الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مفاتيحُ التعلُّمِ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ما الذى يحفزك على التعلّم؟ هذا السؤال طرحته صحيفة نيويورك تايمز الأسبوع الماضى على عينة من الطلاّب فى محاولة للتعرّفِ على اتجاهات تفكيرهم من أجل الاستفادة من إجاباتهم لتبنى المزيد من السياسات المُحفِّزة على التعليم. الدول الغربية تعانى من مشكلة انصراف الطلبة عن التعليم، لذلك يبحثون الآن عن كيفية إعادتهم للمقاعد وتحفيزهم للاستفادة. 

تم استلهام هذا السؤال من مقال رأى بقلم جوناثان ماليسيك بعنوان "مفتاح النجاح فى الكلية بسيط جدًا، ولم يُذكر أبدًا". يقول السيد مالسيك، الذى يدرّس الكتابة فى جامعة تكساس فى دالاس، إن هذا المفتاح هو "الرغبة والدافع البسيط فى التعلم". يتابع:"خلال أكثر من 20 عامًا فى التدريس بالجامعة، رأيت أن الطلابَ المنفتحين على المعرفة الجديدة سيتعلمون. الطلاب غير المنفتحين لن يفعلوا ذلك ". أردنا أن نعرف ما الذى دفع الطلاب للانفتاح على المعرفة الجديدة بينما غيرهم منصرفون عنها. قالوا إن المعلمين العظماء المُحفِّزون، والفصول التفاعلية، وتحديد أهدافهم الخاصة والاهتمام الحقيقى بمجال ما، كلها عوامل محفزة للغاية. وانتقدوا النظام المدرسى لكونه "يركز على النتيجة" ويسحق فضولهم باختبارات روتينية لا نهاية لها. 

من الإجابات التى توقفتُ عندها عند قراءة الموضوع ودفعتنى لكتابة هذا المقال تلك التى ذكرتها إحدى الطالبات،عندما أشارت إلى أنّ المعلمين هم الذين يلهمون حب التعلم لطلاّبهم، وكانوا بمثابة المفتاح للمعرفة بالنسبة لها. وتقول: "كان على البحث عن شخص ما لكى يعطينى ذلك المفتاح. اعتدت أن أكون من النوع الذى لم يرغب مطلقًا فى طرح الأسئلة خوفًا من ألا أبدو تلك "الفتاة الذكية" التى كان من المفترض أن أكونها. وظللت منعزلة على نفسى حتى أعطانى المعلم المفتاح وفتح أمامى فرصًا جديدةً لأصبحَ أكثر نجاحًا وأستمتع بالتعلم. أخبرنى هذا المعلم أن مجرد طرح سؤال لا يعنى "أنك غبيٌّ"، بل هو فى الواقع عكس ذلك تمامًا. وتعلمتُ منه، بعد أن زال الخوفُ، كيفية بلورة أسئلتى وصياغة نقاط جذابة تستحق أن تكون موضوعًا لأسئلتي".

وتضيف:"هذا جعلنى أكثرانخراطًا فى الفصل مع المادة، خاصة أن المعلم كان مستمتعًا حقًا بالمواد التى كان يدرسها، وانتقل الاستمتاع لى وللكثير من زملائي.. حتى فصل التاريخ الذى عادة من يثير ملل التلاميذ أصبح أكثر إثارة وجاذبية لأن معلمى يجعله ممتعًا من خلال إضافة عناصر تتعلق بالعصر الحديث وتوصيلها بطريقة أشبه بالمسرح التفاعلى له أبطاله النابضون بالحياة. منذ ذلك الحين حدثَ تغيير مفاجئ فى شخصيتي. طالبة أخرى ذكرت أنها اكتشفت "الرغبة فى التعلم" من خلال العزف على الآلات الموسيقية، وكيف أنها أحبت عزف الجيتار من أستاذ الموسيقى فى المدرسة الإعدادية والذى كوّن فرقة مدرسية تعزف خلال حفلات المدرسة. وكان تعلمها للعزف فى البداية كهروب من بقية الموّاد؛ ولكن عندما تحسنت فيه أصبح لديها دافع للتحسن فى بقية المواد وبشكل أسرع من أى وقت مضى. وذكر طالب آخر أن الحماس للتعليم بدأ فى نادى الفلك الذى أنشأه أستاذ العلوم فى الصف الثانى الإعدادى، وهذا خلق استمتاعًا لايوصف للتعرف على كل الأشياء فى الفضاء، بما فى ذلك أنواع النجوم، وكيف تشكلت الكواكب والكون. وهذا فتحَ أيضًا أمامه أبواب المستقبل للتخصص فى علوم الفضاء. 

ألتقطُ عدة أفكار من هذه المناقشة، منها الاستمتاع والحماس وطرد الخوف لطرح الأسئلة خلال التعلّم ومنها أيضا تعلّم العزف والفنون بشكل عام كطريقة للتحفيز على التحصيل العلمي؛ وهى أفكار عبقرية تلخّصُ حالة الكثير من التلاميذ والطلبة الذين يتميّزون ليس فقط فى نتيجتهم العلمية ولكنْ أيضًا من خلال نجاح عام فى الحياة والتواصل الإيجابى مع محيطهم. 

من منّا لا يتذكرُ مدرّسًا أثّرَ فيه وفى مسيرته الدراسية بل وفى حياته العملية؟! إن المعلومة التى رسخت فى الذهن طوال الحياة مصدرها مدرّسٌ كان يجيدُ فنون التواصل والبحث عن عناصر التحفيز حتى يحذبَ آذان الطلاّب وعقولهم ويحقِّقَ لديهم الاستمتاع، ومنه تدخل المعلومة فى سهولة ويسر. أين نحنُ الآنَ من ذلك المفتاح السحري- على حد وصف الطالبة- الذى يفتح الآفاق واسعة أمام الطالب فيحبُّ المعلّمَ ويستمتعُ بالتعليم! 

لقد ابتعدنا كثيرًا عن هذا "المفتاح" فى مدارسنا وجامعاتنا وأصبحَ التعليمُ واجبًا ثقيلًا يكرهه الطلاّبُ ومن قبلهم الأهالي. لم نعد نسمعُ عن شغف المعلِّمِ أو حتى ضميره، إلا نادرًا، وسرعان ما يتحوّلُ أى حديث عن هذه القضية إلى مناقشة ظروف المعلّمين ومرتباتهم المتدنية وكيف أنها تحول دون التجويد وتخرّبُ العملية التعليمية. وسرعان ما يعطى ذلك مبرّرًا للدروس الخصوصية التى نشأت فى دول كثيرة وترعرعت لتحسين مستوى المدرسين والأساتذة بدلًا من تحسين المستوى التعليمى للطلاّب!

إن المدرسة من المفروض أن تنمّى فضول الطلاب وتجعلهم يشعرون بالإثارة لاكتشاف شيء ما؛ لكن التعليم الآن فقد بصره أو زاغ عن هذا الهدف. ولا يمكن أن يعود البصر للتعليم بدون عيون متفتحة واعية للمعلّمين.. حتى نقول من جديد: "قم للمعلّم وأوفه التبجيلا..كاد المُعلّم أن يكون رسولا".