الأربعاء 12 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

خالد عزب يكتب: البحر المتوسط المشترك والتراث من طه حسين إلى فرنان برودال

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بات ضروريًا إقامة مهرجان تراث وفلكلور البحر المتوسط مرة كل 3 سنوات فى مدينة على ساحل المتوسط
 بحر له شخصية معقدة ومركبة وفريدة ويحمل تاريخ تطور الحضارة الإنسانية منذ عصور ما قبل التاريخ إلى عصرنا الحالى
 

 

 

البحر المتوسط يختزل تاريخ تطور الحضارة الإنسانية منذ عصور ما قبل التاريخ إلى عصرنا الحالى.. بحر له شخصية معقدة ومركبة وفريدة، ليس بسيطا فى جغرافيته كما ينظر له البعض، بل تتقطعه جزر وشواطئ متشعبة، وكان بحارته يعملون فلاحين، ويعلمون أنه بحر العنب والزيتون، الجدل بين البحر واليابسة أعمق مما نتخيل، هذا الجدل نرى صداه لدى اثنين من كبار الكتاب فى الشمال والجنوب، فى الجنوب قاد الدكتور طه حسين الذى يمر هذا العام على وفاته ٥٠ عامًا، دائرة البحر المتوسط كدائرة أساسية فى علاقة مصر بمحيطها وفى التأثير والتأثر، ليجيء المفكر الفرنسى فرنان برودال الذى كرس ١٨ عاما من حياته بدءا من العام ١٩٢٣ لدراسة البحر المتوسط وفهمه، ليخلص إلى أنه من القرن ١٦ مع انتقال جزء من ثقل التجارة الدولية للمحيط الأطلسى، إلا أن البحر المتوسط ظل إلى عصرنا محط حراك العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، كان طه حسين فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر أثار أهمية البعد المتوسطى لمصر، لكن دوره لم يقف عند هذا الحد، بل تجاوز التنظير إلى الفعل، عبر تحفيز الدراسات اليونانية الرومانية فى جامعة القاهرة، إلى دوره فى التعريف بالفكر الغربى المعاصر إلى المصريين والعرب، لكن أيضا تجاوز ذلك حين أصبح وزيرا للمعارف فى مصر من ١٩٥٠ إلى ١٩٥٢ حيث أسس معهد الدراسات العربية فى مدريد، والذى كان له دور إلى يومنا هذا فى إعادة إحياء التراث الأندلسى كجسر حيوى فى العلاقات العربية الأوروبية، فنشطت بعد ذلك هذه الدراسات فى الجامعات الإسبانية، ليكتسب الاستشراق الأوروبى عبر ذلك بعدا جديدا معبرا عن الجسور وليس دورا ناقدا فقط.. من أين أتى هذا كله؟ إنه المتوسط الذى جعل اليونانيين يعبرون البحر إلى مصر لينهلوا من حضارتها، فى معابد عين شمس، حتى رأينا فى عصرنا باحثين يذهبون إلى أن الفلسفة اليونانية ما هى إلا صدى للفلسفة فى مصر القديمة، لكن الأهم هو نقل اليونانيين الديانة المصرية القديمة لأوروبا، فنرى أبو الهول بأشكاله يعثر عليه فى العديد من المواقع الأوروبية ونرى صدى الديانة المصرية القديمة فى الفكر الدينى فى أوروبا قبل المسيحية، لكن منذ عصر الأسرة ٢٦ يستقر اليونانيين فى مصر بكثافة حتى يؤسسوا مدنا وقرى فى شمال دلتا النيل بصورة أساسية، وما زالت مدينة مطوبس باقية إلى اليوم على فرع رشيد (أحد فرعى نهر النيل فى دلتا مصر) باسمها اليونانى وتلها الأثرى الذى كانت به فسيفساء متأثرة بمثيلتها فى بلاد اليونان، هنا يبرز لنا دهشة المؤرخين فى دخول الإسكندر مصر ثم فى طلبة المعابد المصرية ليحصل منها على الاعتراف وهو المتشبع بالثقافة المصرية القديمة، وفى حقيقة الأمر حين دخل الإسكندر مصر كانت الجالية اليونانية تمثل نسبة لا بأس بها من سكان مصر، كما أن المصريين تحالفوا معه لطرد الاحتلال الفارسى.

 

فرنان برودال 


إن حلم الإسكندر فى تذويب شمال وجنوب المتوسط فيما عرف تاريخيا بالحضارة الهلينستية، لم يجرى تحققه إلا على يد الفينقيين سكان سواحل فلسطين ولبنان وسورية الذين أحدثوا ثورة فى الملاحة البحرية فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد حين اكتشفوا الملاحة المستقيمة، لنرى تراكم الخبرات والتجارب فى هذا البحر أدت لنمو وازدهار لم يشهد أى بحر آخر فى العالم مثله، لذا كان هذا البحر هو محور تدور حوله الأحداث والحروب والحضارات، وهنا يجيء فرنان برودال ليخبرنا أن الجغرافيا ترسم حدودا للنشاط البشرى، وتحدث عن الأطر الجغرافية الصلبة التى تختزن فى داخلها تجارب عاشها الإنسان وتوارثها عبر قرون، من قال إن التفاعل يبنى بنى عميقة فى داخل المجتمعات كان صادقا فمصر منذ العصر الرومانى استقرت بها جالية إيطالية فأصبح لدى المصريين جينات ممتدة من هذه الحقبة، لنرى فى العصر الملوكى تجار إيطاليين يتمركزون فى مصر حتى صار تجار من البندقية وجنوة وفلورنس يستقرون فى مدينة فوة فى مصر، ليحصلوا على امتيازات فى مراسيم مملوكية سلطانية ويصبح لهم قنصلية فى ميناء داخلى فى مصر يقع على نهر النيل.. هم دخلوا إلى أعماق مصر، لذا حين جاء الإيطاليون ليستقروا فى مصر فى القرنين ١٩ و٢٠ رأينا تفاعلهم وتداخلهم مع أهل مصر سريعا، حتى استقرت مئات الكلمات الإيطالية فى العامية المصرية بسرعة، وما زالت باقية إلى اليوم، ثم منذ سبعينيات القرن العشرين حين حدثت هجرة عكسية من الشباب المصرى إلى إيطاليا سرعان ما تفاعل معهم المجتمع الإيطالى واندمجوا فيه حتى رأينا نماذج مشرفة منهم فى كل المجالات فى إيطاليا.
إنها روح المتوسط هذه الروح التى نحن فى حاجة ماسة لإعادة اكتشافها بصورة جديدة، بل بترسيخها شعبيا وثقافيا من جديد، فأنت حين تزور موانئ البحر المتوسط ستجد روحا متشابهة بينها تظهر بوضوح فى علاقة المدينة بالبحر وفى طرز المساكن وفى الشوراع، من يزور الإسكندرية وصفاقس ووهران وطنجة ومرسيليا وفينسيا وجنوة سيجد هذه الروح حاضرة، وإن كنت من أحد أبناء هذه الموانئ لن تحس بحالة من حالات الاغتراب، هناك فى داخلك شيء ما يشعرك بالحنين إلى كل هذه الموانئ، لكن يبقى السؤال الأهم: هل أثر نشاط التجارة عبر الأطلسى بعد معرفة الأوروبيين وهجراتهم للأمريكيتن على البحر المتوسط، فى حقيقة الأمر كان تأثيرا نسبيا وليس ذلك التأثير الذى ينهى دور المتوسط، فما زالت حركة التجارة الدولية عبر المتوسط نشطة وكبيرة، وجاء حفر قناة السويس وافتتاحها عام ١٨٦٩ م لكى يعيد للمتوسط ألقه وأهميته مرة أخرى، بل ولتحمل بورسعيد روحا متوسطية باستقرار جاليات أوروبية بها.
 

طه حسين


هل ما زلنا فى حاجة إلى المزيد من أجل فهم المتوسط وروحه؟ 
فى حقيقة الأمر إن العقود الأخيرة شهدت دراسات مكثفة فى الجامعات شمال وجنوب المتوسط وعقدت مؤتمرات وندوات ومحاضرات ونشرت أبحاث، ليبقى كل هذا داخل دوائر الجامعات والبحث العلمى والدوائر السياسية، لكن هذه الروح المتوسطية يعوق ترسيخها فى السنوات القادمة هو عدم بناء شراكات ومصالح متبادلة قوية بين الشعوب والدول، وكانت مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط مبادرة رسمية لم تمتد إلى بناء شراكات على أرضية المصالح المشتركة، كما اغن المناهج التعليمية على ضفتى المتوسط بها قصور فى التعريف بهذه الروح، فهى تركز على الحروب والخلافات السياسية، دون أن تقدم قراءة تبعث على البحث عن المشترك، لذا بات من المهم بعث هذه الروح عبر متحف فى الشمال وآخر فى الجنوب يقدم روح المتوسط، وعبر مهرجانات تقدم هذه الروح، ولنا فى هذا أن نثير أن من لطائف المتوسط انتشار الباذنجان فى مطابخ شرق المتوسط، بحيث نرى فى قبرص ابتكارات فى استخدامه مختلفة عن استخدامه فى المطبخ السورى بل ليتباين كل هذا مع استخدام الباذنجان فى المطبخ المصرى، فما الذى يمنع فى إثراء الشعوب عبر مهرجان ينتقل كل عام من بلد لأخرى تتنافس فيه دول المتوسط فى تقديم ابتكاراتها فى تقديم الباذنجان فى وجبات تثير الشهية والخيال، إن التفكير خارج الصندوق قد يولد أفكارًا تقرب بين الشعوب وتبحث على الحث على المصالح المشتركة فى كل المجالات.
إن إقامة دورة ألعاب البحر المتوسط بدءًا من مدينة الإسكندرية مثل حدثًا دشن رؤية مصر لعلاقتها مع هذا البحر ودوله، لكن بات من المهم الآن إقامة مهرجان تراث وفلكلور البحر المتوسط مرة كل ٣ سنوات فى مدينة من مدن البحر المتوسط، يتضمن الفنون وحتى تراث الطعام، فمطبخ المتوسط هو الأغنى والأكثر تنوعًا وأصالة.

معلومات عن الكاتب 
د.خالد عزب.. باحث متخصص فى التراث، شغل منصب رئيس قطاع المشروعات الخاصة فى مكتبة الإسكندرية، عضو المجلس الدولى للمتاحف، صدر له 50 كتابًا، عضو فى عدد من الجمعيات العلمية. حاضر فى جامعات طوكيو أكسفورد وليبزج وغيرها.. يبحر معنا فى عالم البحر المتوسط وما يعنيه من تاريخ وحاضر ومستقبل أيضًا.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:

 

https://www.ledialogue.fr/