكان الذى سيكون فيه ممكنًا ومفيدًا النقاش حول كل ما يصنع شكل العالم، وعنفه وحول حاجة جميع الشعوب والأمم إلى فهم أفضل والتسامح مع بعضها البعض. هذا ليس إيثارًا أو ملائكية. إنه رفض للادعاءات الأخلاقية الكاذبة. بالفعل هناك الكثير من الضحايا الأبرياء الذين يبرهنون على أن الوقت قد حان لتغيير جذرى فى المواقف.
معلومات عن الكاتب
كارولينجالاكتيروس.. رئيس المركز الفرنسى للجغرافيا السياسية الواقعية، مسؤولة بمعهد دراسات الدفاع الوطنى عن التقييم الاستراتيجى والتنبؤ فى مناطق النزاع، لها عدة دراسات حول القضايا الدولية والاستراتيجية والدفاعية، وأصدرت عدة كتب فى هذه القضايا.. تتناول، هنا، الغرور الغربى الذى أدى إلى زيادة اشتعال وتيرة الحرب فى أوكرانيا بدلًا من السعى نحو حل يحفظ القارة العجوز ويقيم نظامًا شاملًا للأمن فى أوروبا.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي: